بقلم:د. بوده العيد / الجزائر
الحمد لله رب العالمين، في البدء والختام، له الفضل من قبل ومن بعد، نشكره جل في علاه على توفيقه إيانا في مضمار البحث العلمي الذي توجت فيه بشهادة دكتوراه علوم في جامعة قاصدي مرباح ورقلة في تخصص النقد المغربي القديم عن أطروحة متواضعة وُسِمَت بـ: منهجية التأليف عند أبي إسحاق الحصري القيرواني.
يطيب لي أن أتقدم بهذه الورقة المتواضعة التي تتضمن بطاقة تعريفية لمضامين بحثنا المتواضع، سيما وإنه دراسة وصفية تحليلية نقدية ترصد مرتكزات المنهجية التأليفية عند الحصري القيرواني،أحد ألمع النقاد في مدونة التراث الأدبي في المغرب الإسلامي، حيث كان سعينا حثيثا للإلمام بمجمل الظواهر المنهجية والطُّروحات النقدية التي تحدد كينونة المدونة التراثية عند الناقد المغربي الكبير أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن تميم الحصري القيرواني، في
مؤلفات تراثية مغربية وازنة؛ شَكَّلت مُكَوِّناً ثقافياً راسخاً في عمق الموروث الأدبي المغاربي، من قائمة : كتاب زهر الآداب وثمر الألباب، وكتاب نور الطرف ونور الظرف،وكتاب جمع الجواهر في الملح والنوادر،وكتاب المصون في سر الهوى المكنون،لاسيما وإنّ مؤلفات الحصري قد تقاسمت اللذة الأدبية،والممارسة النقدية التي شكلت تأصيلا مبكرا للنقد التطبيقي في الثقافة المغربية خلال القرن الرابع الهجري، مما يعني أنَّ البحث يحمل طموحا مُزْدَوَجاً؛فإلى جانب مطلب رصد كيفيات تبلور الرؤية المنهجية،يقف البحث عند مختلف الاتجاهات والقضايا التي انتظم في إطارها النقد العربي القديم.
وعلى ذلك فإن البحث يندرج في مجرى نقد النقد، في محاولة بحثية للمساهمة في إضاءة جوانب مهمة في النقد العربي القديم في إقليم المغرب الإسلامي،وتقديمه في صورته المعبرة عن كيانه، في محاولة مني كباحث لإعادة قراءة الماضي للخروج بما يمكن أن يفيد في عملية الإبداع والبناء المعرفي،بعيدا عن إعطاء التراث الطابع التقديسي،أو مقاطعته، وإنما من خلال التعامل مع ايجابياته وسلبياته بعقلانية تساهم في إعادة الاعتبار الفعلي لهذا التراث،والاستفادة منه في بناء حاضر يمزج بين الأصالة والمعاصرة، دون أي تناقض أو صراع، خاصة وأن الأدب العربي في المغرب الإسلامي القديم ،مايزال في حاجة إلى اهتمام أوسع ،ودراسة أعمق؛ لاستجلاء كنوزه الأدبية واستنطاق مميزاته النصية ؛قصد التعريف أكثر بمكونات الذاكرة الإبداعية المغربية التي لا تقل أهمية عمَّا سجَّلَهُ أهل التعبير في مدونة النبوغ المشرقي في الأدب العربي القديم ؛علاوة على أنَّ مغربنا الإسلامي الكبير ظَلَّ مُتَّصِلاً بالمشرق في مختلف أحواله السياسية ،والثقافية، والاجتماعية ،مما أتاح له الاستفادة من تجاربه الحضارية ،والمساهمة معه في الوقت ذاته في بناء الصرح الأدبي الذي حفل بذخيرة بارعة ،أمتعت العرب دهورا مديدة وماتزال.
ولاشك أن السؤال ركيزة البحث والمعرفة،فقد وجدتني ملزما بمحاولة الإجابة على جملة من التساؤلات التي نورد على سبيل الذكر لا الحصر الإشكال الرئيس فيها:هل يمكن الوقوف على مؤشرات منهجية مشتركة،تستوعب المنهج الموحد الذي تتسم به جميع مدونات الحصري القيرواني؟وهل يمكن استجلاء البعد النقدي في هذه المؤلفات من خلال منهجية المؤلف؟
وكان لابد من السير على خطة منهجية مضبوطة؛تضمن التحكم في كل المراحل البحثية المتعلقة بهذا العمل،وعليه فقد قسَّمْنا البحث إلى بابين وستة فصول،وقد سبق البابين مدخل تمهيدي تناولنا فيه عصر المؤلف؛إذ لا يمكن دراسة المنجز الأدبي بمعزل عن سياقه الثقافي، أو خارج دائرة الخطابات التي تحيط به؛وهذا هو المنطلق المنهجي الذي ينبغي على الدارس أن يؤسس مقولاته عليه.
