الأديب واسيني الأعرج
موضوع أثير وتأملي لأنه يضعنا على حافة السؤال المرجعي والمتكرر: ما معنى النص العالمي؟ هل تخضع المسألة للذائقة العامة، أم لشروط خارج-نصية تدفع بنص معين إلى الواجهة دون غيره، الخصوص في عالم الرواية، جنس العصر بامتياز؟ بأي المقاييس الموضوعية تنتقل النصوص نحو هذا الحلم، حلم العالمية، الذي يبتغيه كل محترف للكتابة؟ قد يكون في الإجابة بعض التعقيد نظرا لكون المسألة لا تخضع لعقل تتأسس عليه، ولكن يمكننا أن نبسط الأمر قليلا ونقول: النص العالمي هو النص الذي حقق شيئا من الاتساع وأصبح جزءا من الذاكرة الإنسانية. اخترق الحدود بوسائطه الفنية الخاصة، واستقر نهائيا في عمق التفكير الإنساني ليصبح جزءا من ثقافته اليومية. بهذا المنطق لن تجد كل النصوص الناجحة مكانها في هذه الدائرة. تتفرد اربعة نصوص في ثقافتنا العربية عن غيرها لأنها إلى اليوم ما تزال تشكل جزءا مضيئا من الذاكرة الجمعية الإنسانية: القرآن الكريم الذي اخترق كل الحدود الوضعية ليستقر داخل وخارج أرض نشأته، وفصل المقال لابن رشد الذي ساهم في النقاش الإنساني الدائر حول دور الأديان وموقعها في تسيير المدينة La Cité، وألف ليلة وليلة التي صبغت مخيال العالم بقصصها، وإلى حد ما رسالة الغفران للمعري لأنها تختبئ في أعماق أهم مرجع ثقافي أوروبي: الكوميديا الإلهية لدانتي آليغري الذي وضع الثقافة الغربية في أفق الحداثة. هذه أهم النصوص التي أنجزتها العبقرية العربية ودخلت في النسيج الثقافي العالمي وساهمت في تحويله في العمق، فتخطت الحدود وأصبحت جزءا من الذاكرة الجمعية الحية. الأسباب مختلفة: القرآن احتل هذه الذاكرة وانتقل عبر العالم لقداسته أولا ولقوله الجديد وسط إنسانية غالبيتها من الفقراء والمحرومين كانوا في حاجة إلى نص ينصفهم ويرفع من شأنهم ويدافع عنهم. فعبر من خلال حروب طاحنة وفتوحات متوالية بلاد الهند والسند وآسيا وإفريقيا وجزيرة أيبيريا وجزءا مهما من أوروبا، أما نص فصل المقال فقد منح أوروبا الغارقة في تقديس الحروب الدينية ومحاربة العقل وسيلة للفصل بين فعل العقل المتحرر والكنيسة المنغلقة على مقولاتها المتكررة. أما بالنسبة لألف ليلة وليلة فالعكس هو الذي حدث، فقد دخل بسلاسة كما تفعل النصوص الإنسانية العظيمة، فحرر الذاكرة الجمعية من ظلامها وذعرها ووضعها أمام حرياتها الجسدية واللغوية وأعاد لها ألق الشوق الإنساني. أما رسالة الغفران فقد كانت وراء نهضة شعرية أوروبية أعادت للشعر الإنساني والأوروبي تحديدا ألقه وأخرجته من دائرة التكرار إذ لم تكن الكوميديا الإلهية من حيث بنيتها الداخلية إلا عودة إلى رسالة الغفران التي بنيت بدورها على رحلة الإسراء والمعراج النبوية. حققت هذه النصوص العربية عالميتها من علاقتها المتشابكة مع الفعل الإنساني الذي سدت أمامه نقصا معرفيا وإبداعيا