شاعرة و الناقدة هدى كريد
تصدير
الشّاعر
غمس يده في الظّلمات عبثا
يده لم يمسسها سوء أبدا
يده لا تشرب اللّيل / حين سيرحل
نحن جميعا سوف نرحل / يخيّل إليّ أنّ ابتسامة ناعمة جدّا سوف
تبقى في هذه الأرض
ابتسامة لا تكفّ عن القول: نعم ونعم
للآمال القديمة والمخفقة كلّها.
يانيس ريتسوس
فلتتطهّروا بالحقائق أو لتقتلوا أرواحكم
وليبق الجنين داخل عنق رحم الرّماد
عائشة كمّون
قبل البدء كلمة
بيني ويبنك مسافات الشّغف وودائع الجنون وزوايا الحروف الحادّة وتجاويفها الّتي تخفي عبقا وبخورا مباركا أو أفاعي نسينا أن نخيط أفواهها في العرض الأخير…فقدنا ذاكرة التّمويه وأعدنا. للمهرّجين أزياءهم لم تكن على مقاسنا أو على ذوق الألوان التي نحبّ. فيك ما فيّ من نزق وتعال وحبّ.. كم عشقت أن تكسّري الفناجين في الخامسة والعشرين وأن تضرمي كلّ الحرائق التي أجّلتها دفعة واحدة.. كم أسعدني أن تكوني واحدة من نسل الفينيق يتوهّج بألوانه ويتخلّى عن حلم الخلود لتجريب الموت.. ومن رماده المحترق طائر جديد تنتابه شهوة الاحتراق كلّ ميلاد جديد …
(بالأمس كنت أغنية مرثيّة
واليوم عنقاء من بين الرّماد “ميلاد تحت القتام ص 21”)
أتعرفين لا انحياز عندي لأدب النّساء ولكنّي متورّطة في حبّ حرفك. جماع الهوى بعض ما سأقول
الكتابة عندها تتشكّل في لحظة متميّزة من الاشراق تلتحم ماهيّتها بالجمال أو القبح فتذيب الحدود وترشح بالمعنى والضّديد (ضحكات متقطّعة بجمرات ملتهبة). فيها تفور البراكين مجتمعة وتميد الأرض تحت أقدامنا. على أديم الورق الجنون هو كلّ شهواتنا السّريّة. والحرف وجه العشق الأوحد سرّا وجهرا وملء الحواسّ. نصوص تبنى بمدركات اليومي لترقى إلى الشّعر في صميم الصّور والإيحاء والعبارة المشحونة بالشّعور الرّهيف حبّ المغامرة مع شعرها لا ينقلب مقامرة خاسرة. رغم كمّ الأحزان وحرفها الموجوع والعالم الموبوء المأفون تحكم شركها فندخله طائعين.
العنوان
هو أهمّ عناصر النّصّ الموازي حسب Genette وتمثّل العناوين الدّاخليّة مؤشّرات لغويّة وهندسيّة.
عتبة النّصّ تصدم جنين في صيغة نكرة شيء كالبدايات يحمل كلّ الأوزار والمحن. شاذّ جوّابة آفاق أرضا وسماء الموت والحياة فيه صنوان بثوبه الزّفافي وكفنه وأسلوبه الحلزونيّ القاتم. لكنّه مرسوم في مركز النّور. بؤرة النّور على حدّ قولها أما المصدريّة في العنوان فتكثّف العدول. رحم الرّماد ظلمة مزدوجة مسكونة بالخوف والتّلاشي وربّما ثوى فيه لهيب.
