بقلم الشاعر كمال دريدي/تونس
يولد المبدع غريبا..قلقا..لا تستهويه الأشياء العاديّة..دائم البحث لا يحتويه المكان..والزّمان اهدافه بعيدة..
يولد..فتتنصّل منه الدنيا كما تتنصّل مومسا من رضيعها..الذى لاذنب له سوى وجوده رغما عنه نتاج.. علاقة..غير مشروعة بين الدنيا بكل مغرياتها..ونكباتها..وبين الواقع الجاثم..على صدرها..الخائف من المجهول تلهب ظهره سياط…التقاليد.والنمطيّة..والأعراف..المكذوبة
فيكون الجنين قد حمل مبكّرا كل دواعى القلق والحيرة..والبحث.
كذلك..« المعرى» فيلسوف فى حلية أديب، إذ انّ، الفلسفة كانت تعتبر زندقة فكانت كل كتاباته عقل وتفكّر…فيبسط المفاهيم الفلسفيّة..ويصوغهانثرا سرديّا هادفا ،ساخرا،لاذعا،مثاله، رسالة الغفران أو شعرا..نافذا..اللزوميات..ثم غربة فتجربة وجوديّة فهجر، فلزوم البيت..بعدظلم الأهل والمقرّبين «والنّخبة»..التى تعلم مدى فطنته..فتسحله خارج دائرتها .لكن ذلك الأعمى يرى بنور قلبه فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصّدور فيشع من وجدانه من عقله فكر وفلسفة.نهل منه ..الآخرون.الذين قطعوا مع هيمنة الكنيسة…وتدخلّها فى الشأن العلمى والإبداعي امّا نحن فلازلنا نبحث فى اشكالية وماهيّةالهويّة الى يوم الدّين
كذلك” التوحيدى” فى” الإمتاع والإشارات..”
حين يحدثك عن الغريب ..الذى كلّما اراد الوصول لمبتغاه قطعوا عنه الطرىق..
وكلّمااراد«الرياسة» واللفظ له وهو جدير بها احكموا الغلق عليه
يقول:
«فوالله لربّما صلّيت فى الجامع فلا أرى جنبي من يصلّي معي فإن اتّفق..فبقال ،او عصّار،او ندّاف..او قصّاب..»
دليل ساطع على غربة طبقيّة تلامس حتى دورالعبادة فالتوحيدي…لايتكبّر على هؤلاء..فهم من جاوروه فى الصفّ بينما غادر الآخرون..
ويقول:
«أمسيت غريب الحال..غريب اللفظ..غريب الخلق..مستأنسا بالوحشة..»
كل مظاهر الغربة اختلجته فيعبّرعنها بأسلوب بسيط كثيف المعنى غير غارق فى الرمزيّة، بجملة مركّبة فيها المجاز والقفلة حدّ الدهشة بقوله”مستأنسا بالوحشة..”يكفى بها شذرة وومضة..تنير دهاليز المعنى
ثم يبحر فى الشّعور بالألم..والمعاناة والتجربة الوجوديّة حتى يجعل الغريب وهو يقاسي ألم الوحشةوالغربة هو غريب وسط حاله تلك..
فيقول:
«الغريب من فى غربته غريب»
ومن امثال التوحيدى كثر
الم تسمع قول المتنبى
«..انا فى أمة تداركها الله غريب كصالح فى ثمود» هذا الذى أقام الدنيا.ولم يقعدها…
ان هؤلاءالغرباءواكثرهم تعساء..وفقراء إلا من خبر كيف يحصل على الجزرة وتعلّم أدب الكدية وقرأ “لمريم الصنّاع”فعرف السّبيل اليها وكيف يتقرّب من صاحبها..ويتودّد له..حتى اذ رضى عنه مولاه اعطاه الجزرة كما يعطيها للأرنب…وصار يأخذ منه جراءه كل شهر..وهذه علاقة اخرى بين بعض المثقفين والسّلطة..واصحاب المال..ليس هذا مقامه..
إذالقدخانتهم الدنيا فلم تتعهدهم وابتعد عنهم النّاس …
فترى هذا الشاعر او الكاتب او النّاقد حين يقع بصرك على حذاءه يستصرخك بكل قوّة ..
ويتأوّه لصاحبه…ويرجو ان ينزعه
ويحيله على التقاعد
ان المثقّف قبل الثورة وقع تدجينه..وتجفيف.موارده…إما ان يكون بوقا او ان يلقى به فى اتون التتبعات…والمحاصرة.والتضيق.حتى تستهويه الجزرة فيركض لها ركضا..
اما حاله بعد ماحصل فى البلاد فمختلف عن ماضيه
تنفّس الحريّة..حمل قلمه.فكتب وكتب. ..
لكن المعضلة ..ان حاله الماديّة ترثى لها الأرض والسماء،
اعرف الكثير منهم اصحاب فكر وفهم..وأنفة
شموع مضيئة..تنير الظلمة.”.يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف..تعرفهم بسيماهم لايسألون الناس الحاف”
ان هؤلاء القناديل لولم تهتمّ بهم الدولة والسلط المعنيّة لضاعوا وضاعت عنا ابداعاتهم
ولفعلوا مافعله« التوحيدى» حين ّاحسّ بالغبن والبون الشاسع بين فكر يكتبه وواقع يحياه أمر بإحراق كتبه ونفس التجربة نجدها.عند« كافكا»..الذى يعتبر رائد الرّواية فى العالم والذى تعلم منه «غابريال ماركز »وذهل حين قرأ له “المسخ..”والذى بلغت النسخ التى نشرت لمؤلفاته بالملايين طلب من صديقه فى وصيّته ان يتلف مؤلفاته
وهنا اشير الى الكاتب« باسم مرعبي».فى مقالة بتاريخ 3/11/2018 بالمنبر الثقافي «ضضة ثالثة» يتحدث فيها عن نقط التقاء بين التجربة الوجودية عند التوحيدي وكافكا..حيث يبين ان وصيتهما بحرق الكتب واتلافها هى احدى عناصر الالتقاء بينهما وغيرها كثير
سيقول أحدهم ان تلك البلاوي.والخصاصة هى أصل الإبداع وجذوة ناره..وان تلك المأسي..تصنع المفكر والأديب(.الادب مأساةاولايكون) المسعدى..
هذا فكر نمطى..تعودناعليه..لااتحدث هنا عن الأدب فهو عصارة كلّ الحياة بتجاربها أتحدّث عن الشّخص عن الذّات عن الروح عن حاجيتها المفقودة..
لقد عرفت العديد منهم..ينهشهم المرض..والخصاصة..والحرمان
نأخذ فلذاة افكارهم..فنتنوّر بها ونتركهم في ظلمات الفقر والحرمان
ان الكثير منهم يعانى ازمة نفسية واكتآب خطير يؤدى الى تفضيل الموت على الحياة المهينة..انهم فى غربة..
على الدولة والسلط المعنيّة ان تهتم بهم فى حياتهم قبل مماتهم.«.عاش يتمنى فى عنبة مات جابولو عنقود»
والا فإن الطامة كبرى..
فهل كتب على المبدع ان يعيش غريبا..ويموت فقيرا ؟؟