ذ. الشاعرة و الناقدة شعر هدى كريد / تونس
جموح الشّهوة وإشراقات الرّوح
لم ينفلت نزار قباني عن إسار المرأة. كانت له البدء والمشتهى فهو شاعر النّهود والقدود. تغويه العيون والثّغر. يهيم بها وبحليّها ويغوص في مجاهل “كمّ الدنتيل والمايوه الأزرق وغلالة النّوم وطلاء الأظافر وحمّالة النهدين”. تفاصيل صغيرة يلتقطها فتنصهر في صور شعريّة تتعالى على المعقوليّة:
أكمامه عشب البحيرات
أزراره كقطيع نجمات
ليس أيسر عليه من أن يذوب فيها ويجوس في خارطة رحيبة يصنعها:
أنا نهداي في صدري
كعصفورين ماتا من الحرّ
يراها وليمة جنس ويقبل عليها إقبال منهوم وقد يخرج من تجربة الحسّ إلى إشراقات الرّوح. وهنا بأشواق المتصّوفة تتحّد بجنبه ويختبئ في معطفها. هي أناه.
إذ يقول في قصيدة “يدي”:
أصبحت جزءا من يدي
كأنّما في لحمها حفرت.. في أعصابها..
اعتصار في صميم الذّات وابتهال في حضرة توحّد. عشق لا ككلّ العشق وصوفيّة لا ككلّ الصّوفيّات في زمن لا ميقاتي وبانعتاق عن محدوديّة المكان. منها تنبع كينونته الفاعلة وفيها يتجذّر بلا انبتات. وللكتابة مآزقها وأوّلها عند نزار ذاك التقلّب. لا تعي إن كانت المرأة الأسمى أم في الدّرك الأسفل. فقد يخاطبها بعنجهيّة تحمل برأينا كلّ العقد النّفسيّة. بصورة ساديّة يسرد وقائع العشق:
فصّلت من جلد النّساء عباءة
وبنيت أهراما من الحلمات
هذا الشّاعر المعجب بنفسه لم تكفه صولات الجسد. فسمح لخياله أن يقتل المرأة قتلا رمزيّا كي يصنع مجده وفحولته التي لا تضاهى.
ففي قصيدة “إلاّ معي” احترف لغة الأصابع:
ستذكرين دائما أصابعي
فضاجعي من شئت أن تضاجعي
فلن تكوني امرأة
إلاّ معي
جدليّة الانتماء والانبتات فنّ للواقع أم فنّ للفنّ؟
حين تكمن فيه الرّغبة يتحوّل إلى مصلح اجتماعي ينقم على الرّجل الشرقي وينعت بالنّذالة من تخلّى عن حبيبته الحبلى. يلقّنها روح الثّورة.
ولنا أن نلتمس ملامح النّظام الاجتماعي في هذا الشّرق فالسّبي ظاهرة جاهليّة والتًكايا والبخور معطيات دينيّة. وبالتالي فنزار يريد من المرأة أن تثور على نظام عبودي ديني يرى في المرأة متعة .
وفيق خنسة، دراسات في الشعرالسّوري الحديث، ط2، الجزائر، دار الحقائق، ديوان المطبوعات الجامعيّة 1982
إنّ الشاعر المهموم بنفسه والموغل في عوالم الجسد والحليّ والتهويمات الصّوفيّة والكاره للالتزاميّة سخرة تقتل كلّ إبداع يكتب بلغة الفولاذ والنّار ويخرج عن الأبراج العاجيّة. فليس من الغريب في شعر جامح وشاعر متمرّد أن يرقى بالمرأة إلى مصاف الرّمز. وفي قصيدة “تريدين” مثلا تبدو النّصف الخصيب في عالم جديب. وأنّى للشّعر أن يثبت وأنّى لنا أن نركن إلى ثبات مع شاعر لم يستقرّ على هواية. أحبّ الموسيقى ثمّ هجرها كما تخلّى من قبل عن الرّسم ولم يستسغ رتابة الأشياء. وهو في نظر إيليا حاوي منعتق عن مسؤولية الفكر:
أين وجه الإنسان الحقيقيّ بين وجوه المساخر التي تطالعنا في مثل هذا الشّعر بل أين عصب الإنسان ونبضه تحت وطأة الوجود ؟
مجلة الآداب، بيروت س9ع7، تموز1961.
فلا يمكن لنا بحال من الأحوال أن ننفي هذا الانعتاق، وقد أثار استهجان شاعر مثل جبرا ابراهيم جبرا دهشة إزاء العناوين الجديدة كطفولة نهد والقائل:
ماهذا العبث الشّعري… كنت أرى الشعر غير ذلك قطعا.. كان عسيرا عليّ أن أستجيب أهل لي تفرّقوا وأرض سحبت من تحت قدمي وأصدقاء قتلوا برصاص العدوّ.