ومن الصّور التي تلتحم باللّهيب قولها: نقطة الفصل في اتّساق النُّقاط
حولها أعواد الثقاب
ولفاف القِماط قصيدة صوت المطر
بذرة حياة لا ندري متى تولد
لا أدرك من أين جنين هذه البدرة
“سماء الحبّ”
هو أعاصير الثّورة المنتظرة
(كجنين في جوف الرّعد “قصيدة الكفن”)
ينبت في رحم القصيدة الوردة كعود المسك كلّما احترق فاح شذاه
يبقى حبلنا السّريّ بين أقطار الواقع المرير لأنّنا جميعا أجنّة صغيرة في الشّتات. هو طائر الفينيق عندها ورمزها الخاصّ الأكبر عذابا وانبعاثا، رمز تمّوزيّ جديد يشكّل عند العنوان علامة لسانيّة لا فرق فيها بين دالّ ومدلول أو مرجع وحين تتجاوز العتبة الواصفة تنحلّ العروة الوثقى فيشقّ كلّ مكوّن طريقه إمّا في تلافيف الغياب أو في غبش الضوء أو في وهج النّار، ينفصلان يتداعى البنيان رمادا ومسطورا على ماء
تقول “في حناجر الغرق”
(أرعى مشتل الأحلام
فوق حائط الرّماد
أو في باخرة الغراب
فالأفق كفّنه الرّماد)
وينمو الجنين على ضفاف القصيد في جنين الوردة الحمراء يشرب نسغ الوريقات أو السمّ الزّعاف و(عذابه رطب وثمر) من تمهيدها. لم يمثّل وإن كان ذلك يقع تقاطبا متناقضا مع انتظاراتنا ودلالات القصائد لاحقا.
هو معادل هي تلك المتضرّجة بالحمرة في الصورة في نوع من تقنية الدّمج المعتمدة في الكاريكاتير بين الثوب والدم.. هي كأميرة الحكايا نائمة أو ميّتة.. الظّلال كئيبة والنّور باهت كائنات كحِلية العقد لا ندري إن كانت للزّينة أو صورة نهش تحيط بالعنق والقدم.. لا شيء يعلن عن أمل غير نور تسرّب من هناك وحطّ على ذراعها.
الانفلات والالتزام
تحلّق القصائد إلى أضواء تفاوض عليها الفراشات بعيدا عن التّرّهات حينا وتنشدّ إلى وطن تدوسه أقدام الأدغال حينا آخر.
الانفلات
أوقعت الشّاعرة الفناجين في الخامسة والعشرين نزقا وسافرت في الظّلال هائمة في جزر الأسفار
تمارس طقوس انزوائها داخل قوقعة الذّات
تنصهر مع الرّيح وتدمدم مع الأمطار في تلوّنات رومنسيّة خارطة العالم هي أقواس قلبها المتكدّر. تسمع لحن الغواية.
من بعيد تمضي وهي تعرف قوانين اللّعنة جيّدا. علاوة على تصوّر رومنطيقيّ يجعل منها محورا للكون. فتنحصر داخل الذّات علّها تستعيد مفاخر المرآة.
صمت يجتاحها بين ثنايا قصيدتها فتتأرجح بين قوافيها وبين لحظتين تعانق رشفتها مستحضرة كلّ حالات غيبتها عابرة لابتسامة تغتال منظومة أحزانها. الإطلالة تحمل جواز سفر وقهوة لا تفقد أنوثتها. لقد كانت الطّبيعة ملاذا على طريقة الرّومنسيين تتسامى نحو السّماء أو تنحصر بين خنصر أو بنصر كأنّها تردّد ما قاله نزار قبّاني :
مارست ألف عبادة وعبادة
فوجدت أفضلها عبادة الذّات
كلّ الدّروب أمامنا مسدودة
وخلاصنا في الرّسم بالكلمات.
الالتزام
كنّت عنه في قولها
بقلمي الملطخ بالأحمر
غير أنّ الوطن كائن هلاميّ تناديه في نار الحطب
(أنا من سيقتلني البغاة يا وطني)
وطن بلا ملامح موبوء بدماء الشّهداء والحروب ورقص الذّئاب. الوجع كبير والأوصال تتمزّق على المخلعة.
