بقلم: الكاتب محمد آيت علو
قَبْلَ أن ينزلَ سلَّم الطائرةِ الَّتي ستحُطُّ بمطار طَنْجَةَ بعد ساعاتٍ قليلةٍ، وقبل أن تُحاصِرهُ الكامراتُ والقَنواتُ التَّلفزِيَّةُ من كلِّ جانبٍ…انزَوى وانكمشَ قليلا مَزْهُواً بنفسهِ في آخرِ مَقْعدٍ بالدَّرَجَةِ الأُولى، وكأن لا أحدَ ينتبهُ لحضورهِ…ليكون كما يكونُ الآنَ في مقعده المنسِيِّ، وقد انعزلَ عن العالمِ، شيئاً فشيئاً راحَ ينزلِقُ في مقعدهِ الوثيرَ بعدما نزَعَ شَاله الأحمرَ، ودخلَ في حالةِ استرخاء، وها هو من غيابٍ إلى غياب آخرَ، يُراقِبُ خلفَ الزُّجاجِ زُرقَةَ السَّماءِ الَّتي بدَتْ كحليب البحرِ والسَّحابِ الخفيفِ…كانت الطائرة تخترقُ الفضاء، حاول أن يَلْمَس بأطرافِ أصابعِه الزُّجاجَ، يرى السَّماءَ في مُتَنَاوَلِ اليَدِ، شعر ببعض الدُّوارِ…فلم يكن يرتاح للسَّفرِ عبر الطائرة، لكم تمنى أن يكونَ لديه جناحان ليطيرَ بهما مثلَ الطُّيورِ والنُّسور ويحلق عالياً بعيداً في الفضاء، وكم حلم بأنَّهُ سيصيرُ طياراً يوماً ما، حينما كان صغيراً وهو يلعبُ بالطائرةِ الورقية…لكن لاشيء تحقَّقَ مِنْ ذَلِكَ، ولم تَعُدِ الأشياءُ كما تَصَوَّرهَا، الأصواتُ من خلفهِ تغلبُ عَلَيْهَا ثرثرةُ مشارِقة، كانُوا يتكلَّمُونَ بصوتٍ عالٍ، ضحكاتهُم أزعجتْ كثيراً الركَّابَ الذين كانُوا يُتابِعونَ شريطاً وثائقياً على الشاشة، كان المشارقة يتحدَّثُونَ عن بلدهِ، وبدَا بأنهم لايعرفونَ من أعلامِ وعلماءِ وكتابِ بَلَدِهِ إلا النزرَ القليل، ثم بدأت أصواتهُم تدخلُ مجالهُ في نفسه وذلك فيما يذكرون، أثارهُ ذلك بحمية وحنقٍ شديدين، أرخى أذنيه..لعلَّهُ يَسْتوعِب، كان كُلَّما سمع اسمَ بلاده تلوكُه الألسُن، إلا وأحسَّ بارتعاشٍ وغِبطةٍ ويقظةٍ يقشعِرُّ لها بدنُه، كما يزدادُ انتباهه وحماسَتهُ وعِشْقهُ وحنينهُ، حاول أن يبتسمَ لكنَّهُ نسيَ كيف…!؟ نافورة الذكريات تتدفَّقُ، وصمت وجههُ، أحسَّ كما لو أنَّهُ عاشَ هذه اللَّحْظةَ في زمنٍ آخرَ، أفضَتْ به الحالةُ إلى نوعٍ من اليقظةِ رغم أنه لم يكُنْ نائماً، شرد مع كلامهم الَّذي وصلَ إلى أعماقهِ وهو يمرِّرُ يدهُ على شعرهِ الرَّمادِي المتدَلى حتى العُنقِ، بدَا أنَّ أحدهم من جِنْسِيةٍ لبنانية والآخرُ مصريا، فيما كان يبدو ثالثهُم خليجياً من خلال لهجتهم، تنهَّد، تثاءبَ، راودَهُ شعورٌ بأن يصيحَ في وجوهِهم…ثم دفنَ هواجِسَهُ، فكلُّهُم يذهبونَ ويرجِعُون، كُلهُم يعُودون للعُشِّ، والحكايات لابدايةَ ولانهايةَ لها، كانت ذاكرتهُ في هذه الأثناء تركضُ نحوَ البعيدِ…تحتَ لهيبِ الشَّوقِ، لن يفهم أحدٌ ما عاناهُ وَكَمْ تَحَمَّلَ…فهو لا يجيدُ السِّباحةَ مع التيارِ ولا ضِدِّه، وحينَ كانت تجيء الريحُ كَكُلِّ مرةٍ، فهو لا يوصدُ البابَ في وجهِها، حتى وإن كان ثمةَ منفذٌ أو مخرج، وحين يستطيعُ الخروجَ ولو إلى داخله، لا يكونُ كما يكونُ إن أغلقَ الباب ليستريح، أما حين لا يكون للبابِ بابٌ فَإِنَّهُ كان يواجِه، أَجَلْ! كان يواجهُ بلباقة وحِنْكَة على الرغم من أنَّ الريح تكون أشد من الريح في أحايينَ كثيرةٍ، لقد داعبَ العواصفَ والتيارات الهوائيةِ والطَّواحينَ جميعها وبشيءٍ من المرونَةِ، ولم تستطع أيُّ ريحٍ أن تجذِبَهُ في اتجاهِها، وظل متشبِّثاً مثلَ جَبلٍ لا تهزُّهُ رِيح…يُنيرُ الفَوانيسَ كي يبقى في دَاخِلِهِ إنسَان….
