الدكتور: عبد الرحيم العلام /كاتب و ناقد مغربي
تتعدد صور ثقافة التسامح والسلام وتتنوع، باعتبارها قيما اجتماعية وثقافية وإنسانية ماضوية أو راهنة، وذلك بحسب طبيعة العلاقة والحوار والتواصل والصراع القائمة بين الثقافات والشعوب وأفراد الإنسانية جمعاء، في إطار التعبير عن إمكانيات التعايش والانصهار المشترك والاحترام المتبادل والتبادل الإيجابي الخلاق بين الثقافات المختلفة والمتنوعة والمتعددة، بعيدا عن الهيمنة الثقافية للأقوى، أو لثقافة الأغلبية، واحتراما للخصوصيات الثقافية المحلية.
ولم تكن الرواية العربية، في يوم ما، بمنأى عما يجري في عالمنا اليوم، في ملاحقتها للتغيرات السريعة والخطيرة التي يشهدها العالم، ولا سيما من حيث تنامي عديد الظواهر الشاذة التي تمس، بشكل مباشر ومؤثر، بصورة العرب والمسلمين، إثر التهم المتواصلة التي التصقت بهم، جراء تنامي حالات العنف والتطرف والتعصب والانغلاق…
من هنا، تتوخى هذه الدراسة مقاربة جانب من تجليات قضايا التعايش والتسامح والحوار الحضاري والسلام، وغيرها، من خلال نصوص روائية عربية، تتفاوت مستوياتها الفنية كما تتفاوت درجات تمثلها للموضوع، سواء على مستوى البنية الكتابية أو الزمنية أو المكانية أو الرمزية لأحداثها ووقائعها، أو على مستوى طبيعة القضايا والأسئلة الشائكة التي ترصدها، في انتمائها إلى تجارب روائية عربية متنوعة ومتفاوتة، في محاولة للاقتراب من مدى إسهام الرواية العربية، في مشاهدها المختلفة، في تمثل ثقافة التسامح والتعايش والحوار والسلام والمحبة وإشاعتها، وأيضا في نقل حالات الكراهية والتسامح والتعصب والعنف والتزمت والتطرف، بين الشعوب، حيث إن عديد الروايات، العربية والعالمية، لم تنتصر في محكياتها العامة لمشاهد التعايش والسلام في أبعادها الإيجابية، فقط، بقدر ما تناولت نصوص أخرى، وأحيانا داخل النص الواحد، الموضوع، في أبعاده السلبية المعاكسة لطموحات الشخوص ولمصائرها الحياتية والثقافية، كتلك الأبعاد المطبوعة بالتعصب والعنف والانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية، ما يدل على أن حالات التعايش والسلام في بعض الروايات، ليست دائما حالات مثالية، بل تبدو، في أحيان أخرى، وحسب رؤيتها للعالم، حالات مضادة ومفارقة لقيم ولثقافة التسامح والسلام، تعكر تلك الأجواء الموسومة بالانفتاح والتعايش والحوار.
وبقدر ما تتعدد الروايات العربية التي تفاعلت مع قضية التعايش والتسامح والسلام، بشكل كبير، بقدر ما تتعدد وتتنوع فيها مستويات تمثل عوالم التعايش والسلام والتسامح، بشكل يصعب معه اليوم حصر مختلف النصوص الروائية العربية التي تمثلت تلك العوالم، أو حتى حصر مظاهرها المختلفة، من قبيل ذلك التجلي اللافت لها، مجسدا في “رواية الحرب” و”المقاومة”، كما تستوحيه الرواية اللبنانية على سبيل المثال، أو في رصد الرواية العربية، بشكل مهيمن ومتواصل، لذلك التقابل الجدلي، الممثل أساسا في العلاقة بين الأنا والآخر، بما تخلقه هذه العلاقة من أجواء إيجابية، مرتبطة بضرورة تحقيق التعايش والتسامح والسلام والوئام والانبهار والاستغراب، بين الأنا والآخر، بحسب ما تفرضه الظروف الحضارية والتاريخية والسياسية والمادية والاجتماعية والثقافية والتقاليد والأعراف، ومن أجواء أخرى سلبية، حيث تتصارع القيم، لتصبح العلاقة بين الأنا والآخر، معرضة للتوتر والكراهية والصراع والعداء …
ومع تزايد هذا النوع من الأسئلة في عالمنا اليوم، أضحى لبعض الروايات منحى آخر، على اعتبار أن السؤال المحوري فيها، يكمن في مدى إمكانية تحقيق التعايش، كما في روايات الروائي الجزائري عمارة لخوص، المكتوبة بالإيطالية وبالعربية، من منطلق سؤال مواز مهيمن، يلخصه لخوص في كيفية العيش، في إطار هوية مفتوحة، رغم الاختلافات الدينية واللغوية والثقافية، بمثل ما جعل الروائية الفرنسية ماري كريستين سارغوس، إثر إصدارها لروايتها “يوم مشمس تتخلله رياح عاتية” (2012)، في تمثلها للحظات التعايش بين الأوربيين والمسلمين، وحالات الاستقرار، بعد الانتقال من مكان (الجنوب) إلى مكان آخر (الشمال)، ما جعلها خلال مسارها المهني تنتصر لثقافة الحوار والتعايش.
