الدكتورة: لطيفة حليم العلوي / مونتريال كندا
عفيفة كرم 1883- 1924
لا يمكن أن نؤرخ بداية للنقد النسائي العربي الحديث في أمريكا ، ولكن يمكن البحث في القراءات الأولى لبعض الكتب النسائية التي صدرت في بعض المجلات العربية وهي شبيهة بالتعليق أو ما يطلق عليه في بعض القراءات النقد الأدبي بمفهومه المعاصر. سأقدم قراءة لكتابة عربية تنتمي إلى نهاية القرن التسع عشر وبداية القرن العشرين *عفيفة كرم* من خلال قراءتها لكتاب زيادة” بعنوان: باحثة البادية مي * .
سحبت قراءة عفيفة كرم في خمس صفحات ، وهي تعليق أكثر منها نقد ا كتبت هذا التعليق بإيعاز من مدير مجلة الأخلاق التي كانت تصدرت بأمريكا في بداية القرن العشرين , وأشار إلى أن مي زيادة أهدت كتابها الذي يحمل عنوان :* باحثة البادية * لمجلة الأخلاق وهذا يدل على أن مي زيادة كانت على إطلاع كبير على الأدب بالمهجر. تستهل الكاتبة عفيفة كرم هذا المقال بقولها : * وبحق تلك الحافظة المشتركة بين جنسينا كله اجعل كلامي الحالي عن كاتبة الشرق الميتة وكاتبته الحية صلة التعاون بين الشرق والغرب * .
تعليق عفيفة كرم على كتاب * باحثة البادية * من تأليف مي زيادة مثال على نمو مبكر للوعي النسوي والنقد الأنثوي في بداية القرن العشرين بالمشرق العربي ، فزيادة على التعابير الدالة على تشوق عفيفة كرم للكتابات المدافعة عن قضية المرأة من نوع كتاب مي يلاحظ أن بعض العبارات الواردة في ذلك التعليق تستحق وقفة تأمل أطول من غيرها. تجعل عفيفة كرم تعليقها على الكتاب بمثابة صلة *التعارف بين الشرق والغرب * . كيف ؟ الشرق تمثله ملك حفني ناصف الملقبة بالاسم الذي هو عنوان الكتاب ، لكن ما هو الغرب في عبارتها ؟ هل تقصد به مي زيادة بحكم مسيحيتها ؟ لكن المسيحية مذهب شرقي انتقل إلى الغرب ؟ . غالب الأمر أنها تقصد بتلك الصلة أن تكون هي أي عفيفة كرم وسيلة لنشر أفكار الكتاب الآتي من قلم شرقي هو قلم مي زيادة في أمريكا التي هي الغرب . هذا الجانب الإنساني في فكر عفيفة كرم لا يتناقض مع إلحاحها على إسلامية ملك حفني ناصف باحثة البادية . تقول عنها : * لها فضل التقدم في إصلاح بنات وطنها من المسلمات * إن المقصود هو الجنس النسوي المعين ببنات وطنها فالاعتناء به هو الجامع بين مي زيادة وعفيفة كرم المسيحيتين وبين ملك حفني ناصف المسلمة . الأمر أمر جامعة نسوية تجاوز الأديان والطوائف وترنو إلى تمليك المرأة حقوقها الضائعة. تلك الحقوق التي تشير إليها عفيفة كرم حين قالت عن ملك حفني ناصف * إذا كانت الأولى التي شعرت بالظلم وجاهرت بالتألم منه . ورأت الاستبداد فثارت نفسها تطلب الانفلات من قيوده فهي أول شرارة من نار الحرية النسائية التي أضرمتها يد الله في الديار المصرية بعصرنا هذا * ، ولنلاحظ ونحن ننظر إلى هذا النص كلمات الإضرام والنار والشرارة التي هي ألفاظ تنتمي إلى المعجم الثوري العنيف بامتياز . وفي مكان آخر من تعليقها تنسب هذا الظلم والاستبداد إلى الرجل * … تعبر المرأة المسيحية إلى المرأة المسلمة فتأخذ بيدها للنهوض من خمول الجهل ومن تحت أعباء استبداد الرجل وظلمه * . لا تبين عفيفة كرم كيفية تأصيل هذا الظلم والاستبداد في شخص الرجل ، ولكنها في مكان آخر تفصل الأمر إذ تنسب التخلف العام الفكري وخصوصا ما يتعلق منه باستغلال النصوص الدينية وتوجيهها لتخليد التخلف في المستوى النسوي . تشتكي عفيفة كرم في هذا الخصوص من خلط الدين بالدنيا والإعراض عن الفصل بينهما، وترى أن المسألة النسوية دنيوية ، ولكن المغرضين يأبون إلا أن يجعلوا لها خصوصية دينية * وقد أصبح لكل أمر شرقي مساس بالدين بعد أن اختلطت الأرضيات بالسماويات عندنا حتى إذا لمسنا موضوعا دنيويا من إحدى جهاته نلمس الدين من كل جهاته * الموضوع الدنيوي المشار إليه هنا هو موضوع المرأة . ومن البين أن عفيفة كرم تنتقد هنا إخضاع حياة المرأة لأحكام دينية وترى أن حياة المرأة من