وحيــــد اللجمـــي أستاذ الجماليات وفلسفة الفن والسيميولوجبا بالجامعة التونسية
عندما نتكلّم فإننا عادة ما نعطي بعض منّا ونبقي على الكلّ، وأمّا ونحن نكتب فإننا نمنح الكلّ ونزيد عليه ذلك البعض منّا إلى درجة أنّ كلّ ما نملكه من وجود وهويّة ومن ابداع وفكر يتدحرج خارج كلّ السياقات التي هي لنا. ذلك هو الإطار الفكري الذي يعترضنا ونحن نتساءل عن هويّة النصّ الابداعي عامة دون الانغلاق في جنس أدبي بعينه باعتبار أن فعلَ الكتابة في حدَّ ذاته وفي جميع الأجناس الأدبية على اختلافها وتنوعها يعبّر عن ذلك المعنى الممكن والكامن في طيات الفكر الإنساني والذي يمثل المرآةَ العاكسةَ لا للكاتب أو المبدع فحسب بل وللوجود الإنساني في أقصى تجلياته الفيزيقية والميتافيزيقة، الأنطولوجية والوجودية، وما الكتابة سوى رغبةٌ جامحةٌ في تحقيق هذا الرهان الكبير وأملٌ في كسر أذرع الموت بكل معانيه الحسيّة والرمزيّة والتي تحيط بكل شيء وتفتك بكل شيء وكأنها تلهث دون هوادة وراء نهاية مأساوية للإنسان.
تلك هي أصالة هويّة النصّ الأدبي وذلك هو الهاجسُ الكامنُ في اختلاجات المبدع وتلك هي الرغبةُ الظّاهرةُ والباطنةُ التي يرسم المبدع أشكالها وألوانها من داخل كلماته ومفاهيمه السحرية ومن خلال مخلوقاته اللاهوتية العجيبة. إن النص الذي كان ولازال إلى يومنا هذا المرفأ الأخيرَ لخوض هذه المعركة الوجوديّة ضد الفناء والاضمحلال هو ذاته النصّ الذي يعدنا بالبقاء والخلود داخل الوجود المطلق. إنّه الإطار الإنشائي والفكري بعينه الذي يتنزّل فيه النصُّ والذي نعتبره ”فضاء الإغراء” دون منازع بحسب عبارة رولان بارت.
لقد خضع النصّ الشعري والنثري على حدّ السواء منذ شذراته الأولى إلى سلطة الحواس على اختلافها وتنوعها رغم ميتافيزيقياته المزعومة، فقد صُنّفت العديد من النصوص الابداعية باعتبار أنها من النصوص الروحانيّة أو النصوص اللاهوتيّة التي تقطع مع الجسد ومع جميع الحواس، إلا أنها بقيت في حقيقة الأمر لصيقة بعالم الظواهر على تنوعه إن لم تكن غارقة في تجسيد المجسد وتعميق علاقتنا بالظواهر الحسيّة ليمثلَ النصَّ بذلك الجسد المتلبّس داخل أجسادنا والملقى أمام حواسنا لتفعل به هذه الحواسُ ما تشاء ويظهره الجسدُ كيفما أراد.
يبقى النص الإبداعي بالرغم من ذلك بمثابة الحقل المعرفي والأنطولوجي الذي لا يستطيعُ الانفلاتَ من سلطة ملكات العقل والمخيّلة والحدس لتصبح بذلك كل العلاقات في جميع حالاتها والتي تربط القائلَ بالقول والفاعلَ بالمفعول واللامسَ بالملموس والدالَ بالمدلول إنما هي علاقاتٌ جدليّة مركّبة حينا ومفكّكة حينا آخر حيث ”يكون فيه الكاتب والمتلقي في حركة من البحث الدؤوب، بحث كلِّ واحدِ منهما عن الآخر وهما في حالة من ”التغزّل”[1]بحسب عبارة رولان بارت فيكتابه” لذة النص” والغايةُ القصوى من كلِ ذلك هو المعنى في مباشرته الحسّيةِ وما تحمله من لذةِ الخلود أو من ألم العدميّة الخانقةِ أو من تعاليه الأنطولوجي المطلقِ وما يحمله من فكرٍ منعتق متحرر ومن ابداعات المتخيّلةِ الكاسحة لجميع الحقول الممنوعة.
إن القضيةَ الأساسيةَ التي تربطنا نحن كذوات إنسانيّةِ بجميع النصوص الابداعيّةِ المتداولة التي ننتجها أو التي ينتجها الأخرون من نثر وشعر على سبيل المثال هي ليست فقط ما نكتسبُه من فهم مطلق وإدراك جليّ للمعاني الكامنة في ما وراء الكلمات والتي نعبر عنها في هذا المقال بكلمة المنصوصِ، حيث أن المنصوصَ في النص هو ذلك المعنى الظاهر أو الخفي الذي تنصّه العبارات داخل كتلِ منتظمة متراصّة من الحروف والجمل والأقاويل والتي تمثل الكتلةَ المتجسّدةَ والتي نشير إليها عادة بجسد النص أو ما يمكن أن نعبّر عنه أيضا بالنسيج النصي وهو تعبير استعمله أيضا رولان بارت في كتابه ” لذة النص”[2]. يصبحُ النصُّ في حد ذاته إذن ككتلةِ جسديّةِ حسيّة مهيكلة مسألة مركزيّة لإدراك المعنى الحقيقيّ والمطلقِ قبل أن نجعلَ من المعنى مجردَ إدراك وفهم لأفكار متنقّلة من فكر إلى فكر آخر أو من النص إلى أطر أخرى خارج النص.