محسوسا. قد يكون العامل الزمني مهما جدا في تحقيق هذه الغاية أو هذه النقلة باتجاه رحابة لا حدود لها. من هنا يتبدى بوضوح أن العالمية في هذا السياق، لا تصنعها دائما اللحظة الراهنة والحاضر المتغير باستمرار ولكنها ديمومة في الزمان والمكان وتستجيب لحاجة إنسانية حساسة. شكسبير دالة واضحة على ذلك. لم يكن شيئا يذكر في الزمن الذي عاشه مهمشا. فقد أهمل على مدار القرنين اللذين أعقبا وفاته، ولم يكن أحد ينشغل بقوة مسرحه التراجيدي. وانتظرت البشرية قرنين من الزمن قبل أن تضعه على رأس صناع التراجيدية الخالدين. فقد عبرت نتاجاته عن رؤية عالمية واسعة أعادت تشكيل المسرح من أساسه. هذا وحده كاف لأن يجعلنا نتأمل ما يحدث أمامنا من حركة وتموجات ترفع نصوصا إلى مصاف النصوص العالية وتنزل نصوصا عالية القيمة إلى حضيض التغاضي والنسيان. يجب أن يدفعنا ذلك إلى الكثير من التأمل والتريث. كل شيء يحمل في عمقه صيغة المؤقت والهش. العالمية مدار تاريخي وليست إطارا زمنيا ولا إرادة للبشر فيه مهما حاولوا وإلا لكانوا خلدوا كتاب الحواشي الضعيفة التي لا شيء يفرضها إلا قوة السلطان. إن ألف ليلة صارت جزءا من الذاكرة العالمية بفعل تأثير سحرها في الذاكرة الجمعية بالمعنى الإنساني الواسع عبر امتداد التاريخ وعبر فعل تلاقحي شرقي غربي معقد، إذ لا أحد عاقل ومتبصر يهمل ملمس أنطوان غالان Antoine Galland على الليالي. يبدو أننا اليوم بصدد عالمية مبتورة تحتاج بالفعل إلى تأمل حقيقي. جانبها الظالم لا يمكن نكرانه أبدا ولكني متأكد أنه مؤقت وليس كل ما تقذف به هذه العالمية صالح لأن يكون تاريخيا مهما ولا زمنيا. إن الذاكرة قاسية ويمكن أن تنساه بسرعة كبيرة لأنه في النهاية صناعة إعلامية وليس أدبية تعتمد على وسائلها الداخلية الخاصة. وإلا لماذا لم يلتفت نحو ساحة عربية شاسعة ثقافيا، كانت إلى وقت قريب منتجة للمعرفة وغنية بإسهاماتها، على الرغم من حالات الإحباط المتكرر، إلا بعد قرابة القرن من إنشاء جائزة نوبل مثلا؟ المتأمل للثمانين سنة السابقة لنجيب محفوظ يكتشف أن الإبداعية العربية لم تكن جافة ولا ميتة وأسهمت إلى حد بعيد في أنسنة مجتمعات حكمها مدة طويلة القهر العثماني، وقاتلت من أجل حداثة مستعصية وقاومت الاستعمارات المتتالية بجرأة وتضحيات كبيرة، من خلال نصوص إبداعية تشكل اليوم مراجع ثقافية متميزة وعظيمة.
ورب ضارة نافعة. جيد ألا تكون العالمية بهذا المعنى، في يد مجموعة بشرية بعينها ولكن في كف صيرورة تاريخية إنسانية في عمقها، أكثر تشابكا وتعقيدا وأكثر عدلا كذلك. لأنها لو كانت في يد مجموعة ستملي على القاريء والإنسان عموما، شروطها للعالمية. وهو للأسف ما تصنعه الوسائط الإعلامية الثقيلة. تصنع عالمية تحت الطلب، يتخفى وراءها جهاز شديد التعقيد لا يقع خارج الهيمنة الثقافية والإيديولوجيات.