وبعيدا عن تلك النصوص الروائية الشهيرة، في انتمائها إلى جغرافيات روائية عالمية، والمعروفة بتناولها لموضوع التعايش والسلام في محكياتها، نجد أن الرواية الكردية، بدورها، قد تفاعلت مع الموضوع، بشكل بؤري ومركزي… فهذا الروائي الكوردي السوري، جان دوست، في روايته “عشيق المترجم” (2014)، يدعو، من منظور اجتماعي، إلى التسامح والتعايش والسلام بين عديد الديانات والمذاهب والطوائف، تحت راية الدين الإسلامي، في انحياز الرواية للإنسان، بشكل عام، وإلى ما يكابده، تاريخيا، من أفول حضارة وبزوغ أخرى، وما يواجهه اليوم من قيم مفارقة لقيم الأمس، ما ولد اليوم صداما ممتدا، بين الأديان والأجناس واللغات…
وخارج تلك النصوص الروائية العربية، المكتوبة بعديد اللغات، والمجسدة لجوانب من هذه العلاقة بين الأنا والآخر، نجد أن مسألة التسامح والسلام والاندماج، لازلت تحظى بحضور لافت في المتخيل الروائي، من منظورات متأخرة نسبيا، إثر تنامي الإرهاب والعنف والتطرف في عالم اليوم، وهو ما سنحاول ملامسته عرضيا، من خلال نصوص روائية عربية متفاوتة، على مستوى القيمة والجغرافيا، فقط للتدليل على مدى انخراط الرواية العربية في هذا الأفق الإبداعي والإنساني المؤثر، فيما سنتوقف، في مرحلة ثانية وبنوع من التحليل المركز، عند بعض الروايات الأخرى التي تفاعلت مع الموضوع، في انتماء محكياتها إلى أزمنة تاريخية متباينة، وهي تحديدا من فلسطين والجزائر والمغرب والسعودية.
فهذا الروائي السوداني عبد العزيز بن بركة، في روايته “الرجل الخراب”، يلامس قضية التعايش بين ثقافتين مختلفتين، من خلال شخصية سودانية مصرية مفارقة، حيث يعيش حسن درويش بفيينا بوجهين متناقضين، وجه للتسامح والاندماج ووجه للعنف والكراهية، لتنتهي الرواية على خلفية موت درويش، بعد أن لم يستطع تجاوز الماضي والاندماج في المجتمع الجديد الذي انتمى إليه.
في حين يتناول الروائي اليمني علي المقري، في روايته “بخور عدني”، موضوع التعايش، انطلاقا مما يولده من محن ومهددات، هي نتيجة طبيعية لتحقق هذا التعايش، في تجلياته المختلفة، مجسدا في الزواج المختلط وفي علاقات الجوار، وغيرها من الحالات التي تخضع مسألة التعايش لامتحان قاس، في إطار اختبار جديد لمفهوم الوطن، من زاوية بحث الرواية عن معنى، كما قال المقري، عبر رصدها لقيم التعايش في بعدها الديني والمذهبي والاجتماعي، من خلال شخصية ميشيل، في مدينة “عدن” تحديدا، في تغيراتها المشرعة على الفوضى والخراب وتزايد موجات العنف والاشتباكات بين الإثنيات والأديان، بخروج الإنجليز وتفاقم التطرف الديني.
أما الروائية المصرية فاطمة العريض، في روايتها الممتعة “سفر الترحال” (دار الطناني، ط 1، القاهرة 2013)، فترصد فكرة التعايش بين الأديان، من خلال نص يتأسس على فكرة الترحال وحالات السفر المكرورة، وبدوافع مختلفة، في مقابل تأكيد الرواية على فكرة البقاء والاستقرار، مجسدين في اختيار بعض اليهود البقاء في مصر، والدفاع عن حقهم في ذلك، في معارضتهم لتأسيس دولة إسرائيل على أساس ديني، حيث تتناول الرواية فكرة التعايش بين الأديان الثلاثة، في إطار من التصالح بين مختلف الطوائف، وبين المتباينين والمتعددين دينيا، والتي ترصد الروايات حالات التمازج فيما بينها، بعيدا عن الطائفية الضيقة، كما تمثلتها الرواية، في عوالمها الطافحة بالتسامح وبالمشاعر الإنسانية، وذلك من خلال ما تكشف عنه الرواية من حالات مختلفة، في انتصارها للبعد التسامحي بمصر، من قبيل طقوس الزواج ومشاعر الفرح ومناسبات الأعراس، ومن حالات التمازج والتلاقح بين أفراد الشعب الواحد، من المسلمين واليهود.