باب الأمور الدنيوية، وان الدين لا يجوز أن يجاوز مجاله الأمور الأخروية ، ولا يخفى في هذا الموقف من تأثر بالمسيحية التي لم يشرع فقهاؤها للمرأة قوانين تلتزم بها و وذلك بخلاف حال المرأة المسلمة المقيدة بآراء الفقهاء الذين يستنبطون للمرأة قوانين من الكتاب والسنة تمثل الواجب في نظرهم ، لا تخفي عفيفة كرم موقفها من هذا الطغيان الفقهي على حياة المرأة المسلمة ، ولا تتردد في وصف آثاره على ملك حفني ( باحثة البادية ) إنها تؤكد أن ملك لم تستطع * الانفلات الباب من قيود الظلم … ولأنها كانت مصرية قبل كل شيء ومسلمة حتى النفس الأخير * . إذن فالمصرية والإسلام هما اللذان منعا باحثة البادية في نظر عفيفة كرم من الانفلات البات من قيود الظلم. وما المصرية إلا عادات المصريين وتقاليدهم، وأما الإسلام فالمقصود به في لغة عفيفة كرم المشهور عن الإسلام في عقائد عامة الناس لا الإسلام الصافي الحقيقي و دليل ذلك أنها وصفت الإسلام والمسيحية قبل ذلك مثنية عليهما إذ قالت * أو ليس عجبا أن يكون الشرق مثبت الدينين الإسلامي والمسيحي اللذين حطما قيود العبودية البشرية واتباعهما الآن يقيدون فئة ضعيفة منهما بهذه القيود * , ويلاحظ أن عفيفة كرم جمعت في الانتقاد هنا اتباع الدينين لا أتباع الإسلام وحدهم .
لا تنسى عفيفة كرم في هذا السياق أن تقارن بين باحثة البادية التي لم تتخلص كليا من قيود العادة والتقليد وبين مي زيادة التي * كتبت غير مقيدة ولا مترددة وجرت على خطة كاتبات الغرب فلم ترسم لنقدها حدودا تسير عليها * وذلك مالا ينطبق على باحثة البادية التي ليس لها كل حرية مي * بحكم المألوف من العادات والتقاليد التي يرزح تحت أعبائها في الوسط الشرقي أكبر النفوس وأطلقها * , وفي هذه المفاضلة يكون الفوز لمي صاحبة الكتاب فهي المرأة الشرقية العصرية الواقفة على حدود مدنيتي الشرق والغرب * تأبى الرجوع القهقرى بعد أن تملصت من القيود الثقيلة التي تكبل العقل * . أما باحثة البادية فهي * المرأة الشرقية التي استقت ملء علومها من ينابيع مدارس الشرق * , هناك فرق إذن بين المرأتين , لكن الغريب في الأمر أن المرأة الأشد تقدما وثورة هي مؤلفة الكتاب عن المرأة الأخرى الموصوفة عند عفيفة كرم بالاعتدال في الثورة على التقاليد .
إن ما أشرت غليه سابقا في خصوص الجامعة النسوية التي تلغي الفروق الدينية والقومية والعنصرية بين النساء يتأكد في عبارات جميلة حين تنتبه إليه الكاتبة عفيفة كرم في كتاب مي عن باحثة البادية * وفي اعتقادي القاصر أن اجمل ما تحلى به جيد الكتاب النفيس هو عاطفة المرأة تجاه المرأة , تلك العاطفة النسائية السامية التي تستعير من ضعف المرأة قوة * و وفي مكان آخر تقول عن المرأة التي تدعو إلى تحرير المرأة باسم الجامعة النسوية * إنهن من فوق المنابر … يذعن فضل أخواتهن تعزيزا لشأن الجنس * , بل إنها تصرح بانتمائها إلى هذه الجامعة وبالإيمان بها حين تقول : * وإن يكن لنا سوى عاطفة الإخلاص الجنسي هذه فهي حسبنا * والجنس يقصد به عنا الإخلاص لجنس النساء . لا شك أن مثل هذه القطع المبتورة من المؤلفات – على قصرها – تؤكد بداية النقد الأنثوي وكذلك الوعي النسوي والثورة النسوية على الأوضاع التي يرزح تحتها الرجال والمرأة في أول القرن المنصرم ولقد سعت الكاتبة عفيفة كرم أن تقرأ لنا كتاب : باحثة البادية : لمي زيادة قراءة أنثوية مبكرة على شاكلة ما عرف عند الكاتبة فرجينيا ولف ( 1882 – 1941 ) وسابقة لزمان لا يعرف النظرية الأنثوية ولا غيرها من النظريات التي يزخر بها النقد الأنثوي وما بعد الحداثة .
* ألقيت المحاضرة في الندوة النسوية العالمية الأولى في معهد الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال-التابع لجامعة القاضي عياض بمراكش المغرب
محاضرة . بني ملال : جامعة القاضي عياض , كلية الآداب. الندوة النسوية الأولى . المرأة والإبداع والتاريخ . 25 أبريل 2005 .