الناقد والباحث المغربي عبد الله شبلي
لن يرتدع الظافر بجسد ممتلك ، الجسد – المتعة ، ولكنه سيواصل رغبة دفينة في الحيازة والاشتهاء ، فمادامت الرجولة غير متحققة منطلقا ، فإن الذكورة ستتناسل مسيطرة على المحكي ، فهاهو ” الأب ” يتنكر لدوره الروحي والمعنوي ، مقابل إفراط في الدور البيولوجي المتماهي مع ما هو حيواني صرف ، يدفعه إلى أن يلهث خلف سعار المال وتجميع المتاع ، بغض النظر عن شرعية تكديس ، أو كيفية تحصيل ، هنا بالضبط يتحصل المأرب والمحور ” اختفاء الميسم الانساني ” .تختفي المشاعر ، تندثر وتتلاشى إلى حيث العتمة والنسيان ، لتنشأ ” حنان ” التي لا تحمل من الإسم إلا رسمه هجينة ، حينما غرست متكاملة جسدا ، غضة ناضجة ، مشتهاة طرية ، يراها الذكر هكذا ، غاوية مستعذبة حلوة ، تؤكل على عجل ، في نهاية زقاق ، أو بعد جولة في سيارة *8″ وفي لحظة عرج إلى أزقة ضيقة ، إلتفت يمنة ويسرة ، ركن سيارته للحظات وهو يلثم شفتي بوهج حرارة أفقدتهما برودتهما المنعشة ” ، أو تزدرد فوق أسرة عفنة ، وهي تمشي على أربع في شذوذ ، فصله الذكور – لا الرجال – على مقاسهم البهيمي *9 ” ورحت اتخلص من ملابسي بلا وعي ، جردني من كل قطعة ، وجعلني أربض ككلب على ركبتي ومرفقي ” .
لن تكون المرأة – والحالة هذه – إلا وسيلة لغاية كبرى ، تطفئ غريزة دنيئة تعمر أنانية الرجل الجوفاء ، تملأ مساحات نقصه المتراكمة ، ولعلها أيضاً ترياقا سرابيا لعقده التي عمرت فيه طويلا ، بدعوى توارثها من أنثى أخرى أكثر استلابا وفقدا. هذا لتجعله الأنثى البديل المفترض – المرفوض ، في زعم ، يبدو كاملا مكتملا ، وهو ينتزع منها أغلى ما تملك. فتغدو سلعة تلهية ، أو دمية تسلية ، تنتهي بمجرد الاستهلاك *10. يفعل الآخر ذلك منتشيا تحت رعشة عابرة ، يسرق قلبا نابضا ، يحتل مشاعر أنثى بكلمة معسولة محفوظة ، بوعد كاذب ، وقد يفعل ذلك بميثاق جعله المتسيد هواء وخواء بعد أن فرضه السيد ميثاقا غليظا *11.
يحضر الإستغلال هنا مزدوجا ، مادي له وجهان : استغلال الجسد المشتهى المفصل على المقاس ، بشفة كرزية مستعذبة لثما. واستغلال المنتج ولعله المردودية ، غلة المرأة أيضاً وما تجنيه من عرق الجبين ، وكد السنين ، هو مطلوب كذلك ليزيد من قتامة الصورة وتعاظم السيطرة الذكورية ، في عالم شرقي صنعه ما يسمى ب ”
الرجل ” حيث أريد لهذا الكائن الأنثوي الهش أن يعيش مستلبا ومسليا ومستغلا إلى أبعد حدود. دون أي إحساس بالذنب بل وكأن ذلك يمارس تقليدا وتقليديا ، تقعيدا وتوارثا. في مجتمع صارت هذه سمته ووسمته.
هذا ” الاستغلال ” انما يزيد من حدته عند ” امرأة بوغازي التي عاشت على قيد سراب كما عاشت على قيد النشر أيضاً قصدا وقسرا ” ، أنه مورس هنا رديفا لعشق مصطنع ، حب ورقي لامرأة من لحم ودم ، إما لتؤكل عرفا بحب أعمى لا علاقة له بواقع مهزوم مأزوم. أو بحب قد يأتي بصيغة المخالفة لكنها مشاكلة ، ملونا ورديا بقلوب مثيرة منمقة على مقاس ومذاق افتراضي عبر وسائط التواصل الاجتماعي ، التي كرست التفكك الفردي والجماعي لقيم الدين ومراجع الهويات.