جبرا ابراهيم جبرا، كتاب الجوهر والنّار، دراسات في الشعر، ط3، بيروت، المؤسسة العربية للدّراسات والنشر 1982.
إلاّ أنّنا نملك إلاّ الاعتراف بالتزامه لمّا استفزّته أحوال العرب واستبداد حكّامهم وأنظمتهم الدّمويّة إذ يقول في “يوميّات سيّاف عربي”:
وأنا مخترع المشنقة الأولى
إنّهم قد علًموني أن أرى نفسي إلها
وأرى الشّعب من الشّرفة رملا
وتعدّ قصيدة “متى يعلنون وفاة العرب” من القصائد السّياسيّة التي تطفح مرارة قالها في السّنة التي توفّي فيها وكأنّها نعي لكلّ شيء وصوت يبشّر بعذاب أليم قدر أمّة استكانت:
أحاول منذ مدّة رسم بلاد
تسمّى مجازا بلاد العرب
بداية صادمة تنكأ كلّ الجروح فهل أسوأ من إبادة موجود وإنكار ما يقرّه العقل والحسّ معا. قصيدة برأينا من أجمل ما قال وأشدّ إيلاما من كلّ ما قاله عن خرقنا ونكباتنا.
قصيدة المعنى الجامع
بعيدا عن أيّ تتبّع للقصائد بمنطق الزّمن في كتابة يحكمها التمرّد والجنون والقلق. وباعتبار الشّعر عند نزار حركة انقلابيّة أولا تكون، يجدر بنا أن نبحث عن قصيدة المعنى الجامع وهي برأينا “الرّسم بالكلمات”. ولا تبدو كما يراها البعض حاملة لانحراف عقائدي أو استهتار بالخالق. وإنّما هي صور شعريّة تعكس كلّ تجارب الشّاعر ووقفة تأمّل في شعره بما هي نقد ذاتي وقد اقتنع شاعرنا أنّه خاو يقف على أطلال الكتابة والنّفس ويجعل من قصيدته هذه إطلالة على مدارات الفجيعة والقلق. ينسف تاريخا بأكمله. تعصف به المأساة فيهرب إلى الذّات في بحث عن سلام داخلي. هذه القصيدة هي النّهاية الفعليّة بمعزل عن منطق الزمن. هي لحظة السّقوط للشّاعر وشعره والإنسان بصورة عامة يبحث عمّا ينحت الكيان فلا يلقى إلاّ الزّيف. وإذا ما تتبّعنا إقراره بإفلاس الكتابة عن الجسد وفشل مشروع الخلاص انسقنا إلى تلك المراحل الموجودة في مسيرة أبطال الرّوايات الذّهنية كعمر الحمزاوي وأبي هريرة فلا الجسد يفي بمعنى الوجود ولا الرّوح تقدّم الإجابة الكافية عن سؤال الكينونة. والوحشة اختيار الشّاعر السّوري بعد الأنس علّه يعانق برد اليقين الذي به تثلج الصّدور:
اني كمصباح الطريق .. صديقتي
ابكي .. ولا احد يرى دمعاتي ..
الجنس كان مسكنا جربته
لم ينه احزاني ولاازماتي
والحب .. اصبح كله متشابها
كتشابه الاوراق في الغابات ..
انا عاجز عن عشق ايه نملة
او غيمة .. عن عشق اي حصاة
الحداثة بين الملحمة والسّقوط
إنّ الشّاعر في الحقيقة مسكون بداء النّرجسيّة تضخّمت أناه. ولكنّه لا يمكن أن ينكر إنسانيّته بما فيها من نقائص. ولا يمكن أن يكتفي بذاته. إذ عرّج على الواقع العربي منذ 1957 في قصيدة “خبز وحشيش وقمر” وتكرّس ولاؤه لهذا الانتماء بعد نكسة 67. واحتفى بقضايا الإنسان بألف ولام باحثا عن سؤال الكينونة وما يهدّدها من عراقيل الوجود. حتّى مسألة التّجديد في شعره نعزوها إلى عشق الذّات. لا يريد أن يكون نسخة “كربون” من أحد وآية ذلك هذه الأسطر الشعريّة المقتطفة من قصيدة “متى يعلنون وفاة العرب”:
أحاول منذ البدايات…
ألاّ أكون شبيها بأيّ أحد…
رفضت الكلام المعلّب دوما…
رفضت عبادة أيّ وثن.