وفي هذا الإطار نفسه، تندرج رواية “مزدوج” للروائي المصري شريف عادل، في تناولها لقضية التعايش، انطلاقا من زوايا أخرى، حددتها الرواية في سؤال مركزي، يتعلق بمدى قدرة المسلمين والأقباط على التعايش وعلى تقبل الآخر، مسلما كان أو مسيحيا، وتقبل الاختلاف معه، بعيدا عن فكرة الاكتمال لهذا العرق أو ذاك، والرواية بذلك إنما تنادي، من خلال إحدى شخصياتها، لتعلم التعايش، أمام سيادة فكرة عدم قبول التعايش، وأمام فكرة الرفض التي تخيم على بعض العقليات، وأمام حالات الصراع الطائفي، وأيضا أمام رفض المجتمع لحالات الاختلاف.
وبالموازاة، نجد أن الروائي المصري يوسف القعيد، ذي الباع الكبير روائيا، في تنويعه لثيمات رواياته العديدة، والمعروف عنه، أيضا، كونه روائي الريف المصري، بامتياز، نجده قد تفاعل بدوره مع ثيمة التعايش الديني، عبر تناوله لقضية التطرف الديني والفتنة الطائفية، في روايته “قسمة الغرماء” (2004)، باعتبارها نصا يتمثل مفاهيم التعايش، هذا الذي اتخذ منحى آخر في مصر، إثر بروز التطرف الديني والفتنة الطائفية، نتيجة لما يولده ذلك من علاقات ملتبسة بين المسلمين والمسيحيين الأقباط، موازاة مع أن الرواية تنتصر للتعددية الدينية في مصر، ما يجعل تجربة التعايش معطلة، ومعرضة لمزيد من التقهقر والعطل، أمام سيادة نزعة تشكيكية في المجتمع المصري، سواء في الحرية الدينية أو في دور الأقباط المتهمين بالتعصب وبالعمالة، في الوقت الذي تنتصر فيه الرواية، من منظور روائي، غير قبطي، للروح الوطنية وللطرح الموضوعي.
وفي مستوى آخر، تنحو رواية “جرافيت”، للكاتب المصري هشام الخشن، منحى مغايرا، عبر تقصيها، من خلال لعبة المتضادات، لمسألة التعايش بين الأديان والطوائف والعرقيات التي كانت سائدة، في مرحلة تاريخية معينة من تاريخ المجتمع المصري، تمتد بين 1928 و1951، وهي الفترة التي كانت تعرف سيادة التعايش، قبل أن تتحول جماعة الإخوان المسلمين، نحو تبني أسلوب العنف والعمل الإرهابي، ما دفع بالمجتمع إلى التحول نحو حالات الانغلاق والكره ورفض الآخر…
أما رواية “المغاربة” (2016)، لعبد الكريم جويطي، فتنبني كل أحداثها على نفس روحاني خصب، فهي ليست سباقة فقط إلى استثمار متخيل المواسم الدينية والأولياء الصالحين والكرامات الذي أهملته الرواية المغربية، ولم تنتبه إليه، رغم أن البلد، وفي جزء كبير من هويته الدينية والمعتقدية، بني على إسهام المواسم والأولياء الصالحين والزوايا وما سمي عموما بالإسلام الشعبي. وفي رواية “المغاربة”، لا نجد توظيفا لهذا فقط، بل نجد استثمارا له في بناء العالم التخييلي للرواية ككل.
ترصد رواية “المغاربة”، في جانب منها، كيفية ولادة القداسة والولي والولية الصالحين في المجتمع المغربي، وربطهما بخرق العادة واجتراح ما يذهل الناس، فالروحانية بالأساس هي الحب، حب الآخر، حب الخير والصفاء والنور.
