الأستاذ: موسى الشامي – الرئيس السابق للجمعية المغربية لحماية اللغة العربية .
من بين المقولات التي يعتبرها الغرب ثورية في اللسانيات الحديثة ما ذهب إليه ” دو سوسير”(و قبله عدد كبير من النحويين المسلمين)، من أن اللغة هي نتاج بشري، أي أنها من اختراع الإنسان وهو الذي يطورها، و بالتالي فإن كل أداة لغوية هي انعكاس للمجموعة البشرية التي تستعملها،فإذا كانت هذه المجموعة قوية اقتصاديا و وثقافيا، انعكست هذه القوة على اللغة، وإذا كانت ضعيفة ظهرهذا الضعف في اللغة. وإذاً، فضعف لغة ما ناتجٌ عن الضعف الاقتصادي والثقافي لمجموع البشر الذين يتكلمونها ويستعملونها في حياتهم. وهكذا يمكن القول إن أصل الداء في لغة لا ترقى إلى التعبير عن مختلف العلوم و التقنيات لا يتعلق يها في حد ذاتها ،وهي براء مما قد يلصق بها من تهم الفاقة و العقم وعدم الصلاحية للتعبير عن المفاهيم العلمية و التقنية.
هناك عوامل لا علاقة لها مباشرة باللغة العربية الفصيحة حالت و تحول دون تأدية هذه الأخيرة لدورها الكامل في الحياة المجتمعية عبر مختلف الأقطار العربية.ومن هذه العوامل :
1- الانتشار الواسع للأمية، بشكل مريع و مرعب، بين أبناء العالم العربي. فهذه الآفة الخطيرة و القاتلة لا تساعد اللغة العربية الفصيحة على أي تقدم وتنعكس آثارها سلبا عليها. فكيف نريد للغة أن تتقدم وجل أبنائها أميون، لا قراءة ولا كتابة ولاحديث بها لديهم؟ كيف يمكن للغة العربية الفصيحة أن تكون أداة علمية وتقنية في وسط ضعيف وفقير ثقافيا واقتصاديا تسود فيه الجهالة و الأمية؟ ويتحمل تبعات هذه الآفة المدمرة المجتمع السياسي في البلاد العربية.
2- النسبة الكبيرة للنخبة المثقفة باللغات الأجنبية، في الوطن العربي، وهذه النخبة لا تستطيع، إما لجهلها للغة العربية الفصيحة أو لقصورها فيها أو لعدائها لها، أن تفيدها في شيء. وغالبا ما نجد أنها هي المسؤولة عن تدبير الشؤون السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في البلاد العربية، وهي تقود هذا التدبير بمنظور يتحكم فيه إلمامها باللغات الأجنبية وتأثرها البالغ حد الاستلاب بها.
3- انعدام تداول اللغة العربية الفصيحة في المجتمعات العربية كلغة تخاطب يومية و انحصارها في بعض المجالات كلغة تحريرية، وهو عامل إذا كان لم يستطع أن يميتها ويحنطها، فهو قد ساعد على تهميشها ومنعها من احتلال المكان الجدير بها.
4- شساعة الرقعة الجغرافية التي تنتشر فيها اللغة العربية الفصيحة، وقد خلق هذا الانتشار الواسع متاعب جمة في توحيد جهود العاملين على تنميتها، خصوصا في ميدان المصطلحات العلمية و التقنية، مما دفع ويدفع بمناوئي التعريب وأنصار التغريب إلى التشكيك في قدرتها على مسايرة الركب الحضاري الحديث وفي صلاحيتها للتعبير عن المفاهيم العلمية و التقنية الحديثة.
5-الدعاية المغرضة التي تقوم بها بعض الجهات لغرس في أذهان الناس أن اللغة العربية الفصيحة لغة قاصرة. ومن ذلك مثلا استعمال لفظة ” كلاسيك” أو “كلاسكل”عند الكلام عن العربية الفصيحة في الدول الغربية. هذا النعت غير اللائق يعني في ذهن مستعمليه ومروجيه انعدام الحيوية في اللغة العربية الفصيحة وعدم صلاحيتها لمواكبة علوم وتقنيات العصر الحديث. إن عربية اليوم ليست “كلاسيكية” بالمعني الذي يُعطى لهذه اللفظة،وهي لفظة ممقوتة ،لا بد من العمل على حذفها من الأفواه ومحاصرتها عند من يستعملها. وإذا كانت عربية اليوم ليست “كلاسيكية”، فهل هي قابلة للتعبير عن مفاهيم التكنولوجيا الحديثة؟ إن هذا السؤال الذي مللنا من طرحه يمكن أن يُطرح على الشكل التالي: “هل نحن، أصحاب العربية الفصيحة قادرون على استيعاب العلوم و التقنيات الحديثة و التعبير عنها بلغتنا أم هل نحن أغبياء إلى درجة أننا لا نستطيع ذلك”؟
هذه بعض العوامل الخارجة عن اللغة العربية الفصيحة لا تساعدها على خلق جو مُواتٍ لتقوم بدورها الإيجابي في الدفع بعجلة التطور و التقدم،وهي عوامل تحملنا إلى القول بأن اللغة العربية الفصيحة، في الوطن العربي، لايمكن أن تصبح لغة علمية إلا بقرارات سياسية واضحة وملزمة لصالحها، وبنهج سياسة ناجعة لتنمية الموارد البشرية ،وهو أمر
مناله ليس بالشيء السهل في ظروف عربية تتسم بهضم فظيع لكثير من الحقوق البسيطة التي يُحرم منها الإنسان العربي.