والتّجربة الشّعريّة لا يمكن أن تعاد مرّتين. إنّه يهوى التّفرّد. والتغيير رغبة مشروعة. أفليس من خاض التّجارب ليفهم. يقول:
طفولتي كانت مليئة بالأشياء الغريبة. مرّة أشعلت النّار في ثيابى متعمّدا لأعرف سرّ النّار. ومرّة رميت نفسي من فوق سطح المنزل لأكتشف الشّعور بالسّقوط.
الدكتور عبد العزيز المقالح، من كتاب الشعر بين الرؤيا والتشكيل، الطبعة الأولى، بيروت، دار العودة، 1981
مثل هذا الشّاعر يمارس التّجربة في الحياة والشّعر كي يدرك الأسرار. غير أنّ زخم التّجارب في أصقاع الأرض في لندن واسبانيا وبيروت أخرجه شاء أم أبى من بوتقة الذّات. فمها بلغت فردانيّته يعود إلى الإنسان. كم عذّبته شهوة التّفوّق وهي تصطدم بجوهره الإنسانيّ النّاقص. فيضطرّ إلى الاتّحاد به ويغدو مرّة جمعا في صيغة مفرد وأخرى مفردا في صيغة جمع.
والكتابة شرعة الذات ونواميسها ممّا يفترض استبعاد الآراء الجاهزة والأشكال الفنّيّة المسبّقة. لأنّ الشعر أوّلا وأخيرا استجابة إلى الحاجيات الجماليّة والنّفسيّة. وهو عنده لا يخاطب النّخبة بل ينحدر إلى الجمهور “شعر حدائق عامّة” على حدّ تعبيره. دعا إلى قصيدة موجزة متخلّصة من شوائبها القديمة هاربة من كلّ “إرهاب” والعبارة له يكرّرها في الحديث عن معنى السّلطة السّياسيّة والأخلاقيّة. نراه يصرّح برغبة جارفة في “جلد السّين وسوف وتاء التأنيث البلهاء”. فهو الكاره لصحونا المقيت على معارك التلاحي بين الشّعراء وزيف نشوتنا في نكباتنا على وقع الفخريّات وأناشيد الحماسة. وفي إطار هذه التصوّرات ينوّع الموسيقى ويعصف بانتظارات القارئ فأيّ إحالة غزليّة يمكن أن يحملها عنوان مثل “يدي”؟ ليس مطلع غزل رغم أنّ المخاطبة أنثى. وليس تجربة حسّ لشاعر اعتاد لغة الأصابع. فاللاّزمة “أصبحت جزءا من يدي” جملة تخاطب كيانا أنثويّا عبر فعل صيرورة يؤذن بالتّحوّل، تحوّل أصاب الذات والمرأة ونظريّة الشعر. فلليد فعليّتها في عالم البلاغة استنادا إلى المجاز المرسل ولها بريقها في المدحيّة والفخريّة. منها تنبع الأفعال الحميدة والعطايا والقوّة. وإذا ما التحمت بها المرأة في عرف القصيدة صارت امتدادا لها. يعوّل في قصائده على إيقاع بصري حداثي: كلمات بين مدّ جزر وجدليّة بياض وسواد تتشكّل بمداد الكلمات ونجوم فاصلة. ففي قصيدة “اليوميّات السرّيّة لقصيدة عربيّة” والمأخوذة من المجموعة الشعريّة الموسومة بـ “تزوّجتك أيّتها الحرّيّة” 1988 نرى:
يا عندليب اللّيل
ياشاعرنا الكبير
***
٥
ونرفع الكؤوس نخب الشاعر الكبير
لا تعدّ هذه الهندسة البصريّة حلية تزويق وإنّما من رحم الدّلالة تتولّد كالتّعبير عن التّمزّق الذي تجسّده النّقاط الثّنائيّة:
أيا شهرزاد النّساء..
أنا عامل من دمشق.. فقير
والنّقاط الثّلاثيّة هي عادة الأقانيم الكبرى في القصيدة، تحيل في “طوق الياسمين” مثلا على المرأة والعاشق والطوق. قصيدة في ظاهرها تروي حكاية عشق حزينة. فيحتمل الياسمين رمزا مترعا بالدّلالة صورة العاشق الضّحيّة المداس تحت أقدام جموع الرّاقصين. وقد يحيل هذا الرّمز الطّبيعي على نقاء الرّجل الشّرقي حين يجابه بامرأة سكنها تحرّر الغرب وقيمه النّفعيّة. أمّا في الباطن فتتّسع صورة العاشق لتشمل الانسان وهو يتخبّط خبط عشواء داخل وجود شائك لا يفهم كنه الحياة ويعيش على وقع الوهم وزيف المعرفة.