ثم سمينا الباب الأول بـ : بين المؤلف ومنهجيات المدونات،وقد تَضَمَّن ثلاثة فصول،حيث تناول الفصل الأول التعريف بالحصري وبالسياق الثقافي الذي عاش فيه؛ فَعَرَّفْنَا بنسبه ومولده ونشأته ومكانته العلمية،وآثاره الضائعة،وبمدونات الدراسة؛وذلك بالتعرض إلى المضمون العام لكل كتاب، مع وصف عمليات التحقيق، ثم انتقل الباحث إلى إبراز واقع الحركة النقدية في العصر الصنهاجي،ثم ختمنا الفصل بتجليات الثقافة المشرقية على الكتب المدروسة، وقد توصل الباحث في هذا الصدد إلى تقديم جملة من المبررات المتعلقة بمسألة قلة الإفادة من التراث المغربي،تم تقريرها في آخر المبحث.
أما الفصل الثاني فقد خصصناه لبحث ووصف البناء المنهجي في مدونات البحث،من خلال الوقوف على الخطوات التي سار عليها الحصري في انجاز كتبه، حيث قمنا بتفريع المناهج التأليفية للكتب إلى قسمين ؛حيث يتضمن القسم الأول المنهجية المنصوص عنها على ضوء تصريحات المؤلف (الحصري) ،ويتضمن القسم الثاني ،مؤشرات المنهجية المستنتجة من طرف الباحث ،ثم قمنا بتفريع القسم الأول (المنهج المنصوص عنه) إلى جزأين ؛تناولنا في الجزء الأول المؤشرات المنهجية الشكلية (الخارجية) ،وخصَّصْنَا الجزء الثاني للمؤشرات المنهجية المضمونية ،المتعلقة بالرؤية الفكرية للمؤلف.
علما بأن مؤشرات القسم المنهجي المصرح به لم ترد مُرَتَّبَةً ،ولا مُفَرَّعة بالشكل الذي أورده الباحث ،بل جاءت متداخلة مع بعضها في تصريحات الحصري ،وقد عمدنا إلى تقسيمها وفق مقاييس التدرج الوصفي الذي يبدأ من الخارج إلى الداخل ،ومن الشكل إلى المضمون ،إذ أن الشكل الخارجي هو الذي يخلق العلاقة بين المتلقي والمدونة ،وهذا ما نُعِدُّه ابتكارا لم نُسْبَق إليه ،في حدود إطلاعي المتواضع على الدراسات السابقة، فالباحث كما يرى الدكتور أحمد شلبي: يبدأ من حيث انتهى غيره من الباحثين ؛ليسير بالعلم خطوة أخرى، ولِيُسْهِمَ في النهضة العلمية بنصيب ،وليس الابتكار المطلوب في الرسائل هو كشف الجديد فحسب ،بل هناك أشياء أخرى غير الكشف يشملها لفظ الابتكار ؛وذلك مثل ترتيب المادة المعروفة ترتيبا جديدا مفيدا ،أو الاهتداء إلى أسباب جديدة لحقائق قديمة ،أو تكوين منظم من مادة متناثرة أو نحو ذلك.
أما الفصل الثالث فقد أفردناه للقراءات السيميائية في عناوين الكتب المعنية بالبحث. في مُحَاوِلة للجمع بين حداثة المنهج السيميائي وأصالة النص المقروء ؛استنادا إلى فكرة التواصل الثقافي الذي يُزَاوِج بين الأصالة والمعاصرة ،بوصف الحداثة علم على علم ومعرفة على معرفة ،وليست قطيعة مع الماضي ؛وهذا ما يجعلني أَعُدُّ هذه القراءات ضربا من تحديث الأصالة والنظر إليها من جديد من زوايا أخرى ؛لاستخلاص خباياها ومميزاتها الخاصة ؛لتواكب المنحى الحداثي ،وقد ختمت الباب الأول بنتائج هذه القراءات السيميائية.
