بقلم: زهرة الغضبان / تونس
جلست في مفترق سبل الحياة أهدهد ابني الّذي غلبه النعاس على صدري ؛وسرحت عيناي؛وانتصبت أمامي أشباح الأزمنة الغابرة؛ وانتبهت من شرودي؛وعبثت بشعر ابني بحركة غريبة؛ عصر قلبي إحساس غريب غريب ؛ وقبض قلبي على أفلام لا حاجة لي بها وانتصب أمامي طيف الحاجة فاطمة رحمها الله؛ التي قضت شبابها بين الترمّل والشّقاء والحاجة……. منكبة على تربية إبنها الوحيد الّذي بلغ اليوم بفضلها أعلى المراتب ؛وتنكر للرّيف وأغلى كنز له فيه؛ فلا يسمح له منصبه أن يكون إبنا لعجوز تتوكّا على عكازوتلبس الحرام لقد فقد قلبه ؛ وحسب الماضي صفحة سوداء وإختفت من حياته . الحاجّة فاطمة تطلّ على عتبة الثمانين؛ قد إحدودب ظهرها، وإبيضّ شعرها، ورسمت السنوات القاسية تجاعيدها على جبينها ،ترتدي أطمارا بالية تسترها ولاتسترها، تجلس على كرسيّها القديم في بيتها المظلم الحقير. وكنت فتاة شقيّة أحسب الحياة لهوا ولعبا،أقلدها في مشيتها وهي تتوكّأ على عصاها، وأضع يدي على جبيني لأحجب بها أشعّة الشّمس عن عيني ّ كما كانت تفعل ، وصادف أن رأيتها ذات يوم منحنية على إحدى المزابل ،وتلتفت يمنة ويسرة كأنّها تتأكّد من شيء ما ،لمحتها تخفي شيئا تحت لحافها الأسود وتعود مسرعة لبيتها.التحقت بها دون أن تفطن بي ،ووقفت أمام بابها الموصد أراقبها من شقوقه ،جلست الحاجة فاطمة ،وأخرجت كيسا جمعت به الخبز اليابس وأخذت تنفض ما علق به من تراب ، ووضعته في صحن وغمرته بالماء ليصبح سهل البلع، وأرجعت الباقي إلى الكيس،ومشت متعثّرة لتحتفظ به. إنّها عاجزة عن كسب قوتها وشاعرة بالفناء يدبّ إليها ككل قوّة في نهايتها،تجهّم،وجهي كمن نزل به البلاء وتألمت كما يتألم كلّ حيّ لمفارقة الحياة ، وأسرعت إلى أمي،وسردت على مسامعها ماجرى ،فتألمت كثيرا وقالت بصوت حزين :دفنت شبابها بين الترمل والكفاح،مضمدة كلّ الجراح،وازدادت اليوم كلومها عمقا ،وناولتني طعام للحاجة فاطمة ،انطلقت أسابق الريح ،وكعادتي وقفت أمام بابها أراقبها من شقوقه ،رأيتها تلتهم الخبز المبلل بالماء بسرعة مستعينة بيدها بدل الملعقة .طرقت بابها طرقات متتالية قصد منعها من تناول ذالك الطعام المتعفن،انقبض قلبها واشرأبّ عنقها، وأسرعت تخفي الصحن، ومسحت بردائها يدها،وفتحت الباب واستقبلتني مبتسمة،ونسيت أن تمسح ما علق بشفتيها.جلست أمامها شاردة الذهن أنظر إليها،فتلتقي أعيننا لحظة، فتدرك كلّ واحدة منّا ما يجول بخاطر الأخرى،ثم وقعت عيناي على إطار قديم يحمل صورة شاب في مقتبل العمر، التقطتها وسألتها: لمن هذه الصورة ياأمي؟نهضت متعثرة وقالت:إحذري أن تقع من يدك ويتكسر زجاجها،واغرورقت عيناها الواسعتان بغصة من عبرة هاجت ولم تنزل،وربتت على كتفي قائلة:أنا أمه لقد غابت هذه الكلمة عن أذنها منذ زمن بعيد،ومدّت يدها المرتعشة قائلة:صورة ابني سامي،لقد أنسته مشاغل الحياة أمه وتنكّرللرّيف ،وسرحت عيناها كأنها تراجع شريط الذكريات،وتستحضر ملامحه، وقد تراكم غبار النسيان عليه.سألتها ألم يزرك من أمد بعيد ومازلت تذكرينه ؟ أفاقت من شرودها وأجابت بصوت حزين ،أنساه؟إنه قلب الأم يا صغيرتي ،لا ينساه ما دام ينبض، ولما عدت سردت على مسامع أمي ما جرى ،فتنهدت من أعماق قلبها وقالت :قلب الأم أكثر رحابة من الكون.