ثم سمع صوتاً يدعو المسافرينَ للانتباهِ بشد الأحزمةِ وأَخْذِ الحيطَةِ والحذرِ….عمِلَتْ يدهُ في سُرعةٍ ومهارَةٍ…أما الشابة الَّتي كانتْ بجانبهِ فقد بدَتْ مَقدِسِيةً في العقدِ الثالِثِ، اشرأَبت بجسمها في إمعان نحو الخريطة وبخشوعٍ مُتناهٍ، كانت يدها معقوفة عليها، ثم ما فتأت أن حدَّقَتْ فيه مليا، كانت ملابسُها زاهيةً نظيفةً معطرة، تثبت نظراتها الناعسة الهادئة والتي لا تريمُ عنه، عيناها سحرٌ وصحاري ورُواء، أربكَتْهُ، طراوة خدها واتساعُ الرُّوح في عينيها، وابتسامتها التي كشفت عن تناسُقِ أسنانها وشِدَّةِ نصاعَةِ بياضها،..كانت رائعة، ثم دنت بوجهها الصَّبُوحِ، هامسَةً في أذنه بلثغة أخَّادَة، عن جمال جبال الأطلسِ، وهذا الشُّموخِ..وعن كَرَمِ وعفويةِ رجال هذه الرُّبوعِ، ومحبَّتهم لفلسطينَ وأهلِها، وتعلُّقِهم ببيتِ المقدسِ الشَّريف، ولم يكنْ هوَ ينبِس ببنتِ شفَة، كان ينظرُ إليها وَيَتَطَلَّعُ بإذعانٍ ونبضاتُ قلبِهِ تتراقَصُ…واكتَفى بتحريكِ رأسهِ للأعلى ثم للأسْفَلِ، ثم غامتْ عينيهِ برُؤاها وهو يلُفُّ الشالَ الأحمرَ حول عُنقهِ من جديدٍ، ليقبعَ بداخله تتابعُ الحدثِ، وقبل أن يَشْعُرَ بنشوةٍ أخْرَى أثقل، وهُوَ يستعِدُّ لمغادرَةِ الطائرة حيثُ تم الإعلانُ قبلَ قليلٍ من خلال مُكَبِّرِ الصَّوْتِ الَّذي أعلمَ الرُّكابَ بالوصولِ وبفَكِّ أَحْزِمَةِ المقاعدِ لقرب هُبوطِ الطائرة…، وهو في طريقه إلى سُلَّم الطائرة للخروجِ، لم يَكُنْ من السهلِ عليه مواجهةُ مُستَقبليهِ الَّذينَ احْتَشدُوا في طوابيرَ مُتَراصَّةٍ رهيبةٍ مَهيبةٍ، كان رجالُ الأمنِ ينتَشِرُونَ، والمصَوِّرُونَ يأخُذونَ أماكِنَهُم، وكاميراتُ الصَّحافيينَ تتخذُ وَضْعَها لرصدِ الحدثِ، كانت الأصواتُ تتَناهَى إلى سمعهِ، غادرَ مكانَهُ ورحلَ بعينيهِ، لم يكنْ منَ السَّهلِ عليهِ مُواجَهَةُ مُسْتَقبليهِ، يتقَدَّمهُم ابنُ بطوطة، وابن المعلم الطنجي ومالك بن المرحل، ولسان الدين بن الخطيب، وعبد الله كنون، والمكّي النَّاصِري، والمخْتَار السُّوسي ومحمد بن إبراهيم المراكشي وعلال الفاسي وعبد الخالق الطريس والحلوي وشكري… حفاوتهم لم تكُنْ عادية، ولم يتمالَكْ نفسَهُ، كادَ أن يجْهَشَ بالبكاءِ..كان المشارقةُ والمقدِسِيةُ يتطلَّعُونَ إليهِ، وظلالٌ أُخْرَى تشرئِبُّ وتَمُدُّ أعناقها، رأى أسوداً تعانقُه، وترَحِّبُ بهِ بالتمرِ والحليبِ، وبالزُّهورِ والوُرُودِ، خارج المطارِ بِركٌ صغيرةٌ من المياهِ، كانت بقايا الأمطار الَّتي هطلَتْ منذُ يَومينِ بشائر خيرٍ ورحمةٍ، وها هو يتشبت بأصحابهِ الطَّنْجي والتِّطوَاني والبَيْضَاوي والرِّباطِي والمُرَّاكُشي والسُّوسِي والصحراوي…ثم صحبهم إلى موكبِ السيارات مخلِّفاً وراءَهُ خيالَهُ الجامحَ والجُمُوع، وقد تجمَّعَت في عينيهِ يومَ ذاكَ صُورُ رجالٍ قَضَواْ نحبَهُم..وكانَ يَنْظرُ وَينْتَظِر….