(من هنا جرّ السّماسرة الرّداء
هي أكداس جثث
وحقل قمح من إبر “باخرة الغراب ص 23”)
ويفتقد ياء الانتساب ليكون وطنا بالف ولام الاستغراق، السّجون فيه جمع وكذا الجدب جماع كلّ الفصول
وقد تفارق المدائن جغرافيّتها ليقوى الرّمز. فيها العشاء الأخير وغراب دفن أخاه. تحشد ذوات داخل الصّارخة المستجيرة بالأمّ والأب رموزا لكلّ أصيل هما البهاء وما عداهما هباء
وليست قصائد عائشة إلاّ نعيا للوجود بأسره فأيّ اطمئنان إلى خور الواقع عندها هو لحظة سقوط. ولن تعانق أبجديّة كلّ اللّغات ذرّة معاناة واحدة ولو اجتمعت
(فالشدّة بساحات لها تقف
لا تعني لغة المجاز والتعدّد)
أحيانا يكون التزامها حلما طوباويّا. (تقول في تاج الشوك:
فلقد بقيت وحدي في المغيب
اعصر اقداح الضوء
لاصطاد نواة الشمس
وفي فيافي الصحراء
صيحاتك كانت صيحاتي)
وكلّ الصّيحات سدى. عالم موحش بوحشة الحواسّ والكلّ في نفس المضمار. ألقي بنا في هذا الوجود بلا نصير أو معين.. فليس إلاّ الضّياع وكم من سؤال إنكاري مترع بالتحسّر
(فأين ذهب الشفق والنّور
من قصيدة إسفنجة تمتصّ بؤسا)
انوثة القصيدة أو الحاكمة بأمرها (أنثى الشّعر)
يأتي بيان الأنوثة جليّا في “حناجر الغرق”
(أيّتها الحسناء
الشّقراء والهيفاء
إنّني حواء
أنا اللّون الفاتح الذي تحبّينه
واللّون الغامق الذي ستحبّينه
أرعى مشتل الأحلام
فوق حائط الرّماد
تلبسين الأحمر في عيون الشّعراء
البنفسج إكليل غارك
لا شيء غير قرارك)
تسفر هذه القصيدة عن شرعة الأنوثة رؤاها وأحلامها والنّبوءة الجديدة في عصور الانسحاق. غرقت الحناجر وبقيت واحدة تلعلع ناحتة الكيان لتلوذ من تغريبة القهر. هناك اصطفاء للمتلقّية في دعوة إلى الحياة. حينها تغدو المتكلّمة جمعا في صيغة مفرد داخلها كلّ نساء العالم، شقّ ثائر وشقّ عاجز.
وتتحوّل العبارة في ياقوت إلى مدائح تعلّي من شأن الهي (شمس ومنارة ومنبع لكلّ تمدّن وحضارة)
أمّا في “جنين الوردة الحمراء” فيحضر صوتان لكائن واحد في حضرة الاعتراف تقول ما كنتِ رائعة تروم الخصب لكنّ الشّعر تكسّر وصار السّيف مثلوما هزيمة على تخوم الشّعر والحياة تمادت في الأحلام لتعتلي بالنّعت والمجاز والغزل إذ أرادت الشّعر ماردا أحمر شقيّا يرجّ كلّ سكونيّة فقد دكّت الهزائم كلّ العزائم.
ونكاد نزعم أنّ الكتابة النّسويّة الجديدة مع عائشة تنزع نحو تجربة كيان إذ تكون الصّحائف المقدّسة بمداد الأنوثة بوّابة للخلود حين يحاصرها ضجيج الغياب. تحمل بين طيّاتها على الدّوام ضلوعا متهاوية تحت أياد متهاودة تنتظر العودة.
العاطفي
رغم أن الشّاعرة مشحونة بالعاطفة فمن العبث البحث عن غزلية تتمحّض للغزل. إنّما هي شذرات توغل في الرّمز وتضيع في لعبة ضمائر كأصابع نديّة.
المنطلق خطاب عاشقة توالي عشقها
(خذ ما تبقّى منّي
أريدك هنا
دوما معي
ماذا أقول عن عطرك اليوم)
ثمّ يحدث الانزياح الأعظم داخل الغزليّة والإنفجار الكوني الجديد في صليل العظام
(وتجفّ عيناي من قطرات عطرك
فأسيّرها في كلّ الكون
فترتوي)
الأنت ليس رجلا بقدر ما هو طوق نجاة من تغريبة الذّات المتصدّعة إلى أنثيين.
