بقلم الروائية د. سعاد فقي بوصرصار
أعياني البحث ولم أجد وجها للمقارنة بين برّ اسماعيل لأبيه وبرّ الأبناء بالآباء في أيامنا هذه.
لا يعني أن العقوق فاش في أبنائنا و لكن أن يصل الأمر بالابن إلى أن يوافق على ذبحه اذ يقول لأبيه الذي يطلب منه أن يذبحه تصديقا لرؤيا “يا أبت افعل ما تؤمر “يقول هذا بلا خوف ولا تردد ولا تمسك بحقه في الحياة ,ثم ليس هذا فقط بل يحاول أن يخفف عن أبيه هول الأمر فيضيف :”ستجدني ان شاء الله من الصابرين .”
هذا السلوك بقوانين أهل الأرض غريب ولا يمكن أن يصدر إلا عن الأنبياء .
وفعلا فاسماعيل نبي ابن ابراهيم النبي.
أطفال اليوم وهم في عمر اسماعيل, متمردون على الآباء, فطاعتهم لآبائهم إما لخوف من العقاب أو رهبة من حزم الآباء أو رغبة في نيل الهدايا والجوائز.
فالعلاقة بين الآباء والأبناء اليوم قائمة على مبدإ الترغيب والترهيب.
لا أعرف طفلا يلبّي طلب والده مهما كان بسيطا خارج هذا الإطار , حتى وإن كانت المصلحة لفائدة الإبن.
ـ اجتهد, فإذا كان معدلك ممتازا اشتريت لك كذا…
لعل الخلل في تربيتنا وتلك قضية أخرى.
أما أمر هذا الطفل الذي رزق ابراهيم على كبر وبعد يأس فقد تجاوز كل حدود المعقول ,فهو في السنّ التي يميل فيها الأطفال عادة إلى المكابرة العناد وبلغة علماء النفس فرض الذات والشخصية ـفترة المراهقة ـ.ينساق اسماعيل مع أبيه وهو يعلم أنه آخذه إلى مكان بعيد عن أمه حيث سيذبحه إرضاء لربه ,فلا يحاول الهرب و لا يحاول الاعتداء على أبيه و هو القوي و الأب الضعيف, وإنما يغافل أمه ويرافق أباه. يسيران جنبا إلى جنب كأنهما ذاهبان الى فسحة. الخطو هادئ و قناعة راسخة في ذهن الأب والابن إن لا نقاش مع أمر الله .”يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك” كلاهما مقتنع بأن رؤيا الأنبياء حق لابد من تنفيذها. ولكن عاطفة الأبوة تجعله يشرك الابن في اتخاذ القرار, لعلّ الابن يتشبّث بغريزة البقاء, فيهرب ويعصي أمره ويجد ابراهيم حجة أمام ربه ولكن الابن لا يقل إيمانا عن الأب ولا يخفف عنه هول المصيبة برباطة جأشه ويستنكف من كونه مصدر عصيان والده لربه فيجيب في أدب جم : “نفذ أمر الله وستجدني إن شاء الله من الصابرين.”
إنّه سلوك لا يمكن أن يصدر إلا عن الأنبياء .فلو أردت اليوم من ابنك أن يتنازل لك عن منزله أو حتى عن بعض أدباشه التي كنت قد اشتريتها له فإمّا أن يناقشك ويقنعك بسوء عملك و خسّة طلبك أو في أحسن الحالات يتنازل لك عن طلبك مستاءا صاغرا.
