بقلم الأستاذة ريم البياتي/تونس
عندما قرأت منشور الأستاذ شلال عنوز الذي يخبر به عن روايته/ وكر السلمان/ شدّني العنوان وأدركت بحدسي أنه عتبة عالية لبيت واسع الأرجاء. لكنني أعترف أن مابناه الأستاذ كان أكبر مما تصورت، كان بيتاً يتسع لمفرزات تاريخنا، وأزماتنا، وعوقنا الضارب الجذور. بناه شلال عنوز بلغة جميلة لم يستطع في أغلب فصول روايته أن يخرجها من عباءة الشعر، على الرغم من أنه بدا متمكنا من أسلوبه السردي
الوكر بيت العصفور، وبيت النسر أيضا، والمفارقة أنه بيت الذئب، لكن/ وكر السلمان/ كان بعيدا عن كل ماذكرت، كان وجراً لمسخٍ ولدته الحرب.
تبدأ الرواية في حافلة تقل ( نعمان)_الشخصية الرئيسيةفي الرواية_ صاحب الوكر ( الذي كان في رأسه مهرجانات من الرعب) إلى قضاء السلمان _ وأعتقد أن اختيار منطقة السلمان مسرحا لأحداث الرواية ليس عبثا، فهناك ( نقرة السلمان) السجن السيء الصيت الذي كان يحتجز فيه أصحاب الفكر والمناوئين للسلطات_
في تلك الحافلة يسترجع نعمان ماضيه وأمسه، ذكرياته وأهله و(نعمان) الذي سرقته وشوهته الحرب. حيث شوهت قدمه وسرقت (رجولته) مع أن الكلمة أشمل من فعل غريزي ولكنه الشرق الذي طمس المعالم، ومعها تبخرت أحلامه البسيطة في الزواج من حبببته ، وفي أطفال يحملون اسمه، وهو مانحرص عليه في الشرق لأنه يحقق لنا حلم المستحيل بالخلود بعد الموت، حتى ولو كان من خلال اسم في دفاتر الآخرين.
لم يتلّق ( نعمان) الذي انحدر من أسرة طيبة؛تربية تختلف عن أبناء جيله، بل على العكس من ذلك، كان والداه فاضلان ولم يبخلا عليه بالحب والرعاية، بل وزرعا في نفسه قيمهما الطيبة،
لكنها الحرب حينما توقد نارها نزوات الطغاة، ونُدفع إليها بأرواح خاوية، وسؤال كبير:
لماذا نحارب؟ ومن نحارب؟ ولأجل ماذا؟
الحروب العبثية التي ندخلها مجردين من أي هدف نبيل يملأ الروح ويجعلنا نتقبل خساراتنا ونعتبرها أوسمة شرف في مجتمع يقدس البطولات. لن تلد سوى المسوخ.
لقد أبدع الكاتب حينما رصد لنا حجم الدمار والتشوه الذي تلبس نعمان،فجعله يستدير..ليقتص من الأقربين، من حبيبته وأصدقائه، ويخوض صراعاً مريراً بين بقايا نعمان القديم وجبروت نعمان المسخ، يبلغ الصراع أشده حينما يستدرج خطيبته إلى الوكر ليقتلها، ويقف الجمال والقبح متقابلان ، الخير والشر، القانون والجريمة، لكن الخير والجمال لايهزمان وإن انتصر الباطل في جولة، تصفعه سناء وتتبرأ من حبه_ وهنا اشارة واضحة إلى نزع الشرعية عن نعمان بما يمثل،وتلك الفطور العفنة التي ستتكاثر في اثره بلبوس الدين، لكن جبّتها الحقيقية هي العمالة،
يقبض الكاتب على اللحظة، ويبدأ بتضييق الخناق على (نعمان) فالشعوب تظل حيّة وان نامت قليلا.
شلال عنوز برع في الإمساك بخيوط شخوص روايته، ورسم مصائرهم، رغم أنه جعل ألوانهم واحدة..الجمال والخير، باستثناء شخصيته الرئيسية، وصديقه محسن الذي وصفه بالطمع.
تبقى هناك شخصية القطة السوداء_ التي تذكره بعباءة أمه السوداء_ التي لحقت به حينما دفن والدته، وكانت تتمسح به وتنظر إليه نظرات ذات دلالة حينما يشرع في ارتكاب جرائمه كأنها تستعطفه وتحاول ثنيه عن ذلك.
أسئلة بحجم جراح أمة طرحها شلال عنوز في روايته:
هل اشتبهت علينا الخنادق؟
هل ضمير القاضي يقف عاجزا أمام نص قانون جامد، إذا حيكت الأدلة بنول طاغية ظالم؟
ماهو مصير آلاف المفقودين وأسرهم؟
و تردي القيم الأخلاقية في المجتمع بسبب ذلك، فالمرأة دائما ماتدفع ثمن حماقة الرجال، لأنها مكرهة أن تكون السلعة في بازارات الحروب
وقد صورها الكاتب هنا من خلال شخصية المرأة التي تبيع جسدها في الملهى، لتطعم أطفالها؟
الأزمات الاقتصادية، وكيف تحكم الحكومات قبضتها على كل شيء، سوق الشورجة الذي يصوره الكاتب مصنعا لاقتصاد البلاد، ويلقي الضوء على تعامل الحكومة مع رجاله عندما يعارضون مشيئتها، فبعضهم يقتل، وبعضهم يرغم على مغادرة البلد بحجة أنه من جنسية أخرى، يتركون ممتلكاتهم مرغمين، ليعودوا في أول فرصة ولو على دبابات الاحتلال.
وكر السلمان نزع القشرة عن ظهر تاريخنا؛ فبدا هلاما كالحلزون تذيبه دموعنا المالحة، وتنكشف سوءته عند أول ريح.
ما يحسب لشلال عنوز أنه استطاع أن يلقي نظرته من الأعلى، فجاءت شاملة للمشهد كله، وقف على الحياد من شخصياته، ولكنه لم يدع القارئ يقف على الحياد، مع أن ألوانه اقتصرت على الأبيض والأسود، لكنه استطاع أن يمزجها في بعض المشاهد ليخرج لنا ألوانا لم نتوقعها.
أستطيع الادعاء أني قارئة يقظة، لكنه غافلني وأسدل الستارة على نهاية لم أتوقعها، فقد كنت أنتظر له الموت أو السجن. إنما،انفجار ضخم هز وكر السلمان، وتناثرت أشلاؤه، لكن( الرعاة لمحوا شبحاً على اطراف المدينة، يركض صوب الصحراء، ولم يفقهوا سره، راح يختفي عن البصر وتلاشى بين الكثبان)
أجزم أنه سيظهر ثانية، نعمان بما يمثل لم يختف من مجتمعاتنا، فمازلنا نصوب رماحنا إلى صدورنا.