إنّها لا تعي
تقول لي والشّوق يحرث دمعها)
وفي صورة مغايرة يبدو طائرا تحت ظلّها تضع الأوامر بدلا عنه تحتاج إليه وتتجاوزه في ذات الوقت لتعود بتصميم إلى الامتحان. فلسفة الأنوثة متشعّبة وكذا ميسم الذّكورة. وهما صنوان يحيلان معا على الإنسان. فكأنّ العشق هو الكتاب الوحيد الذي لا تحترق أوراقه، أسطورة جديدة نصف خصيب عشقا ونصف خصيب إيمانا وإيثارا تزكو بدماء خضراء.
(لقد تشابكت يدي بيدك
فتكاثفت أغصان الشّجر “وشوشات حقل بلّوريّة ص43”)
قصائد الحنين “على وتر البلبل” نموذجا
يا سائلي عن بهجة كانت لنا
للسّعادة ذاكرة هي التي تفتح مجرى التّنفس تستحوذ الشّاعرة على رموزها وتلوذ بها من تغريبة الوجود ربّما هي اللّحظة الوحيدة القادرة على استعادتها في خضم ما ضاع. وبين الضّياع يتلبّس الكلام بها فتمارس لذّاتها الجنونيّة. هي كائن هروبي يتشبّث بتلابيب الذّاكرة كلّما صفعه الآن. فثمّة مساحات موغلة في العمق داخلها، تتأمّل بعيدا بعيدا علّها تنجو بتلك النّداءات المتشابكة المتكرّرة لرموز الأصالة (تقول: فلقد بنيت على ذكراهم دارا).
طلل جديد تذرف عليه دموع التّغريبة بعد أن خذلها قنديل الطّفولة الذي جفّ في التّراب وكؤوسها الملأى بالدّخان) تنتحب شاكية: (أبتاه ما زالت جراحي تنزف / أمّاه لم أجد العنوان قصيدة “باخرة الغراب”)
فأيّ ذكرى ستستعيد تغدو قفصا وحيدا يسافر استعادة لذاكرة مخرومة.
الصّور الشعريّة
في أعطاف الصّور قنّاصة بارعة تحاول أن تزهق الغربة بتموسق اللّغة أو المنجيات المهلكات من الصّور أو غلالة الألوان القشيبة ويبقى التّسريد حركة ضديدة للتّشريد وغريب الصّور ضحكة ساخرة إزاء العبثيّة نسجتها تتراقص حتى لا تندثر وما اختارته من رموز ذاتيّة تكاد تتمحّض لها إعراض عن نمطية الأساطير في الأشعار ليكون الخطاب الشّعريّ خطّا يشقّ طريقه بعيدا عن التّشريك.
الصورة الصّادمة النّافرة: حين أنصت إلى عائشة أدرك تماما أنّها تمتلك نغمتها الخاصّة. شتّان بين رقّة الكائن التّاريخي ووحشيّة الكائن الشّعري حين يتورّط في الوصف وصنع العوالم الممكنة لوجوده في لعبيّة تتيحها الصّورة وأكاد أجزم أن غرابتها فاقت كلّ حدّ. تبحث عمّا غاب في أغوارها البعيدة.
انظروا إلى جهاز المواضعة الخاصّ بها
(الطّيف تلاشى في خيانة نصف البريق.. نصف دقّة الخوف) ومفاهيم أخرى هي الما بين. والصور توغل في فجواتها البلاغيّة عليك أن تتخلّص من الكثير كي تفهم
(يا كونيّة الألوان
هل أناملك في شباك الغنم أم الغزل مرايا سفن المارّة تكسّرت)
ليس يسهل تفكيك الصّورة لنفهم تأسيسا لا يقوم إلاّ على الأنقاض وغزلا يشجب كلّ شيء إلاّ شظايا المكسور تشكلا بعيدا عن فلسفة القطيع .