لذا، فرواية “المغاربة” تقدم نفسها باعتبارها نشيدا عظيما للتسامح، فحتى وهي تنتصر لحق المغرب في صحرائه، فإنها تعتبر أن أجمل حرب يمكن أن نقوم بها جميعا هي حرب تعميرها. ومن منطلق دعوتها للتسامح والتعايش والسلم، فقد ركزت الرواية على لوحة غويا الشهيرة “عراك بالهراوات”، ووضعتها في الغلاف، إذ تجسد اللوحة الصراع العبثي بين الناس، والذي تزين فيه فكرة لئيمة لكل من المصارعين بأن “العالم سيكون أفضل من دون أحدهما”، غير أن المنتصر في النهاية لن ينال شيئا. ماذا يفعل المنتصر بنصره، فالأرض من حولهما هضاب جرداء متفحمة، وهناك عاصفة تتجمع في الأفق وستدمر كل شيء…
“الرحلة الأخيرة” لهشام شرابي
جسدت الرواية الفلسطينية، والعربية عموما، جانبا من هذا الأفق الروائي المجسد لقيم التعايش والاندماج والصراع والعدوان والاتصال والانفصال ين الأنا (ممثلا في فلسطين) والآخر (ممثلا في العدوان الصهيوني)، كما ساهمت الرواية الإسرائيلية في استيحاء جوانب من هذا الأفق، في مفارقاته وتقاطعاته؛ نشير، هنا، إلى رواية “ياسمين”(2005)، في ترجمتها إلى العربية، للروائي الإسرائيلي إيلي عمير، بما ترصده على مستوى طبيعة تفكير المجتمع الإسرائيلي في قضية السلام والحرب مع المجتمع العربي، ممثلا في الفلسطينيين.
وشكلت القضية الفلسطينية، على وجه الخصوص، حيزا مهما ومركزيا في كتابات المفكر والروائي الفلسطيني الراحل هشام شرابي، وهيمنت بكثافة على تفكيره وأبحاثه؛ ولا أدل على ذلك من مواقفه المؤثرة والشجاعة والمحايدة من العوائق التاريخية الموروثة في مجتمعنا، وخصوصا مواقفه الجريئة من القضية الفلسطينية؛ همه الذاتي والإنساني والكوني.
ومن بين نصوص هشام شرابي المستوحية للقضية الفلسطينية، روايته “الرحلة الأخيرة”، الصادرة في طبعتها الأولى بالمغرب (1988)، وهي رواية عن “تجربة الثورة الفلسطينية في مرحلتها الذهبية”، في تأريخها لمرحلة ما بعد هزيمة 1967.
لقد تمكنت هذه الرواية، وبشكل مخالف كثيرا لما عهدناه في روايات عربية أخرى، من رسم مجموعة من الصور لشخصيتي “الفلسطيني” و”اليهودي” فيها، بمستوى فكري ونقدي جريء، وعبر شكل سردي مكثف ومتنوع التقنيات، تبعا لتوالي الأزمنة وتعدد الأجيال والأوضاع، وتباين المواقف والأدوار، تجاه الشعب الفلسطيني من ناحية، وتجاه الكيان الإسرائيلي من ناحية ثانية، وتبعا أيضا لتغير وتبدل كل طرف إلى الطرف الآخر. فكما تقف الرواية عند إبراز الدور السلبي لبعض اليهود، باعتبارهم أبطالا سلبيين يقومون بتشجيع سياسة الاستيطان عن طريق الإفراغ الإكراهي للعرب من دورهم ووطنهم، تتوقف الرواية، في مقابل ذلك، عند الدور الإيجابي لبعض الأقليات اليهودية المساندة للثورة الفلسطينية، وإن كانت بطبيعتها غير مؤثرة: “بعضهم كان يتفهم وجهة نظرنا. لكن الأكثرية لم تكن تتزخزح عن موقفها” (ص22). لذا، فاليهود –كما تصورهم هذه الرواية-نوعان، حسب إسحاق دويتشر: هناك اليهود اليهود، وهناك اليهود اللايهود (غير اليهود) (ص147).
وإذا كان الاهتمام برصد صورة “اليهودي” في الرواية العربية يبدو متفاوتا، من رواية عربية لأخرى، ومن منظور روائي لآخر أيضا، فإن رواية سميح القاسم “الصورة الأخيرة في الألبوم”، الصادرة عام 1978، والتي يشبه عنوانها عنوان رواية شرابي، قد سبقت، هي أيضا، إلى رسم صورة متوازنة لليهودي والفلسطيني فيها، من خلال الكشف عن جوانب من الزيف والوهم الذي رافق الصورة الحقيقية التي كونها كل طرف عن الآخر2.
عدا ذلك، لم يغفل السارد، من خلال وجهات نظر بعض الشخوص في رواية “الرحلة الأخيرة”، إبراز بعض الأخطاء الكبيرة في الرؤيا والممارسة التي وقعت فيها حركة المقاومة، في الأردن تحديدا، بمثل حكي الرواية عن بعض الفرص الضائعة التي كانت أمام الفلسطنيين والعرب، للخروج من المأزق الذي دخلت فيه القضية الفلسطينية، عدا مطارحتها وحكيها، كذلك، عن بعض القضايا والأحداث والتجارب السياسية التي صاحبت الثورة الفلسطينية، بما فيها مسألة الكفاح المسلح، والمقاومة، والاعتقال، والتعذيب، والمجازر، والعمل السياسي، والأنظمة العربية، والوضع العربي، والدعم السياسي، والمفاوضات، والسلام، واللجوء، والعودة، والتعايش، والحق في الوجود والحياة، وفي استرجاع فلسطين، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة.