وتحمل اللغة العربية الفصيحة في طياتها أدوات ووسائل تكفل لها النمو المطرد وتجعلها قادرة على استيعاب جميع ما يمكن أن يبدعه الإنسان في حياته المادية و الفكرية، وذلك بإنشاء كل المصطلحات التي تحتاج إليها،ومن بين هذه الوسائل هناك الأوزان و الاشتقاق و النحت و المجاز و القياس والتعريب و التعجيم…،وهي أساليب استعملتها اللغة العربية الفصيحة قديما وتستعملها اليوم، ولكن اتساع جغرافية العالم العربي و اشتراكه في لغة منتشرة على مدى ملايين الكيلومترات المربعة أوقعتها في مشاكل عويصة،من بينها فوضى المصطلحات.
لتنسيق في المجال المصطلحي:فوضى المصطلحات و ضرورة ا
إن إحدى المشكلات التي تشتكي منها اللغة العربية الفصيحة اليوم ليست افتقارها للمصطلحات العلمية و التقنية،بل إن مشكلتها الكبرى هي الفوضى في إنشاء هذه المصطلحات، و بالخصوص لعدم تداول هذه المصطلحات بالكيفية الناجحة بسبب عدم تداول اللغة العربية الفصيحة شفهيا كما هو مطلوب من لغة حية.
ماذا يحدث اليوم على الصعيد العربي في قضية المصطلحات؟
إن كل دولة عربية تعمل على إحداث المصطلحات العلمية و التقنية بطريقة خاصة بها دون مراعاة كون اللغة العربية الفصيحة هي إرث مشترك بين جميع البلدان العربية. وهكذا تعمل كل دولة عربية على وضع مئات المصطلحات ليست هي بالضرورة ما وضعته دولة عربية أخرى للتعبير عن نفس المفاهيم. بهذه الطريقة، يتحول” إثراء” اللغة العربية الفصيحة إلى التشتت، ما يدفع بدعاة التغريب لتفضيل استعمال اللغة الأجنبية حفاظا، كما يدعون، على وحدة فكرية في العلم هي،في نظرهم، أولى بالاعتبار عندهم من استعمال اللغة العربية الفصيحة. لهذا السبب تعددت المصطلحات للدلالة على المفهوم الواحد بين قطر عربي و آخر. ويظل الأمر الذي يطرح نفسه في الساحة بإلحاح شديد هو توحيد و تعميم المصطلحات والعمل على تداولها بكيفية تجعل الجميع، في البلاد العربية كافة، متفقا عليها،مما يجعل التنسيق أمرا ضروريا في هذا المجال.
لابد إذاً من العمل على التنسيق في مجال المصطلحات، فكل تطوير يخص اللغة العربية الفصيحة لا بد للعرب من أن يجتمعوا له على فلسفة موحدة،لأن ذلك شرط من شروط الحفاظ على وحدة اللغة .
وتحتاج قضية توحيد المصطلحات إلى قرار سياسي ملزم لجميع الدول العربية بدون اعتبارٍ للمشاكل السياسية الموجودة بينها.وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكتب تنسيق التعريب في العالم العربي واع كل الوعي بهذا المشكل وهو يعمل بكل ما لديه من إمكانيات ،و بتنسيق مع المنظمة العربية للتربية و العلوم والثقافة، للحد من الفوضى المصطلحية و للحث على الاستعمال الإلزامي للمصطلحات الموحدة عبر أقطار العالم العربي. و هناك من الاختصاصيين من يعتقد أن تعدد المصطلحات للدلالة على المفهوم الواحد لا يجب أن يكون مصدر قلق كبير، فالمصطلحات لابد أنها ستغربل وسيظل في ساحة الاستعمال أوفقها وأصلحها. ولاشك أن هذا الرأي صائب إذا اعتبرنا أن المصطلحات لا تهم البنيات العميقة للغة ولكنها تمس الجانب المفتوح فيها وهو الجانب المعجمي.