(يا كوكب النومين )
يصدمنا العنصر الفلسفي الذي ينصهر في خضمّ المعتاد من الاستعارة. وما أكثر الصّور التي تكثّف من الفجوات البلاغيّة وأنظمة اللاّتناسب
(وعلى جدراننا يطرّزني الغبار
مخفورة بالشّمس
بين الحجر والصبّار
توأم النّور يشهق تحت البذور
خلاخيل كرز وسكّر
بقهوتي التي أصبحت باردة
كعقل جافّ بعين باصرة
مطهّمة مطعّمة
محفورة في الرّيح بين الغبار والمطر ص 46)
أيّ تطريز في هذه الصورة وأيّ تعال على أنظمة المعقوليّة تتشعّب المراجع وتتداخل حسّا وتجريدا ومشابهة واستعارة فيكون نومين شعري لا يدرك كنهه إلاّ في ذاته وداخل أنظمته.
الصورة المتوحّشة: تتفجرّ الآه فيها وفينا. حروفها متوحّشة تجرح وتنكأ الجروح ألف مرة
ومع الصورة هول نزف حادّ مرعب
(أمسكت بالسّياط وخليط فوق رأسي
بين الأحشاء زعباء الرقبة تنثر شتّى الألوان ..
وقفت في حضرة القصب
قبل ترمد الشّعاع في مجامر الشّفق
فالوتر كاسي منصهر منحرف
يا للقرف والوجع
وكم من دودة في الأمعاء ستبتلع
ولاتزال شوكة حروفي فوق مائدة مبذولة
مقيّدة في دفتر قديم
على جناح معتق مشنوق)
كأنّ الشّاعرة تقيم في فاصل الألم. تدفع ديّة البقاء وتوقفنا معها على حافّة الذّهول.
(لكنّ القبر بمدينتنا هناك
يحفّه الصبّار
وصوت بكاء وصحف الدّيار
تنهلّ الدّموع منها وتنزّ الدّماء
وقافلة دمي تسيل وتنساب)
الصورة المموسقة:
وإنّ التّوحّش في الصّورة لا يتخفّف إلاّ بالإيقاع صادحا فالكلمات صائتة كالأفعال الرّباعية في مصادرها طرطشة قرقرة أو صيغ الجمع خلاخيل أراغيل.. أو وحدات الموسيقى غرّد /أنشودة /سمفونيّة /تعزف /أوتار/ عود /أغنية / مزمار/ نعيق/ الرّعد/ طقطقة كعب المسمار.. أصوات وأصوات ولّدت أجراس الإيقاع أحيانا هادئة او كنفير الحروب
الإيقاع ملتبس جدّا في النّثيرة عندها بالصّورة السمعيّة كأنّه البديل عن التّفعيلة.
(توأم النّور يشهق تحت البذور ص46
ولم تقل شيئا…
سوى بكاء غزالة ونداء برزخ أزرق
لتكون عطر أغنية تغرّد ص 62)
إنّ الأصوات في الشّهقات أو الوشوشات أو في هدير اللّجج كلّها تحوّل الصّامت إلى صائت
(أنصت إلى الألوان)
أو قولها: (أين إيقاع الغواية ص 42)
تحاكي إيقاع الكون نفسه. الصوت هو الحبل الذي يشدّها إلى الحياة
(في أكتاف النّخيل
أطلق البوق النّحاسيّ النّشيد
نداء أعتق ظفر الشّهيد قصيدة الكفن ص 39)
صورة الألوان:
بما أنّ الصورة تمثيل مرسوم ترتسم الألوان والقيم الضوئيّة بكثرة فتتوثّق الوشائج بين الرّسم والشّعر وذاك ميسم القصيدة الحديثة. وآية ذلك:
(ذاك الطّائر الأحمر الذي غرّد ثمّ ثاب
والطائر الأزرق طار
أنصتوا إلى وشوشة الأعشاب
لنعدّ ضجر الظّلال فوق النعش الأخضر
فالنّحلة تقطّر الرّبيع من لعابها الأشقر.