من ذاك اليوم أصبح قلب الأم لغزا في حياتي يصعب حله وإدراكه وكلما سألت يقال لي :ستدركينه يوم تصبحين أما،وظننت أن قلب الأم كالمظخّة توزّع الدّم في كامل الجسد ،وإذا أصيبت أصيب الجسد ..في صبيحة عيد الإظحى أرسلني أبي للحاجة فاطمة لأصطحبها إلى بيتنا ،وكعادتي وقفت أمام باب بيتها الموصد أراقبها من شقوقه،رأيتها جالسة على كرسيها وقد أسندت يدها النحيفة إلى ذقنها ،ويجول بصرها في كل ركن من أركان البيت ،كأنها تلقي عليه نظرة الوداع ،فوقعت عيناها الزائغتان على صورة إبنها ،فتحلّب الريق في فمها ،وأخفت عينيها وراء كفيها،وأخذ صدرها يعلو وينخفض بسرعة كمن عصفت به زوبعة شديدة،وانفجرت باكية لشدّة ما كا نت تعاني من قسوة وألم .نهضت وجعلت تمشي مترنحة،وحملت الصورة بين ذراعيها تلتهمها ضمّا وتقبيلا،تمرر ّعليها بأناملها المرتجفة،ثم قربتها من عينيها الذابلتين وبلهجة حزينة متقطعة ذات مغزى قالت :هل إستهوتك المطامع أم سلبت عقلك العظمة الفارغة؟ثم وضعت الصورة جانبا ،ورفعت يديها إلى السّماء متوسّلة إلى الله أن يغفر لإبنها ،ويجمع شملها به لتضمه إلى صدرها.وفجأة تقتحم بيتها رائحة البخور متسرّبة من شقوق الباب، وتلتها أصوات عيارات بلاستيكية،وضجة الصغار في البطحاء يصارعون الأضاحي قبل نحرها،وبعد قليل تقتحم بيتها رائحة الشواء،وتستفيق الحاجة فاطمة من شرودها وتقبض على عكازها بكل قواها الخائرة،فيقعدها الدّاء وتقسو عليها العلة،فتستقرّ في مكانها مثبتة لا تقوم بحركة ولا تنطق بكلمة وفي نفسها ما فيها من حسرة وألم .وتتلمظ ريقها مرهفة السمع،علّها تسمع قرعا على بابها المهجور وقد ملت الوحدة والإنتظار،وتمسك عكازها ثانية عساها تقف وراء الباب وتسترق النظر من شقوقه،وعندها أتراجع مسرعة متظاهرة بأنّني قدمت وقتها،ولمّا لمحتني رجعت مسرعة حريصة كل الحرص ألاّ تحدث أي صوت، واندسّت في فراشها، ونسيت أن تخلع نعليها.طرقت بابها ودخلت ، فاستقبلتني بثغرها الباسم مقبّلة يدي وقبل أن أتمّ إبلاغها ما أوصاني به أبي ،سبقتني إلى الباب داعية لأبي بطول العمر والذّريّة الصالحة مكرّرة هذه الجملة ،كأنها أخذت درسا من إبنها .انتهت العطلة الصيفيّة والتحقت بالمعهد فانقطعت عنّي أخبار الحاجة فاطمة ،ولماّ عدت في العطلة قصدت بيتها ،وكعادتي اختلست النظر من شقوق الباب فلم أجدها ،انتابتني حيرة وهرعت مسرعة أسأل كلّ من اعترضني ، فأجمعوا على إجابة واحدة،لقد التحقت بدار المسنّين فكان في حياتي لغز واحد فهما الآن إثنان ،سألت أمي فأجابتني نفس لإجابة بصوت حزين ،وجم وجهي وأسبلت عينيّ،وعضضت على شفتي ،وفهمت من نبرات صوت أمي أنّها تحوّلت إلى ما هو أشأم .ولمّا عدت إلى المعهد سألت صديقي عن لغز دار المسنّين ، فأعلمني أنه بيت كبير يجمع فيه المسنّون الذين ليس لهم سند عائليّ ،وهو قريب من بيتهم ،وفي مساء يوم السّبت بعد انتهاء الدروس رافقت صديقي إلى بيتهم فوجدنا أمه قد أعدت قفّة كبيرة فيها طعام،وقبيل موعد الإفطار قصدنا دار المسنّين قدمت أمه القفّة لرجال يرتدون ميدعات بيضاء،ويضعون على رؤوسهم قبعات بيضاء أيضا تراجعت إلى الوراء ظنّا منّي أنّهم أطبّاء لأنّني أخاف الحقن ،فأعلمني صديقي أنهم طبّاخون،دخلنا فلمحتها عن بعد تتأمل صورة إبنها سامي ولا أدري كيف نطقت :يا لا قلوب الأمهات