حاجتنا إلى الإنتاج المعرفي.
إن عمود اللغة العلمية و التقنية الأساسي يتجلى في المصطلحات التي تبقى، بطبيعة اختصاصها،مجال استعمال ٍ لطبقة محدودة من الاختصاصيين. فكل فئة من العلماء لها معجمها الخاص بها، و العلماء المتخصصون،كل في ميدانه، هم الذين يصوغون المصطلحات بحسب الحاجة العلمية إليها،وليس مطلوبا من أي أحد من أبناء اللغة العربية الفصيحة أن يكون على معرفة بجميع معاجم الاختصاصيين. وهذا أمر ليس واردا على الإطلاق حتى عند مواطني البلاد المتقدمة، فليس لزاما أن يكون المرء ملما بجميع المصطلحات العلمية و التقنية على اختلافها،بل المطلوب هو أن يكون هناك لكل فئة من العلماء مصطلحات يشتغلون و ينتجون بها.
وإذا،فلغة العلم و التقنيات تنشأ وتتطور لأن من وراء كل فرع من فروع العلم و التقنيات يوجد مختصون يبحثون في ميدانهم،وعند كل اكتشاف جديد يقومون بإنشاء مصطلح للتعبير عنه. لذلك، فالمطلوب الآن، و بإلحاح في البلاد العربية، هو العمل على إنتاج المعرفة العلمية التي تنتج حتما بدورها المصطلحات المعبرة عن كل دقائق هذه المعرفة. ومن أجل تحقيق هذا المطلب وجب البدء بمحو الأمية في المجتمعات العربية و الكف عن تبذير الأموال العربية في التفاهات. فكم هو عدد العلماء الذين كان بإمكانهم أن يظهروا للوجود عندنا لو أعطيت لهم فرصة التثقيف و التعلم،ولكنهم ذهبوا ضحايا الأمية؟ فلا علم و لا معرفة علمية في مناخ تسود فيه الأمية و لا وجود للغة علمية في وسط تصر فيه النخبة السياسية للبلاد أن تقوده بلغة الغير. و الصراع قائم ومحتدم بين هذه النخبة المستلبة التي لا ترى إلا مصالحها وبين الواعيين للهوية الثقافية للوطن العربي.
جميع مرافق الحياة.ي ضرورة استعمال اللغة العربية ف
صحيح أن اللغة تحيا بالاستعمال ،الشفهي و التحرير معا، و في حالة اللغة العربية الفصيحة إذا ما عُقد العزم على تنميتها،فإنه من الواجب أن يتخاطب بها أبناؤها وأن يفرضوا على أنفسهم أن تكون كتاباتهم بواسطتها في جميع مرافق الحياة، وأن تكون هي لغة التدريس في كافة العلوم وعلى كل المستويات، ولا ينبغي أن يتوقف التعليم العلمي عند أبواب الجامعة ،بل إن مواصلة تدريس العلوم باللغة العربية الفصيحة في التعليم الجامعي هو المنجاة التي ستبطل الدعاوى التي تؤكد عجز اللغة العربية الفصيحة عن مواكبة علوم العصر و تنذرنا بأننا سنظل متخلفين عن العصر علميا و صناعيا إن نحن جازفنا بتعريب العلوم استجابة لعاطفة وطنية ساذجة لا مجال لها في عصر التكنولوجيا.
إن الاستمرار في الامتناع عن تعريب العلوم في المستوى الجامعي يخدم بالدرجة الأولى مصالح نخبة معينة في البلاد العربية،هذه النخبة المتشبعة بلغة الغرب والتي تعمل على توطيد هذه المصالح بحفاظها ورعايتها لهيمنة لغات الغرب في الوطن العربي. ولذلك فإن استصدار قرار سياسي على أعلى المستويات في موضوع استعمال العربية كلغة لتدريس المواد العلمية بالجامعات العربية أمر ضروري وذلك لوضع حد للتردد في تنفيذ هذا المبدأ الذي أصبح حاجة ملحة. و لا حاجة أن نكرر أن استعمال اللغة العربية الفصيحة في التعليم العلمي بالجامعات إنما هو وسيلة أكيدة للإبداع تكتسي أهمية بالغة جدا لأن الجامعات هي البيئة التي يمكن أن تعمل على تطوير اللغة العربية الفصيحة من خلال البحث المستمر و التأليف العلمي و الترجمة.