أما الباب الثاني فعَنْوَنَّاه بـ:بين المنهجية والنقد،وقد حاولتُ الوصول فيه إلى الإجابات المتعلقة بالإشكال الرئيس الذي قامت عليه الدراسة؛فقسَّمْنَاه إلى ثلاثة فصول أيضا،حيث عقدنا في الفصل الأول مقارنة وصفية بين المدونات؛رصدنا فيها أوجه الاختلاف،ومؤشرات التشابه، مستنتجا بعد ذلك مؤشرات المنهجية المشتركة بين كل المؤلفات المدروسة.أما الفصل الثاني من هذا الباب فخصصناه لدراسة الاتجاهات النقدية التي عكستها مؤلفات الحصري،وقد ختمت الفصل بمبحث رابع ،استنتجت فيه مؤشرات مساهمة الحصري في التأصيل لبعض النظريات التي تبلورت مفاهيمها في العصور التي تلت عصر المؤلف،ولا ينبغي أن يُفْهَمَ هذا الاستنطاق الفكري على أنه اندفاع عاطفي ،لإبانة أثر العرب على الغرب ،ولكنه استقراء بحثي من قبيل الإنصاف المعرفي ،والتَّقَيُّد بأمانة النقل العلمي ؛لاسيما وأن ّإرهاصات النظريات النقدية التراثية ،شَكَّلت الظهير والخلفية الأولى التي انبثقت عنها نظريات الحداثة.أما الفصل الأخير فخصصناه لظاهرة النثر الفني عند الحصري القيرواني؛ بغية الوقوف على مساهمة المدونة النثرية إلى جانب المدونة الشعرية في صياغة المفاهيم الثقافية، وتشكيل الرؤى والتصورات المرتبطة بالإنسان العربي؛لأنَّ المضامين التي تنطوي عليها المادة السردية المنثورة في المصنفات القديمة ،غنية بالمعطيات المعرفية ومقولات الثقافة العربية التي تكشف عن أبنية الوعي العربي وأنظمته العميقة.
ثم ذيلنا البحث- حتى لا نقول أنهيناه- بخاتمة جمعنا فيها كل النتائج والتوصيات التي بلغتها الدراسة، واستنتجتها تجربة البحث،وفيمايلي إيراد لأبرز هذه النتائج والتوصيات:
– يلاحظ على الحصري عنايته الواضحة بأقطاب العملية الإبداعية الثلاث:المبدع،النص،المتلقي؛حيث تظهر عنايته بالمبدع من خلال امتلاك الحصري للمقومات المطلوبة في المؤلف؛ كالموسوعية، والإحاطة بمفاهيم الأدب والنقد.وتتجلى عنايته بالنص من خلال العمل على توظيف مختلف الطرائق النثرية التي عرفتها مدونة الأدب العربي القديم،ناهيك عن توظيف البديع الذي استحوذ على أجزاء كبيرة في كل مدوناته.أما عنايته بالملتقي فتتجلى في حرصه على التنويع الأدبي والتبسيط قصد إثارة الشغف القرائي عند المتلقي.
– تتميز كتب الحصري بتقارب منهجي كبير،مما يقودنا للقول أنها صنفت في زمن متقارب؛لأن عدم تغير المنحى التأليفي في كل الكتب يعني أن صاحبها لم يتأثر بمتغيرات الحياة التي تنعكس على الإنسان في غالب الأحوال لاسيما المثقفين منهم؛ فتعاقب السنين والأيام يؤثر لا محالة على تحول العقل والذوق من حال إلى حال. كما يلاحظ على كتب الحصري الجمع بين الجانب النظري والتطبيقي في التأليف،حيث وجدناه يُفَسِّر خطواته المنهجية التأليفية في مقدمات كتبه،مُعَلِّلاً ما أمكن تعليله،ضمن ما أسميناه بالفصول النظرية،ثم ينتقل لتنفيذ المقاييس والخطوات التي قررها في مطالع المدونات في الجزء الثاني،مخصصا أكبر مساحة لهذا الفصل التطبيقي.
– الحصري كان يلتزم منهجية تأليفية مدروسة،ولم يكن عمله التأليفي من قبيل التجميع العشوائي، كما قد يُفْهَم من خلال تبنيه لظاهرة الاستطراد، أو تحاشي الترتيب والتبويب.وعلى الرغم من ذلك فإنه لايمكننا اعتبار الحصري من المؤلفين المجددين؛فهو من أبرز مقلدي الطريقة المشرقية في التأليف بالمغرب،ولعل هذه المحاكاة الكثيفة، مما جعل كثيرين من أهل المشرق ينظرون للمغاربة نظرة دونية.فنحن نؤاخذ الحصري في هذا الخصوص؛لأنه لم يكن ممن قل تمكنهم من اللغة والثقافة العربية،بل كان من أعلام الأدب الراسخين ،فكان يمكنه أن يضيف ميزات من شأنها التعبير عن خصوصية الثقافة المغربية القديمة.