ويتم تمرير ذلك، خارج البعد الأطروحي للحدث السياسي في هذه الرواية، ذاك الذي يعكس تباين وجهات النظر حول مسألة “التعايش” السلمي مع إسرائيل، وتلك أيضا مسألة ناتجة عن تضارب الأفكار التي يولدها الصراع القائم بين الأجيال، بين الجيل القديم من الإسرائليين والفلسطنيين من ناحية، والجيل الجديد من الشيعيين أيضا من ناحية أخرى: “لقد قام جيل يهودي لا يعرف إلا فلسطين موطنا له مقابل جيلنا الذي لا يعرف إلا فلسطين موطنا له. وفلسطين بالنسبة لكل من الجيلين شيء مختلف تماما. لقد تغيرت معالم فلسطين ولم نعد نجابه مهاجرين فقط، بل جيلا يهوديا يدافع عن مسقط رأسه..” (ص168).
فهل قيام الدولة الفلسطينية رهين بتحقيق التعايش بين الفلسطينين والإسرائليين، خارج تلك الفكرة القائلة بـــ “رمي اليهود في البحر”، كما تمت استعادتها وتكرارها في هذا النص، بمنظور مخالف وغير متعصب؛ فكرة تقوم رواية “الرحلة الأخيرة” بنفيها عن الفلسطينيين: “من قال إننا نريد أن نرميهم في البحر؟ لا حاجة إلى فعل ذلك، نحن لا نريد ان نفعل ذلك، انظر إلى ما حدث في الجزائر، رفض المستوطنون الفرنسيون حتى الاعتراف بأن هناك حقوقا للعرب الجزائريين، أصروا حتى اللحظة الأخيرة أن الجزائر هي أرض فرنسية، إنها فرنسا.. تماما كما الثورة الجزائرية لم يرم الجزائريون المستوطنين الفرنسيين في البحر (….) لقد تعايشنا مع اليهود قرونا عديدة، ونستطيع التعايش معهم في المستقبل، لكن ليس تحت حكم دولتهم العنصرية، بل في ظل مساواة كاملة. إنما الصهيونية بطبيعتها غير قادرة على قبول مثل
هذه المساواة. ولذلك يجب أولا القضاء على الفكرة الصهيونية كنظام، كدولة” (ص76).
غير أن الكيان الإسرائيلي، حسب الرواية، ما فتئ يعمل بطريقته الخاصة على تمثل تلك الفكرة وترسيخها ثقافيا وأخلاقيا، بل وتسخيرها سياسيا، كما يحاول استغلال البعد الإنساني فيها. يحدث هذا، في الوقت الذي ينظر فيه اليهودي إلى العربي من الجانب الديني تحديدا، وهو التفكير المهيمن في إسرائيل حتى على صعيد الشعور الذاتي، أي باعتباره قذارة، واقتلاعه مما يظنه وطنه، ورميه في الصحراء أمر يتوجب فعله لحماية الذات، ولا يشكل مشكلا أخلاقيا (ص148).
ذلك سؤال من بين أسئلة عديدة تصوغها رواية “الرحلة الأخيرة” بكثافة سردية ومتعة نادرة، وبصراحة كاتبها وجرأته الموضوعية، كما عهدناها في كتاباته عموما عن القضية الفلسطينية.
روايتا “كتاب الأمير” لواسيني الأعرج و”الإمام” لكمال الخمليشي
تجسد الرواية التاريخية مجالا مناسبا، لاستلهام قيم التعايش والحوار والتسامح في الأدب، في أبعادها التاريخية القديمة والحديثة نسبيا. وإذا كانت رواية “ليون الإفريقي” للروائي اللبناني أمين معلوف، تجسد أحد هذه الأبعاد المنفتحة على عديد الآفاق والكينونات واللغات والإثنيات والهويات والمذاهب والديانات، من خلال شخصية الحسن بن محمد الوزان الملقب ب “ليون الإفريقي”، فإن عديد الروايات الأخرى قد استوحت هذه القيم بمنظورات مختلفة وأحيانا متقاطعة، كما هو الحال، على سبيل المثال، في روايتي “كتاب الأمير” للروائي الجزائري واسيني الأعرج، و”الإمام” للروائي المغربي كمال الخمليشي، تحكي رواية “كتاب الأمير”(ط1، 2004) عن مراحل خاصة من سيرة الأمير عبد القادر بن محي الدين الجزائري في منفاه في فرنسا، وعن تحركاته الحربية وتنقلاته العديدة، بفعل المطاردة التي كان يتعرض لها من قبل الفرنسيين ومن بني جلدته، كما تحكي عن رحلته من باريس إلى تركيا بعد إطلاق سراحه، في حين تحكي رواية “الإمام”() عن جوانب من سيرة المهدي بن تومرت الملقب بـــ “أسفو”، في الواقع وفي الرواية، في رحلته إلى المشرق عبر أوربا، مرورا بمراكش وسلا وسبتة ومالقة وغرناطة وإيطاليا (باليرم)، ثم العودة إلى الأندلس والسفر إلى الإسكندرية فبغداد، بحثا عن كتاب “الجفر” بالعراق، فعودته إلى المغرب وقد عثر على مبتغاه، عبر المهدية وتلمسان، ثم وصوله إلى فاس، بحيث ينفتح المكون التاريخي –الرحلي، في هاتين الروايتين، على مجموعة من العوالم والفضاءات والأحداث والاكتشافات والاحتمالات والمغامرات التاريخية، على امتداد أزمنة الرحلة وتبدل الأمكنة والوجوه وتوالد الأحداث.