لتنمية اللغة العربية الفصيحة. و التقني الدور الريادي للتأليف و الترجمة في الميدان العلمي
إن المكتبة العربية تعاني نقصا كبيرا في مجال الترجمات و المراجع العلمية و التقنية التي تغطي جميع الحقول الأساسية في هذا الميدان، مما يجعل تدريس العديد من الموضوعات والتخصصات في هذه الحقول من المشكلات التي لا زالت صعبة التنفيذ. وحركة الترجمة العلمية و التقنية، في العالم العربي، تسير سيرا بطيئا لا يوازي التطور السريع للعلوم و التقنيات، وهو الشيء الذي يحول دون تزويد اللغة العربية الفصيحة بالكثير من المصطلحات.
وبتعريب المواد العلمية والتقنية على مستوى التعليم الجامعي، فإن حركة الترجمة ستشكل حلقة قوية في سلسلة الأعمال المتعلقة بسياسة التعريب. فالكل، نظرا لندرة المراجع، سينكب على الترجمة التي ستؤدي إلى ظهور جيل من الاختصاصيين في الترجمة العلمية و التقنية، الشيء الذي سيزود المؤسسات العلمية بالخبراء في الترجمة يكون باستطاعتهم أن يقدموا،في حقل اختصاصهم،دراسات عالية المستوى بمصطلحات عربية.
إننا لا نترجم الآن،في الميدان العلمي و التقني،لأننا ندرس و ندرس العلوم باللغات الأجنبية والأساتذة لا يرون الجاجة إلى الترجمة لأنهم يستعملون المراجع الأجنبية، والضرورة تستدعي أن تسخر قوى الجامعيين لنقل العلوم و المؤلفات النافعة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية الفصيحة ،كل في مجال اختصاصه،وذلك ضمانا للمواكبة العلمية.
وعلى مستوى آخر،لا بد من اعتبار التأليف و الترجمة ونشر البحوث العلمية باللغة العربية الفصيحة من مستلزمات الترقيات بالنسبة للأساتذة الجامعيين وذلك لتحفيزهم على إيلاء هذا الموضوع الأهلية اللازمة.
نستخلص مما سبق أن اللغة العربية الفصيحة قادرة على أن تكون لغة علم،فلها جميع الإمكانيات و المؤهلات للقيام بهذا الدور،وما ينقصها في الواقع هو إصدار القرارات السياسية الصارمة حول قضية التعريب وتطبيقها، فإصدار هذه القرارات والسهر على تطبيقها هو الخطوة الجريئة الأولى لمشوار طويل في رحلة التعريب الشاقة.
وقضية التعريب هي في الواقع قضية لا تقل أهمية عن قضية الدفاع عن الوطن، ولا بد من الإخلاص لهذه القضية لارتباطها المباشر بالسيادة الوطنية و بالوازع الديني للأمة. و تجب الإشارة هنا إلى أن تأصيل العلوم وانتشار المعارف في أمة من الأمم لا يكون إلا بلغتها، ولذلك فإن لحاق البلاد العربية بالحضارة العلمية المعاصرة و مشاركتها فيها يجب أن يبدأ باستخدام اللغة العربية الفصيحة في جميع مرافق الحياة. و بالنسبة للمغرب فأن قضية اللغة العربية الفصيحة هي قضية وطنية تهم جميع المغاربة الناطقين منهم بالدوارج العربية و بالأمازيغيات المختلفة، وتظل اللغة العربية الفصيحة هي الموحدة لنا جميعا. وقد أكدت بعض البحوث العلمية التي قام بها باحثون أمريكيون أن الصعوبة التي تعترض المغاربة الناطقين بالدوارج العربية المغربية تفوق بكثير الصعوبة التي تعترض الناطقين بالأمازيغيات المختلفة ،فكلنا سواء في هذا الهم الجميل، هم تعلم العربية الفصيحة الجامعة لنا جميعا، وهي لغة عالمية وعالمة لا يمكن لأي جاحد أن ينكر جاهزيتها الآن …
بعض المراجع
تمام حسن: “نحو تحقيق أفضل للجهود الرامية إلى تطوير العربية”-مجلة اللسان العربي- الرباط-.1974.
ساطع الحصري :”حول الاصطلاحات العلمية “-مجلة اللسان العربي- الجزء الأول- االرباط-1975.
عائشة عبد الرحمن:”اللغة العربية و علوم العصر”- مجلة اللسان العربي– المجلد 13-الرباط- 1976.
شكري فيصل :”قضايا اللغة العربية المعاصرة”- المجلة العربية للدراسات اللغوية- المجلد الثاني- العدد الأول-1983