بشرى عبدالمومني / مديرة مجلة بلا أسوار
في زمن كورونا رواياتي حلم .. أبطالها عرابدة كثر .. هم ليسوا من المبشرين بجنتي .. لا أحذوا حذوهم ولا أدخل نعيمي عربيدا.
فالعرابدة يحطمون الأسوار مثلي ولا أشبههم .. وجودهم ينزغ ذاكرتي .. يسرقون الأسماء والألقاب .. أخاف يوما أن يسرقوا أرحامنا وأحلام أجنتنا.
أعشق ابن السبيل، لا يشبههم .. هو من عوائل الدراويش، يطرق الباب على مهل، وجهه شديد الإشراق، منتعش المحيا، يشرب الماء على عجل ثم يرحل.
في زمن كورونا يحدثني صديقي باستمرار، يشكر الله بكرة وأصيلا، يحمده على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، يقول لولا نعمة الواتسآب والمسنجر لتجمد الدم في عروقنا ومتنا قهرا، هو يحدثني كثيرا عن الماء والخضرة وعطر عقيلته الوردة الفريدة من نوعها، “عطر مكونة”؛ عطر ما بعده عطر.
صديقي حواسه قوية، يحفظ بكل أمانة تقاسيم ملامح صديقاته، وأسماء عطورهن.. يعشق العطر الألماني Farin Eau de Cologne ؛ برعم صباح يوم ربيعي جميل بإيطاليا، ورائحة النرجس الجبلي والبرتقال بعد المطر بألمانيا.
كما يعشق Coco Chanel الفرنسي، عطر أجهده كخصر غجرية ترقص على أنغام الكمان، ولحظات الجنون التي تتراقص في مقلتيها.
صديقي لم ينس أبدا Floral Kiss الكندي، عطر يمتد في الذاكرة، يرتشفه نبيذا كأغنيات السكون والرقرقة على ضفاف بحيرة الزمرد (Emeral Lake).
صديقي يحب كل منسكب كما يحب السفر، يكره المياه الراكدة كما يكره كورونا. فكل منسكب بين الشفاه وحول العيون يطيب.
صديقي لا يشبه ابن السبيل، هو يشرب الماء على مهل ولا يرحل.
على جدار الواتسآب والماسنجر قلوب حمراء .. خضراء .. ورود جميلة .. وجوه صغيرة معبرة .. هي تعابير تسعفنا، تشبعنا عذب الغزل، فيسري الحب في عروقنا ولا ينقطع الوصال. الحب كالماء يجعل كل شيء حيا.
في الحجر الصحي نلمس الشيء غائبا، وللشوارع عيون تبصرنا، والمقاهي تسافر إلينا، وحتى المواعيد التي خلت تعود لتملأ الكراسي الفارغة.
في شريعة الحجر الصحي يقول صديقي: ترفع الأقلام عن المنمنمات وتعمى عنها أبصار النقاد فلا حرج على المستعينين بها.
دون سابق إنذار يفتح صديقي الكاميرا.. فكرة مجنونة كمعظم الأفكار التي تعتريه من حين لآخر. بيده فنجان قهوة وباليد الأخرى السيجار الكوبي الفاخر وكأنه الشاعر الألماني “جونتر جراس وهو يقرأ قصيدته الشهيرة ” ما يتحتم قوله “.
صديقي يضحك ويقول:
قبلت التحدي يا صديقتي !
ألم أقل لك أن الحجر الصحي لا يقتلنا، نحن قناديل مضيئة لا يخبو لها بريق.
ها أنا الآن معك، ولتعذرني أمة الفيس بوك إن غبت عنهم قليلا.
جدران لطالما تحملنا إلى عالم الشعر والنظم والسرد وإلى غرفة صديقات أجمل العمر.
صديقي لم يكن حزينا بقدر ما كان وسيما، شاعرا متمردا، يعشق القصيدة. بصوت عذب يلقي قصائده، التي يحفظها عن ظهر قلب.. يغدو التواصل عفويا يشبهنا، نخلق شيئا صافيا وواضحا، حديثا تختفي فيه الفواصل والنقاط، نبسطه كل البسط، حديثا بعدد أزقة المدن والقصائد التي تعود إلينا، قصائد نهش بها أسوار رأسينا والحروف المتشابهة، كما نهش بها الصمت بكل أوجاعه والغياب الكثيف.
لم تعد النوافذ موصدة، هو حديث لنكون كل شيء، نرسم الخطوة ورقص الغجر، نؤرخ حكاياتنا العظيمة بعزم وعن قصد، وعند كل لقاء نجعل كورونا حدثا عابرا.
يقول صديقي: كورونا زمن قابل للتغيير، ستذوب مثل الجليد. تتلاشى وبوحشية، سلاسلها تهتز كما اهتزت سلاسل الشيطان في معزوفة “عندما يعزف الشيطان ” للمؤلف كارل أورف.
كورووووووووونا لا شيء يا صديقتي، هي مصير ضدها.