ولتمرير ذلك، تمثلت رواية “كتاب الأمير”، مثلا، شخصية مضاعفة، موازية للشخصية التاريخية المركزية، حيث تحضر في رواية “كتاب الأمير”، شخصية مونسينيور أنطوان أدولف ديبوش، أسقف الجزائر السابق، بكامل ثقلها ورمزيتها ووظيفتها ودورها في توجيه الأحداث والمصائر، باعتبارها شخصية تجسد قيم التسامح الديني وتنتصر للحوار الحضاري بين ثقافتين. فمونسينيور ديبوش هو من دافع عن الجزائر وعن رجلها الكبير، وجعل حياته كلها رهن تبرئة الأمير عبد القادر وإطلاق سراحه من سجنه بقصر أمبواز، بما يكشف عنه محكي “نفي” الأمير عبد القادر من حوار حضاري، ومن أجواء من التسامح الديني بين الأمير والأسقف أنطوان ديبوش، بالنظر لما يولده ذلك لكل واحد منهما من اكتشاف لثقافة الآخر، في أبعادها وصورها المختلفة.
في حين تتمثل رواية “الإمام” رحلة “أسفو” وأحمد مرافقه، بما تجسده الرحلة والرواية معا من حوار حضاري، خصوصا بين أسفو وبعض الشخصيات الأجنبية التي يصادفها في طريقه، وبما تراهن عليه من تسامح ديني ومخالطة بين المسلمين والنصارى في الأندلس، وفي إيطاليا على وجه الخصوص.
لذلك، تنفتح الروايتان معا على “الآخر”، في صوره المختلفة، وفي أبعاده وقيمه الإنسانية والحضارية والدينية، عبر انخراطهما الجريء في المشهد الحضاري الأوربي، وعملهما، أيضا، على إيصال ثقافة “الأنا”- في بعدها الديني خصوصا- وتفكيرها وهواجسها إلى “الآخر”، سواء في إسبانيا وإيطاليا، بالنسبة لرواية “الإمام”، أو في فرنسا والجزائر (من خلال المستعمر) بالنسبة لرواية “كتاب الأمير”.
ويتم بناء ذلك كله في هاتين الروايتين انطلاقا من رؤية لا تمجد الماضي وبطولاته، كما في الرواية التاريخية العربية ذات المنحى الرومانسي والمثالي الحالم، وعبر منظور انتقادي للذات وللآخر على حد سواء، يميزه سلوك عقلاني واقعي مطبوع بنكران الذات، وفق مواقف إنسانية عليا قوية لدى هاتين الشخصيتين (الأمير والإمام)، كما هو الشأن بالنسبة لاستنكارهما معا، على سبيل المثال، لمسألة الإعدام، وتنديدهما بالطريقة الوحشية التي ينفذ بها.
غير أن هاتين الروايتين، بالرغم من أجواء المصادفة التي تميزهما، من خلال بعض أوجه الشبه بينهما، فقد عملتا، أيضا، على رسم صورة تاريخية خاصة للشخصيتين المركزيتين فيهما (الأمير والإمام)، من زوايا ومنظورات تاريخية وتخييلية مختلفة، فيما يشبه يشبه كتابة ملحمة عن شخصيتين تاريخيتين، ودرس عميق في التاريخ وفي الحوار الحضاري والديني، عبر وعيين اثنين، وأيضا من خلال حضارتين وثقافتين غير متكافئتين.