وصيّاد الصّور التّائق إلى الرّسم بالكلمات يستدعي المراجع كي تنصهر داخل النّسيج الواحد، شفّافة لا تستعصي على فهم ولا تلغز على ذهن.
ولعلّ ما أرساه الشّاعر من توجّهات فنّيّة مخصوصة هو وليد القلق من سلطة النّموذج والقلق الوجودي يعتريه إذ لا يريد أن يمضي بلا أثر ينطبع به وجوده الفاعل ولا يروم الرّحيل إلاّ وقد استكنه الأسرار وشبع من كلّ غواية.
ولئن كان الجمال قيمة فرديّة عند نزار باعتباره المشتهى فلا نعلم مع كلّ قصيدة إلى أيّ منتهى نؤول. فقد نكون على تخوم الإنسانيّة. وقد ننحصر في قوقعة الذّات التي تستقطب العالم، كلّ الشّعر وكلّ الحياة أو يقودنا إلى العوالم التخييليّة التي تحملنا إليها الحركات الرّومنسيّة الحالمة والخلاص الطّوباوي مرّة في رحاب السّماء وأخرى في براءة الطّفولة وثالثة في مسارب الجسد أو جزئيّات الحليّ. وربّما نحطّ على أرض الضّياع، ضياعه وضياعنا على حدّ السّواء. وتلك القصيدة الأخيرة التي كتبها قبل وفاته هي آخر صوى الطّريق الشّائك. تنضح ألما ونواحا، مسارب ملعونة، كالسّقوط والشّتات والهروب والثّلج:
– 9 –
لم يبقَ شيءٌ في يدي.
كلُّ البُطولاتِ انتهت…
والعنترياتُ انتهت…
ومعاركُ الإعرابِ… والصرفِ… انتهت…
لا ياسمينُ الشام يعرفُني
ولا الأنهارُ. والصفصافُ… والأهدابُ… والخدُّ الأسيلُ…
وأنا أحدِّقُ في الفراغِ…
وفي يدَيكِ…
وفي أحاسيسي…
فيغمرُني الذُهولُ…
ولا نعتقد أنّها مخالفة “للرّسم بالكلمات” (1966)
كلّ ما في الأمر أنّها أكثر إيغالا في العجز وأكثر إيمانا بانهيار صرح الفعل. إفلاس للمشروع الوجودي النّزاري بل سقوط للكائن الإنساني قاطبة. لا ملذّات الحياة تغنيه ولا المجد المعنويّ يكفيه. عبث في عبث ودائرة سيزيفيّة مغلقة ذابت فيها الحدود بين الأضداد إذ يقول في قصيدته الأخيرة “رسالة من تحت التّراب” ويقال إنّه كتبها فوق علب الأدوية في المشفى وهو على سرير المرض:
يا صديقةُ: أين تبتدئ الدموعُ…
وأين يبتدئ النشيدُ؟
القطبيّة كما يرى “جبرا” متحكّمة في الإنتاج الأدبي. فهي قدر النّصوص. ولعلّها أجلى في شعر نزار بما هي جوهر الإبداع وماهية الإنسان المتأرجح على الدّوام بين الأضداد. ويبقى شعر اللّحظة الحارقة والتعبيرة المزدحمة بتفاصيل الذّات والمجتمع والقوميّة العربيّة والإنسان. صورة للحياة في مختلف التجلّيات. وبما أنّ الشّاعر يقرّ أنّ كلّ تفاصيل حياته معجونة بالشّعر فإنّ لا شيء ممّا قال يخرج عن ذاك “الأنا الغنائي” بصولاته وخيباته. يكمن فيه إلى حين ليسفر عن جوانب أخرى. هو ذاك المغامر أو المقامر يجوس في أحراش العالم، نرسيس أضناه عشق ذاته. فالمدن نساء والقصيدة معمار بيته الدّمشقيّ، ماء وضياء وخضرة وياسمين وجسده مرفأ أمان للمرأة أو معتقل يذيقها فيه شواظ الجحيم. وحبّه معارك أو تحالفات أمّا الوطن فجسد امرأة منهك والاستعمار انتهاك لحرمته باتّحاد الأرض والعرض. وجوهر الفنّ الانقلابي حمّال لحركة المعنى في دوران وحركة دؤوب. إنّه يشكّل نظرة إلى العالم خارج تباريح الفجيعة أو داخلها لكن من منظور الذّات في كلّ الأحوال.