بقلم الشاعرة والكاتبة أ. لطيفة الغراس/مكناس
من سنوات الماضي الجميل بمكناس،عادت لي ذكريات تؤكد أن الحضارة سلوك وقيم وليس مظاهر تردنا للطبيعة البهيمية.
عندما كنت أعطي دروسا في اللهجة الدارجة لبعض الفرنسيين بمكناس،كانت من بينهم طبيبة مختصة في الأمراض الصدرية وهي فرنسية تقيم بالمغرب،ومعها أستاذة لمادة الكيمياء في ثانوية تديرها الراهبات( نوتردام)، وسألت الطبيبة( الدكتور را بمستشفى سيدي سعيد) لماذا الدارجة وليس الفصحى؟ فقالت: لأحسن التواصل مع المرضى،فقد شعرت بعدم أمانة بعض الممرضات،في نقل أقوال المرضى!
هذا سلوك حضاري فعلي وليس ظاهره الجنة وباطنه الكفر والغش وخيانة الأمانة.
كنت أتحدث مع تلميذة فرنسية تدرس في تلك المؤسسة حول المناهج والبرامج التعليمية وعلمت منها أن بالبرنامج الأسبوعي حصة السلوك،بما فيها طريقة المشي والأكل والحديث،وهذا كله في السنة النبوية!!
الحضارة قيم وسلوك وليس أقنعة ومعها الغش والتدليس..
تعلمنا قواعد ترشدنا ولا أعتبر هذا من القيود التي تعلمنا رفضها بسياسات إشهارية تدجن الإنسان!
أنظر هذا الصباح من شرفة بيتي بمصطاف سيدي رحال،وأرى معالم الثراء واختيال الأغنياء ومن من الله عليهم بالنعم وحرمهم من الوعي! رأيت فتاة في سن المراهقة قادمة لتسبح وعلى وجهها في التاسعة صباحا أصباغا وكنا قد تعلمنا أن الماكياج ليس للشابات الصغيرات أولا فجمال الشباب أفضل، وتانيا لا صباغة عند السباحة،تعلمنا ان لباس العمل ليس هو لباس الرياضة ولا هو لباس السهرات ولا هو لباس النزهة،وبدأنا نرى في الحضارة الجديدة في الشاطئ تتدلى من الأعناق السلاسل الذهبية والأقراط المرصعة وكأننا في استعراض للممتلكات،تجار الإشهار درسوا أحوال الناس ودرسوا توجهاتهم في سباق نحو التحرر من القيود فدُجِّن الناس لتنجح تجارتهم وتغيرت سياسة دور الأزياء لتشمل الفئات العريضة من الشرائح الاجتماعية،صادفت هوى في النفوس للتحرر من قيود مجتمعية،هي ثورة امتدت وتجاوزت الحدود لترفض حتى القيم وقواعد السلوك،كل السلوكات أصبحت مقبولة فالعين تألف الجميل والقبيح! أصبحنا نرى في الأسواق من يخرج بثياب النوم وهذا لا علاقة له بالتحرر،فلا أحد يرغب في استنشاق رائحة النوم !
بدأ الاتجار بالدين وظهرت متاجر عديدة استفادت من هذا التوجه،بدأنا نرى تلفا في الذوق وجمال التنسيق ونرى أصباغ البهلوان على الوجوه في الثامنة صباحا…
اختلطت الأمور لأن التكنولوجيا تفتح العيون الجاهلة على عوالم كثيرة متطرفة،وتقلص عدد العيون الواعية المدركة لعمق درجة الانحطاط الفكري والتبعية العمياء.
حرية نتصور أننا نتحكم فيها وهي حرية مسيرة بغاية تحقيق نظرية القطيع.
تذكرت أحد أفلام أنطوني كوين وقد قدم شخصية بوبولينا في نقد لاذع ضمني ..
هل هذه هي حضارة الإنسان اليوم؟ التقتيل والتدمير والعهارة الفكرية ضد الإنسانية،من أجل السيطرة والزعامات على اختلاف غاياتها ووسئلها؟
هل كل ما عشناه هو التخلف؟
كيف نستفيد من الثورة الرقمية والتكنولوجيا لصالح الإنسان؟
ولكل مقام مقال…