و هاهو اسماعيل يتنازل لأبيه عن حياته راضيا. ولكنّ هذا الأمر وان أرضى الأب والابن لم يرض الشيطان إبليس الذي توعّد ابن آدم بان يقعد له ليغويه بالعصيان فيلحق بابراهيم و اسماعيل في منى ويوسوس للأب الممزّق بين نبوّته و أبوّته فيحاول أن يثنيه عن ذبح ابنه: “ابنك الوحيد… جاءك على كبر… وتعبت في تربيته… تقدم على ذبحهَ… ما أقسى قلبك…كيف تصدق خرافة تراها في النوم… ثب إلى رشدك… انظر فظاعة ما أنت مقدم عليه…”
وتستيقظ عاطفة الأبوة في ابراهيم, فيلقي نظرة حنان على هذا الشاب الهادئ السائر إلى جنبه فيكاد يعود أدراجه وينثني عن عزمه إلا أن الإيمان القوي يثبت خطاه, فيجمع حصيات من طريقه ويرجم الشيطان حتى يبعده عن طريقه…
ويبتعد الشيطان للحظات ويفكر في منفذ آخر يدفع به ابراهيم إلى عصيان ربه و يلحق بالركب ويحاول أن يستفرد باسماعيل فيوسوس له علّه يثور على والده ّويتنطّع عليه ويهرب منه, فيعصي ربه:
ـــ”انج بنفسك يا شباب ,الحياة جميلة …وهذا الشيخ يريد أن يذبحك, أهرب …فأنت قوي, أنّه لا يحبّك …و إلّا لما أقدم على ذبحك …انج بنفسك …إني ناصح لك… وليس لي أي منفعة من حياتك…خسارة شبابك…اهرب… اهرب…
ويستعيذ اسماعيل بربّه من الشيطان الرجيم, و يلتقط حصى ويرجمه بها.
و ببتعد ابليس مرة أخرى صاغرا منهزما, ولكنه لا ييأس و يسعفه خياله بباب آخر يمكن أن يتسلّل منه ليجبر ابراهيم على عصيان ربّه .فيهرع إلى هاجر ويخبرها بالأمر ويحرّك فيها عاطفة الأمومة موسوسا :
ــ”هذا الشيخ فقد صوابه ,يريد أن يذبح ابنك فلذة كبدك الذي تعبت من أجله ولاقيت الهوان في سبيله …لقد كاد أن يضيعكما عندما أهملكما في واد غير ذي زرع…”
فتصدّقه وتجري مذعورة لاحقة بابراهيم محاولة إثناءه عن عزمه, فيهدئ من روعها ويعرف انه ابليس وسوس إليها, فيلتقط مرة أخرى حصيات يرجمه بها …
ويقبع ابليس في مكانه ملوما محسورا مقهورا وقد أقرّ بالنصر لابراهيم.
“أن ينصركم الله فلا غالب لكم”
هاهو ابراهيم في محنته. فالأمر ليس هيّنا عليه ولكن الإيمان يصبر المرء, فيمضي في تنفيذ حكم الله, والولد لا يبدي أي مقاومة بل يساعد الوالد و ينطرح أرضا ووجهه إلى الأسفل حتى يتحاشى نظرة والده فيعطف عليه وينثني عن عزمه. ويقبل ابراهيم بيد مرتعشة ويهوي على الرقبة بالسكين ولكن السكين يستدير و لا يريد القيام بعملية الذبح …
لحظة رهيبة ضجّت فيها الكائنات و الأرض والسماء… الإحياء والجماد… كلها تعطّلت لجلال هذه اللحظة, و وقفت, تبتهل إلى الله وترجو الخلاص لهذا الشاب البارّ…
ويرتفع صوت الحق آمرا ابراهيم بالكفّ عن الذبح…ويفديه الله بذبح عظيم جزاء صبره و برّه وأيمانه …”و ناديناه أن يا ابراهيم قد صدّقت الرؤيا أنا كذلك نجزي المحسنين وفديناه بذبح عظيم ”
الله اكبر الله اكبر الله اكبر …
معركة حاسمة خاضها ابراهيم ,توكّل على الله فلم يخذله…
امتحان صعب نجح فيه ابراهيم بامتياز …
ما أكثر المغريات في حياتنا, وما أقوى وسوسة الشيطان في نفوسنا…أين منّا همّة ابراهيم وعمق إيمانه حتى نقمع سلطة ابليس علينا ؟؟
نحن نحاول وكلّما انتصرنا عليه قيد أنملة ففي ذلك فخر لنا .المهمّ أن نبدأ وأن نحاول و ألاّ ننهزم من الداخل لأنّ ذلك هو الخسران الكبير .
فشرف الإنسان في النيّة وفي الاجتهاد .فان كنت لا تستطيع أن تغيّر المنكر فيكفي أن تقرّ في دخيلتك انّه منكر وأنك لا ترضاه والله شاهد على ما بالسرائر
ومن اجتهد وأصاب فله أجران ومن لم يصب فلن يحرم الأجر الواحد إن الله بعباده غفور رحيم.