أو رقصة رجل أخضر في القصر)
علاوة على الأسود والأبيض الحاضرين بالقوّة أو الفعل
(هيّئ الكفن بالنّدى
بلون أبيض وأسود أنصت إلى الألوان
أم يرقات الضّجر تطلق الظّلام)
تحتشد الألوان إذا زرقة وحمرة وصفرة وخضرة كي تعبّر عن نوع من ترف الصّورة وهدير الحياة بألوانها. انزياحا عن الألوان المعتادة :
(على الغصن الأبيض
على الغصن الأحمر)
ونوعا من إعادة بناء العالم تعابثه بالتّشكيل كما يعابثنا وتشقّ طريق بلاغة خاصّة بعد أن مسّ الأخرى الجنّ وانحدر قانونها.
(قانون البلاغة مسّه الجنّ
فأطرق قانونه وانحدر
“من جنين الوردة الحمراء”)
صورة الحركة:
يمكن أن نرصد الحركات التالية
- التّجاور: في المكان والزّمان وهو ميسم الإنسانيّة.
(أنصت إلى الألوان لنزيّن بها الكوكب فوق غصن الخراب.
هنا تجاعيد الوطن تحاكي الطّبيعة في كلّ الفصول)
- التّعالي: في المسار المقدّس والتّسامي الصّوفي
(أحلّق في صفاء السّماء
أعزف في القفار للطّيران
أنا ابنة الضباب)
- الارتداد والحنين: (بالأمس زارني طائر الغرام
يا سائلي عن بهجة كانت لنا
قد كان يوما حيّينا فيه الحياة “قصيدة على وتر البلبل”)
- التسمّر والتثبّت: ! العجز
(من سيجفّف دموعي بالورقة وعيوني مسمّرة بالشاشة)
! النرجسيّة
(أيا من أضاءت العتمة كم ساعة تمشي في القمّة
أو تعلّقت بمخلب طائر مربوط بيدي
أتوهّج بين الخنصر والبنصر)
صورة الاستعمال:
ينازعها المعنى القديم وفيها خلائط ووشائج بين القديم والجديد في مثل قولها:
(الفنجان الأوّل
كالظّبي الجميل قصيدة قهوة وقهقهة ص 54)
الصّورة قديمة واستعمالها مستحدث
وكذا الشأن بالنّسبة إلى وصف المعلّم في قصيدة أهل الهمم:
(إنّه فاق الثريّا أو كنجم ساطع)
من ذاكرة الاستعمال استقتها رثاء أو غزلا ووظّفتها إشادة بالمعلّم.
أو تخاطب كينونة مجهولة بصورة تحفر في ذاكرة الكلمات
(ومن بعد اللّقاء فارقني
يا أسنان الجمان)
ومن آيات الاستعمال في الصّورة (لعلّها اللّيلة الشيباء ص 49)
تذكّرنا بوصف ابن خفاجة للّيل
أو حديثها عن جمال الحسناء الهيفاء (من أين هذا الياقوت)
خاتمة
لم تكن كتابة مهادنة أو مدجّنة أو مسالمة كانت متنمّرة متمرّدة وحشيّة ديكتاتورية الكلمة تزهق حوارية الأصوات بالصوت الواحد لتكون قلما اشتعل بخطوط حبر واقفا على خطّ المواجهة مع الزّمن وكم كان له من حضور في دقّ السّاعة أو في توقّفها (عقارب السّاعة تمرّ منّي في أجزاء اليوم المتفتّت) “قصيدة ميلاد تحت القتام”
كلّ الدّلالة ساعات في عنقها تحترق وشيء منها مصطبح مغتبق وحين تضع الحرب أوزارها هناك على الورق تندلع المعارك داخلنا فنضع موضع السّؤال كلّ المسلّمات سواء في علاقتنا بذواتنا أو بماضينا وموروثنا أو بوجودنا أصلا.