إن الإدراكَ الفعليّ والحقيقيّ للمعنى من داخل النصّ الإبداعيّ لا يكون فقط بتعالي المفهوم عن النصّ وتماهيه المطلق مع الفكر – فكر المتلقي- بل في ملامسة النصّ للملموس باعتبار أن النصّ هو في حد ذاته كتلتين متجسدتين:
- جسدٌ تمثله الحروفُ والعبارات والكلمات وكل ما يُرسم من سواد على بياض وجسدٌ يمثله وجود المبدع في حد ذاته باعتبارهِ وجودٌ واقعيٌ وحسيّ مؤسّس بالفعل للمعنى المباشر في أقصى تجليّاته الوجوديّة وهو ما نشير إليه بمفهوم اللامس.
- المتلقّي ليس باعتباره ملكةً فكريّة متلقيّة وملكةً تخيّليةً مركّبة ومفككةً للصور التعبيريّة فقط بل وباعتباره أيضا الجسد العضوي المنتج للفهم والإدراك وهو ما نسميه بالملموس أو الجسد الملموس.
إن الإشكاليةَ الأساسية إذن – وفي هذا الإطار من التبادل والتكامل الوظيفي – هي اشكاليةُ التحوّل في مدركاتِنا المعرفيّة عند بحثنا عن المعنى من العلاقةالكلاسيكية الأنطولوجية التي تربط الكاتب بالقارئ إلى نوع من العلاقة الوجودية، حيث أنه في النوع الأول يكون الكاتب منتجا للقول ومشرّعا لمعنى معينِ ويكون القارئ متقبلا سالبا للخطاب وقد يكون موجبا من جهة معينة في إدراك المعنى الذي قد شُرّع إليه، وقد يكون أكثر إيجابية وذلك بدفع المعنى نحو آفاق قد يتجاوز من خلالها المعنى الأصلي الذي شرّعه الكاتب وهو ما يدخل في دائرة تأويليّة الخطاب. أما العلاقة الوجودية بين الكاتب والقارئ فهو ما يعتبره رولان بارت في مقاله ”موت الكاتب”La mort de l’auteur بمثابة الانفصال التام والانسحاب الواعي للمبدع من وجوده ككاتب أو كمنتج للفكر ليترك للمتقبّل أو القارئ كل الإمكانيات الفكريّة والأنطولوجيّة والوجوديّة ليحدّد التوجه الفكري الجديد للنص بعيدا عن كل تأثير مباشر أو غير مباشر للمبدع الأصلي،[3] ولتصبح العلاقة المباشرتيّة هي علاقة المتلقّي بالنصّ مباشرة دون وساطة الكاتب وتصبح علاقة القارئ بالمقروء عندئذ هي علاقة لامس بملموس وما يعتري هذه العلاقة من رغبة عميقة ولذة حسيّة تقترب في كنهها بالرغبة الجنسيّة الجامحة وما تنتجه من خرق لكل قوانين الطبيعة الممكنة. هذا ما يوضحه رولان بارت في كتابه : ” لذة النص” « Le plaisir du texte »حين يدرك أن لذة النص إنما : ” تكمن في ذلك الحين الذي سيعمل فيه جسدي على تتبع أفكاره الخاصة به حيث أن جسدي لا يملك نفس الأفكار التي هي لي”[4]
إن العلاقة التي قد تكون أكثر إنتاجيّةً للمعنى وأكثر اقترابا من الفكر في أقصى تجلياته الوجوديّة هي علاقة التحوّلُ الخارق نحو تصور الكاتب والقارئ أو الباث والمتلقي لا باعتبار أنهما كيانان متافيزيقيان منفصلان عن بعضهما البعض فقط بل باعتبار أنهما جسدان متلامسان يكون اللامس فيه أي النصّ بجسده اللغوي وبجسد مبدعه الحسيّ الفيزيولوجي في علاقة تلامسيّة بالمتقبل باعتباره الجسد الملموس الذي لا يمكن له أن يدرك المعنى إلا من خلال وضعه كجسد ملموس.
إن هذه العلاقةَ الجدليةَ بين اللامس والملموس هي العلاقة القادرة على أن تدفع المعنى الكائن والكامن في النصّ إلى أقصى تجلياته الإنسانيّة والوجوديّة ليصبح وجودا مطلقا حرا منتجا للمعنى في أقصى إمكاناته الوجودية المنصوصة. إنها العلاقة التي قد تكون الفريدة من نوعها والمنتجة للمعنى الحقيقي باعتبار أنها تتّخذ مسار بحثها من تلك العلاقة التلامسيّة مع النص بما هو منتج أصيل للإحساس بأقصى درجات اللذة الحسية والتي يمكن تقسيمها بحسب رولان بارتإلى نوعين[5]
- نص يمنحنا اللذة والنشوة Texte de plaisir باعتبار أن إدراكه يبقى في إطار من الانسجام الفكري والثقافي العام، وتبقى استقلاليّة القارئ بهويته عن المقروء استقلاليّة قائمة لا جدال فيها رغم علاقة الفهم والإدراك بين الكاتب والقارئ.