فعلى سبيل المثال، تبدو رواية “كتاب الأمير”، وكأنها رواية جديدة عن “الحرب والسلم”. رواية عنيفة وثورية حينا، وهادئة وحكمية حينا آخر، كما تتوزعها حالتان أساسيتان: حالة من الصخب الذي تولده الحروب والفتن، وأصوات السيوف والبنادق والصراخ والعويل، ووقع حوافر الخيل الجامحة وصهيلها، وروائح الجثث المتعفنة ورائحة الحرق والبارود ورائحة ديبوش، وأصوات الكواسر والغربان والمدافع والقذائف، وحالة من السكون الذي خيم، لمدة طويلة، على قصر أمبواز، حيث سجن الأمير ومن معه، بما تخلل هذه الفترة من حوارات هادئة بين الأمير عبد القادر وزواره، وخصوصا مع الأسقف أنطون ديبوش، حول قضايا الدين والتسامح والحرية والخير والكرب والمرأة والخيل وديون ديبوش، وحول الرسالة التي بعث بها ديبوش إلى نابليون في شأن تمتيع الأمير بحريته.
كما أنها رواية ترد الاعتبار، في العديد من رموزها ودلالاتها، لصورة العرب والإسلام، بعد أن اهتزت هذه الصورة، نتيجة تضافر ظروف داخلية وخارجية، ساهمت تاريخيا في اهتزازها: “ها قد عدنا لإسلام لا يعرف إلا الحرق والتدمير والقتل والإبادة والغنيمة، كما ألصقت هذه الصورة بنا” (358-359). كما ترسم لنا هذه الرواية، في المقابل، صورة أخرى مختلفة للحاكم العربي، في بعدها الديني والثقافي المتنور، بعيدا عن تلك الصورة المستهلكة عموما عنه.
هكذا، إذن، يلجأ كل من واسيني الأعرج وكمال الخمليشي، في هاتين الروايتين، إلى المخزون التاريخي والفكري، ليتزودا منه، ليس فقط بحثا عن معرفة تاريخية موازية، بل بحثا أيضا عن تحليل ضمني للحظتين أساسيتين في تاريخ الوعي العربي بالذات والتاريخ، ضمن جدلية حوارية بين التاريخ والذاكرة والتخييل والسيرة والسلطة والقيم والمعتقدات، حيث يصبح الروائي، في هذه الحالة، حاملا لوعي ممكن، يبرز وقائع الحاضر بوضوح الماضي…
رواية “سلام” لهاني نقشبندي
تاريخيا، تعتبر الحقبة المجسدة لتاريخ التواجد العربي بالأندلس، من بين أهم الفترات التي تمثلت فكرة التعايش والاندماج، بشكل لافت وبؤري، وعكستها الروايات العربية وغيرها، بأشكال متفاوتة وبمنظورات مختلفة، ففي الوقت الذي استوحى فيه الروائي الإسباني إيدوفونسو فالكونيس، في روايته الثانية “يد فاطمة”، تاريخ حقبة الموريسكيين، في محاولة منه التأكيد على فكرة التعايش والاندماج والتزاوج بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية، تلك التي عرفها الأندلس، ما يجسده، في مستوى معين، جامع غرناطة… تمكنت رواية “سلام” (ط1، 2008) للروائي السعودي هاني نقشبندي، وفي وقت قياسي، من أن تلفت إليها الأنظار والتحاليل والمتابعات النقدية، بشكل واسع ومؤثر، اعتبارا لجرأة موضوعها وخصوصية فكرتها من ناحية، وأيضا للجهد الذي بذله كاتبها في البحث والتقصي التاريخي والاجتماعي من ناحية ثانية، حيث اتخذت “سلام”، من الأندلس، ومن التواجد العربي الإسلامي فيه، مجالا لبناء روائي- تخييلي- تاريخي، يتأسس على ترميز التاريخ وأسطرته، ربما لكون هذا النموذج، حسب الرواية، هو الأسوأ في تاريخ الصراع بين الأديان، حيث تقدمه الرواية من منظور مغاير لما ألفناه، سواء في كتاباتنا التاريخية العربية أوفي رواياتنا التاريخية، وغيرها.
صحيح أن روايات عربية كثيرة قد استلهمت تاريخ الأندلس، في تجلياته العديدة، وفي فتراته وأوجهه المختلفة، التاريخية والسياسية والاجتماعية والفكرية، حيث اختارت كل رواية زاوية، أو زوايا معينة، لبناء فضائها التخييلي ولاستعادة جوانب من تاريخ الأندلس، وشخصياته التاريخية، وسير مدنه، إلا أن رواية “سلام”، وإن شكلت فيها المادة التاريخية حيزا ضئيلا، قد تجسد بعض الاختلاف مع ما سبقها من نصوص روائية، استلهمت التاريخ، هي أيضا، اعتبارا لكونها رواية اختارت النفاذ إلى عمق التاريخ، انطلاقا من لحظة الحاضر، ومن استشراف المستقبل، وذلك بغاية تحرير التاريخ من سلطة الوهمي، ولتنزع عنه تلك الصورة التقديسية والوثنية، كما نتصورها نحن، من خلال الحلم بالفردوس المفقود، مجسدا في رغبة الأمير الشاب، في بناء قصر بالرياض، شبيه بقصر الحمراء بغرناطة، متوخية بذلك، أي الرواية، إعادة صوغ سؤال الأديان والحضارات والتعايش بين الهويات المختلفة. من ثم، فهي رواية تعيد خلخلة ذلك الانشداد العربي التاريخي والنوستالجي بالأندلس، باعتباره انشدادا غير مبرر، لا حضاريا، ولا تاريخيا، ولا وجدانيا..