وهذا يمكن اختباره بسهولة ميدانيا. فأمر الشهرة والعالمية لا يخضع دائما لمنطق عادل ومسبق، قد يلعب فيه الحظ والحسابات الخفية دورا كبيرا، قد تغيب عن الكاتب نفسه. ربما كان الأدب أكثر المناطق الأقل عدلا. عندما نتأمل المساحة الأدبية العالمية وتجلياتها نجد حتما ما يبرر ذلك بقوة. لدرجة أن نتساءل بعفوية القراء: هل النجاح الذي تحققه بعض النصوص الأدبية عالميا، والروائية بالخصوص، فعل مرتبط فقط وفقط، ببنيات النص الداخلية وجودة الكتابة وتميزها الاستثنائي؟ أي هل النجاح الأدبي في عمق فعل الكتابة، هو الذي يتخفى وراء الشيوع والنجاح، أم الامر يخضع لآلية أخرى وقد لا تكون لها علاقة أصلا بالأدب؟ وأن الأمر مرتبط بالنظام الإعلامي كجهاز طاغ ومهيمن يفبرك وفق شروط أيديولوجية يتحكم فيها راهن اللحظة السياسية، أكثر مما ينصت إلى الإرادات الإبداعية الخلاقة؟ لنأخذ مثالين لفهم الصورة كما تفرض علينا بقوة هذا السلطان الخفي: الأول من الغرب المتحكم في سلطان المعرفة في وقتنا الحاضر، والثاني من صلب أرضنا العربية الفاقدة للأسف، لزمام المبادرة. دان براون وعلاء الدين الأسواني. لقد بيع من رواية شيفرة دافانشي Da Vinci Code لدان براون مثلا أكثر من 50 مليون نسخة. رقم خيالي لم يسبق لأية رواية بالمعنى الكلاسيكي أن حققته، بما في ذلك الكتابات الحاصلة على جائزة نوبل مجتمعة، حتى حكايات هاري بوتر Harry Poter الشعبية التي بيع منها أكثر 300 مليون نسخة لم تحقق هذا الرقم إلا مجتمعة بأجزائها السبعة مما يجعل متوسط مبيعات كل جزء لا تتعدى أكثر من 45 مليون نسخة على الرغم من شعبيتها الشبانية وخضوعها لنظام قرائي ساندته السينيما بقوة. وإذن كيف صار نص دان براون نصا عالميا وتخطى الحواجز كلها في ظرف أقل من سنة على صدوره؟ يوجهنا النقد العالمي والعربي تحديدا إلى قوة النص الاستثنائية التي لا يراها إلا هو ويمجدها إلى أقصى الحدود، زارعا في ذوقنا شكا كبيرا، وينسى أنه،أي النقد العربي، تحول إلى حلقة صغيرة في مشروع أكبر منه. ننسى بموجب ذلك، أن هذا النص صاحبه من الدعاية ما حوله إلى ظاهرة نموذجية للقراءة وحتى نمطا حياتيا Un mode de vie إذ صار من المخجل في الدوائر نصف المثقفة والمهيمنة على المشهد الثقافي العربي، أن تقول أنك لم تقرأ Da Vinci code وأنك لا تعرف مغامرة روبر لونغدن الخارقة وقوة بصيرته وذكائه الكبير ولا متاعب وظروف اغتيال محافظ متحف اللوفر، جاك سونيير الذي كان يملك سر الشيفرة التي خطها بدمه قبل أن يندثر، ولا جنون الألبينوس الضخم سيلاس وجرائمه حفاظا على استمرار سر مريم المجدلية، ولا الفتاة الأنيقة الحاملة لكل الأسرار المبهمة صوفي نوفو من سلالة سيدنا المسيح السرية والمبهمة، وغيرهم ممن يؤثثون نقاشاتنا ومفاخرنا الثقافية؟ ما السحر في نص هو في النهاية، على الرغم من حنكته التقنية وغواياته العديدة، لا يتعدى أن يكون نصا بوليسيا بكل البهارات الضرورية التي يفترضها هذا النوع من الكتابة التي تقودنا في النهاية نحو فك العقدة؟ السؤال نفسه، وبقليل من التحفظ، ينسحب على عمارة يعقوبيان لعلاء الدين الأسواني. كيف خرج هذا النص من كومة النصوص التي صدرت في السنوات الأخيرة وتفرد عنها؟ ما هي الانزلاقات التي حدثت وفي أية لحظة حصلت لينسحب الكتاب من النظام الثقافي الكابي والمظلم، المهيمن على الكتاب العربي ويفرض نفسه على الواجهة الثقافية العربية والعالمية، فيباع بأعداد كبيرة عربيا، ويترجم إلى لغات متعددة، خصوصا الإنجليزية التي سوقته بشكل جيد في السوق العالمية والفرنسية ويباع من هذه الرواية أكثر من 200 ألف نسخة بحسب آخر الإحصائيات، وهي كمية أكثر من ممتازة إذا ما قيست بما يباع عالميا؟ لسنا هنا بصدد الحكم التقييمي على أعمال لم يعد المنطق السائد يشتغل فيها، ولكن محاولة فهم الظاهرة التي تتخفى وراء ما يسمى بالعالمية. كل ما قاله دان براون قاله نيكوس كزنزاكي قبل عشرا ت السنين في غواية المسيح الأخيرة وقاله بطريقة مماثلة من حيث البنية التاريخية البوليسية والتفاصيل، أمبرتو أيكو في روايته اسم الوردة، وما قاله علاء الدين الأسواني في روايته: عمارة يعقوبيان، قالته الرواية المصرية بامتياز مع محفوظ وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وغيرهم، قبل ذلك بعشرات السنين. هل هو جانب الرواية الشعبي أم الظرفية التي ترمي نحو الواجهة بنصوص وتطمس نصوصا أخرى؟ الشيء المؤكد والوحيد الذي لا يمكن أن نخطئ فيه، هو أن الأمر ههنا لا يتعلق بجودة كتابية ولكن بشيء آخر قد يكون الكاتب نفسه خارجه ولا يعرف صيرورته. القيمة التي يفرضها علينا الإعلام المهيمن ليست هي القيمة الإنسانية المتوخاة أبدا وهي عالمية اللحظة وليست عالمية الديمومة والبقاء كما كان الأمر دائما أمام الأعمال التي تؤثث اليوم ذاكرة كل واحد فينا. من الصعب تفادي السؤال الخفي: من يصنع الشهرة، النص أم الجهاز أو النظام المهمين بمعناه الأكثر شمولية؟ من المؤكد أن الذي فرض ليون تولستوي ككاتب عالمي ليس هو الجهاز ولكن الكتابة والكتابة وحدها. في سنة 1901 عندما اقترحت عليه جائزة نوبل في أول دورة لها قال رافضا المقترح: شكرا لكم وأرى من الأفضل أن تمنحوا كل هذا المال لناس القوقاز الفقراء الذين يموتون جوعا وبردا، فهم أولى بها. بلزاك في كومدياه الإنسانية، زولا في سيرة عائلة رجون مكار Les Rougons Macquards، وفلوبر وشارل ديكنز وشكسبير وت.س إليوت، نيتشه، سرفانتس، مارسيل بروست وجيمس جويس والمعري وألف ليلة وليلة وهنري ميلر وابن طفيل ، ونجيب محفوظ، وغيرهم، لم يفرضهم الجهاز. سلطان هؤلاء الأدبي كان أكبر من الجهاز، وعبرَتْ نصوصهم الذاكرة الجمعية لتتحول إلى مكون من مكونات الذاكرة الإنسانية. هل منعت محاكم التفتيش المقدس والإسلام المتطرف والتوراتية القديمة، جنون سرفانتس من التجلي؟ وعقلانية ابن رشد من المرور عبر كل الحواجز المنصوبة والانتشار عبر العالم؟ ومحفوظ من اختراق حائط التنضيدات المسبقة، التي تضع العربي دوما في خانة اللاعقل والتخلف والحقد التاريخي ضد الحداثة والتطور؟