- نص آخر يمنحنا المتعة القصوىوهي كما نعلم مرحلة تلي مرحلة اللذة وأشدها وقعا على الجسد كما على النفس Texte de jouissance وهو النص الذي يزعزع فينا كل المعتقدات التاريخيّةِ والقناعات العقائديّة والأيديولوجيّةِ والأسطوريّةِ وكل المكتسبات الفكريّة والثقافيّة واللغويّة، وهو أقصى ما يمكن أن يفعله النص في ملامسته الحسيّة المباشرة لا فقط بفكر المتقبّل وأحاسيسه الفيزيولوجيّة ولكن بجسده أيضا باعتبار أن التلامس هنا ليس تلامسا ميتافيزيقيا بين الأفكار بقدر ما هو تلامسٌ جسدي، جسد النص اللامس وجسد القارئ الملموس.
تلك هي إذن العلاقة التي تجعل من المعنى الكامن في طيّات النص الإبداعيّ من وجهة نظر المباحث السميولوجية الحديثة والمعاصرة كما المباحث الوجودية لا مجرد بحث في العلامات الحسيّة وغير الحسيّة في إطار من الوعي الجماعي والتعايش الاجتماعي وما قد تسديه من خدمات للدال والمدلول وما قد تمنحه هذه العلاقة من فهم وإدراك للأشياء المتمثّلة أمامنا ومن حولنا في عالم من الرموز والعلامات وهو ما يذهب إليه فرديناند دو سوسورفي كتابه ” درس في الألسنية العامة” وتعريفه لعلم السيميولوجيا في المجال اللغوي، بل إن البحث بالأساس هو خوض تجربة المعاشرة الحسيّة المباشرةِ للأشياء لتصبح جزءا من جسدنا، حيث تتماهى الذات بالموضوع وتضمحلّ كل الفواصل بين اللاّمس والملموس باعتبار أنهما يصبحان واحدا في الإدراك كما في الوجود.
تلك هي إذن العلاقة التي تجعل من النصّ باعتباره كتلةٌ لغويةٌ متجسدةٌ منتجة لماهية المعنى والفكر على حد السواء، متماهيا أيضا مع ماهية وهويّة المتلقي التي تجعل منه الجسد المفكر القادر على فهم المعنى بل وتجعله بذات الطبيعة التي هو عليها أي بكونها معان متجسدةً تستلهم وجودَها الفعليَ من تلك النشوة الحسيّة المؤسّسة للوجود في حد ذاته، وأن وجود الآخر في حقيقة الأمر هو وجودي أنا في وجوده هو وأن ما ينتجه من ابداعات فكرية من خلال نصوصه المتجسّدة إنما هي جزءٌ من ذلك الجسد المشترك.
المراجع باللغتين العربية والأجنبية
أحمد المديني، أسئلة الإبداع في الأدب العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، 1985.
عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية، 1982.
Ferdinand de Saussure,Cours de linguistique générale, arbre d’or, 2005.
Pour Paul Ricœur, Essai d’Herméneutique II, Cerf, Paris, 1986.
Roland Barthes, Le plaisir du texte, Seuil, Paris, 1979.
[1] Roland Barthes défini le texte comme un « espace de séduction dans lequel l’auteur et le lecteur se cherchent, se draguent. »Le plaisir du texte, 1979, p. 10.
[2]Dans son texte « Le plaisir du texte » Roland Barthes considère le texte comme le tissu qui cache le sens et la signification. Il dit : « Texte veut dire Tissu,
[3] Pour Paul Ricœur : « Ce qui est à comprendre dans un récit, ce n’est pas d’abord celui qui parle derrière le texte, mais ce dont il est parlé, la chose du texte. » Essai d’Herméneutique II, Cerf, Paris, 1986, p. 168.
[4] Dans le Plaisir du texte Roland Barthes dit en expliquant le rapport entre le lecteur – corps et le texte : « Leplaisir du texte, c’est cemoment où mon corps va suivre ses propres idées – car mon corps n’a pas les mêmes idées que moi »
[5] Selon Roland Barthes le : « Texte de plaisir : celui qui contente, emplit, donne de l’euphorie ; celui qui vientde la culture, ne rompt pas avec elle, est lié à une pratique confortable de lalecture. Texte de jouissance : celui qui met en état de perte, celui qui déconforte(peut-être jusqu’à un certain ennui), fait vaciller les assises historiques, culturelles,psychologiques du lecteur, la consistance de ses goûts, de ses valeurs et de sessouvenirs, met en crise son rapport au langage. » Le plaisir du texte, 1979, pp 22-23.