2 . شخصية “منصف ” بين استنبات الخيانة وتوريث الحقد والعقد :
لقد تعددت خيبات ” حنان ” و ” راوية ” ، هذا التعدد كأنه تناسل رحمي للمأساة يتطور مع مجيء البنت أيضا ، مما يشي بتعدد خيبات الأنثى في المجتمع الجزائري خصوصا والعربي عموما .
نجد الكاتب يحسن هذه الخلطة في خبطة فريدة في السرد الاستباقي المبني على وتيرة استمرار الحزن العميق مع إلباسه لبوس التعدد .
وهنا نحيل رأساً إلى تحكم العقلية نفسها في الآخر – الذكر ، ممثلا في منصف الزوج الأول لحنان ، وكذلك في الزوج الثاني الذي شكل البديل – الصدمة ، ثم الترياق – الإنكسار ، أيضا في سبق سردي ، أراه شخصيا ” بوغازيا ” بامتياز .
ولعل من تمظهرات ذلك في الرواية اختلاط فريد من نوعه ل ” النفسي “ب ” التربوي ” في شخص ” منصف ” ، هذه الشخصية حاملة لواء العلم والتنوير، والتي كان من المفروض فيها أن تشكل أنموذجا في صناعة الأجيال ، وقدوة استثمار في العقول والمراقي . غيرأن العكس هو الحاصل في الرواية، فمنصف هذا لم يكن قادراً حتى على إنصاف نفسه مما علق بها من ركام عفن ماض ، قدر للمرأة فيه أو أريد لها أن تكون خائنة ، لن يكون أبداً قادراً على إعطاء ” القدوة ” زوجاً كان أو مربيا أو مكونا ، وهنا يحضر التخريب الثلاثي المتعدد : تخريب المرأة ، باعتبارها نصف مجتمع / تخريب المربي باعتباره ناقلا للقيم والمعارف / تخريب الأبوة باعتبارها مشتلا للتوازن النفسي والاجتماعي .
وهذا ما استطاع أن يجمعه الكاتب في شخصية واحدة بأدوار متعددة ، ولها امتدادات وجسور تتحكم في مداخل هي عماد كل مجتمع ، ” المدرس ” ” الأم ” ” العالم ” ، وحين يتم تخريب هذه الأثافي الثلاث وإتلافها ، لن ينضج في قدور المجتمع إلا ” الجهل ” الرذيلة ” و ” الخيانة ” ، وهذه اللاقيم هي التي تسيدت في الرواية ، وواصلت التسيد دلالة على استمرار الحال ، في غير توقع من القارئ المتلقي مهما كان حذقا حصيفا، وهذا الديدن هو الذي كسر أفق الانتظار وحقق ” الصدمة السردية ” .
فهاهو البديل المفترض يحضر أشد قساوة وأكثر استغلالا ، وإن بدا أشد وسامة ، ليزيد من هذه الكرة النارية السردية اشتعالا ، ويجعلها تتعاظم في مأساة هرمية فريدة بنيت حجرا حجرا لا شبيه لها إلا هنا ، في إحالة على تعالق الإجتماعي بالتكنولوجي ، وانفتاح مجتمع التقليد والتخلف على مجتمع التقنيات ، وهو ليس لها أهلا ، فسار ” الإنساني ” لقمة تزدرد على مكث ، لم تشفع له الثقافة ولا الوعي ، ولا شكل له العلم سلاحا ، أما ” الأمي ” ذاك المسكوت عنه في ثنايا “المروي”، فهو في حالة ضياع لا تقارن.
وإذ تنهار القيم مع هذا القادم الجديد ، بعد أن صار وسيلة كذب وادعاء واسترزاق واستغلال ، يتغذى على نكبات وفضائح ومصائر العباد ، فضاعت معه عشرات الأسر وسط أمواج متلاطمة لم تجد فيها داعما مسندا ولا حاميا منجيا.
وحين يأتي الاستغلال بغصة تربوية نفسية في عدة الرواية ، يأبى حقا أن ينجب جيلا متوازنا ، منصفا لنفسه ، منصفا لتلامذته ومجايليه ، يستعظم منسوبه