تتغيا رواية “سلام” استثمار التاريخ، للحديث عن الراهن، هنا والآن، واستشراف المستقبل الإنساني، من خلال تمرير أطروحتها المركزية، والمتمثلة بالأساس في الدعوة إلى إعادة قراءة التاريخ العربي في الأندلس روائيا، بغية اكتشاف حقيقة التواجد العربي الإسلامي هناك، بما هو حالة تاريخية تقدمها الرواية بأشكال مختلفة، ضمنية أحيانا ومباشرة أحيانا أخرى، وذلك في صورة اصطدام وصراع مع الآخر، بغض النظر عن المبرر الديني والأخلاقي، هذا الذي يؤطر قصة فتح المسلمين لبلاد الأندلس، والذي تجده الرواية، من خلال ساردها المتواري، مبررا غير صحيح، لكونه ينبني في عمقه الروائي على خطأ تاريخي، بما هو صراع تتصوره الرواية ممتدا في تاريخنا الراهن، كما تخشى استمراره في المستقبل.
لذا، جاءت رواية “سلام” محملة بسؤال كبير يستفز به الروائي قارئها، من خلال أطروحة روائية واضحة، تمكن الكاتب من تمريرها بطرائق روائية- تخييلية متنوعة، مستلهما في ذلك محطات وصورا محددة من تاريخ التواجد العربي في الأندلس (الماضي) من أجل مساءلة “الحاضر”، واستشراف المستقبل، وذلك من خلال التنبيه إلى مزالقه وأوهامه الماضية، حتى لا يتكرر الصراع مستقبلا، هذا الذي تجسده الرواية في صورته العقائدية، وفي مرجعيته الدينية، بين فاتح، وقد تحول حسب الرواية، إلى “محتل وغاز” (الإسلام) وبين بلاد الأندلس (المسيحية). يقول سلام موجها كلامه للأمير عبد الرحمن: “هل تريد أن تجسد هذا العار مرة أخرى أيها الشاب؟ هل تريد أن تزيل الجرس من فوق الحمراء..أم يبقى الجرس؟”(ص 233).
من هنا، مساهمة هذه الرواية في خلخلة الوعي التاريخي العربي، عبر إنتاج وعي جديد بالتاريخ، لأجل فهم المستقبل، وعبر التنبيه إلى ضرورة تجنب حدوث كارثة أو اصطدام جديد مع الآخر، في بعده الديني تحديدا، بعد ذلك الذي حدث في الأندلس بين الإسلام والمسيحية: “لا أريد أن يستمر هذا الصدام.. لا أريد” (ص234).
وبذلك تنضاف رواية “سلام” إلى سلسلة الروايات العربية الجديدة التي توفقت في التأسيس تخييليا لخطاب جديد، ولحوار إيجابي مع الآخر، ومع الثقافات الأخرى، من موقع التسامح والاحترام المتبادل، وليس من موقع الصراع والإلغاء: “قبل أن نبني الحمراء مرة أخرى علينا أن نطهر أنفسنا. حان للمعركة أن تنتهي. لن ننتصر على أحد. لن ينتصر أحد على أحد. لأنه لا يمكن أن نحيا دون آخر نستمد منه بقاءنا. الأشجار الكثيرة هي ما يصنع حديقة جميلة. كذلك الأديان. كلها يقربنا إلى الله. وكلها يصنع إنسانا صالحا وحديقة جميلة” (ص 236).
في مقابل ذلك، يلاحظ تغييب لمنظور “الآخر” وصوته في هذه الرواية، فالمنظور المهيمن فيها بشكل لافت هو منظور “الأنا” (المنظور العربي الإسلامي)، في بعده التاريخي والراهن، فحتى السائق الإسباني “بيدرو” كان دوره محصورا جدا في الحكاية، وكأننا بالرواية هنا تلجأ إلى تبرئة الآخر من ثقل السؤال التاريخي الجاثم على وعي الشخصية العربية، باستثناء تلك الإشارة إلى الإسبان، من منظور الأنا، باعتبارهم “شعبا طيبا ومتسامحا”، كما تصفهم إحدى الشخصيات برحابة صدرهم، أمام ارتفاع صوت القرآن الآتي من أجهزة تسجيل وضعت أمام مداخل الحوانيت العربية في غرناطة القديمة.