– لقد تقرر عندي أن الأصول المنهجية في مؤلفات الحصري تعود إلى طريقة المشارقة في التأليف،كما أنَّ القيمة الفنية والأدبية التي أضمرتها هذه الكتب عائدة إلى التقائها في طريقة التأليف بكتابات المشارقة التي تتميز ببراعة البديع والفصاحة مثل: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ورسائل النكت للرماني، والبيان والتبيين للجاحظ والصناعتين لأبي هلال العسكري وغيرها،لاسيما منهجية الجاحظ الذي تأثر به الحصري كثيرا؛ويتضح هذا الأثر في عدة ظواهر منهجية كالتكرار وحذف الأسانيد،ودمج الأجناس الأدبية،والاستطراد،والاهتمام بالمتلقي.
– مؤلفات الحصري ليست كتبا نقدية تُعْنَى بقضايا النقد لذاتها،وإنما هي قبل كل شيء مدونات أدبية تهتم بتصنيف المختارات الأدبية وفق ذوق المؤلف ورؤيته وثقافته، حتى أن كتاب زهر الآداب الذي يعد أضخم مدونة عند الحصري لم يقدم ممارسة نقدية مكتملة مقارنة ببعض كتب المغاربة التي وضعت للنقد أصالة.وعليه فكتب الحصري كتب أدب وخبر،فهو موسوعة أدبية؛لأن الحصري قصد الأدب ولم يقصد النقد، وماوجد في مدوناته من نقد–وإن كان قليلا جدا–إنما يعود إلى العلاقة الوطيدة بين الأدب والنقد.
– إن ما يميز مواقف الحصري إزاء مختلف القضايا النقدية،هو توخيه الموضوعية في الحكم أو المناقشة فهو لا يتخذ موقفا إلا باتخاذ جملة من المقاييس أو الشروط،فمثلما وجدناه يزاوج بين اللفظ والمعنى تبعا لتوفر جملة من المقومات في كليهما،فإنه لم يمل للمحدثين إلا لأن إبداعاتهم تستجيب لمختلف معايير الجودة الإبداعية.والأمر ذاته في مفاضلته بين الشعر والنثر؛فهو لم يفضل الشعر لذاته بل ما كان شعرا رسالياً منسجما لفظه مع معناه،ومتحدا في موضوعاته.كما وجدناه يقف نفس الموقف الموضوعي في قضية الطبع والصنعة،إذ أنه يتوسط الكلامين ويفضل كليهما إذا لم يجانبا الفطرة،ولم يكثر فيهما التكلف.
– ومن التوصيات التي قررناها في هذه الخاتمة أنه يجب قراءة المؤلفات القديمة ضمن سياقاتها الثقافية والتاريخية،وعدم الحكم عليها من منظار حداثي انبثق ضمن سياق تاريخي وثقافي مختلف،فمن غير المنطقي أن ننقد منهجا تأليفيا قديما وفقا لمنهج نقدي حديث؛لأن لكل ظاهرة منهجية أو ثقافية مبرراتها وسياقاتها التاريخية والثقافية والحضارية.
يعلم الله أنني بذلت جهدي في تجويد هذا البحث ،ولكن النقص ميزة المخلوقين ؛إذ لا يخلو عمل المرء من تقصير ونقصان ،فلا عجب أن يقع من هو مثلي – باحث مبتدئ- في التقصير والخطأ وقد يشفع لي فيما شاب عملي من نقص ،أنني قدّمت ما عندي في سبيل الصواب ،وحسبي هنا قول الشاعر:
فَإنْ تَكُنْ هَفْوَة أو زَلَّة عَرُضَتْ فالسَّهْمُ يَصْدِفُ أحيانًا عن الغرض
لايفوتني أن أسجل شكري للأستاذ المشرف على هذه الأطروحة،وهو البروفيسور العيد جلولي الذي كان ناصحا ومستشارا ومعينا ومحفزا،فشكر الله له وجعله ذخرا يَأْتَمُّ به الباحثين.
الحمد لله من قبل ومن بعد ،عليه توكلت ،وبه استعين
موفق باذن الله