بقلم: أ. عبد الرحيم بيضون
بعد ان اشتد مرض مباركة وأحست باحتضار ساعتها، أخذت توصي جارتها كريمة وأخريات بوحيدها “عريس الريحان” الذي يناهز اثنا عشرة سنة. وبعد أيام معدودات انطفأت شعلتها، وأفلت نجمته مباركة كمدا من جراء ادمان زوجها على السكر مع صاحبة الخمارة لتترك في قلبه-الصغير-الكبير-شرخا لا يندمل، لحظتها أحس أنه وحيد. ولم يجد من يواسيه ولا من يحن عليه ولا من يرعاه، سوى سممع الندى وزوجته كريمة وصديقه الرايس في غياب تام لأب ينادم على حانة “كل شيء على ما يرام”، بالمدينة الجديدة القريبة من مسجد لبنان، المغرم بصاحبته اليهودية التي لبسته وارتداها.
ومع الأيام، تناسى الجيران ” ملح الطعام” ولم يعودوا يهتمون به كذي قبل، ولو وفاء لروح مباركة- السوسية- وليتمه المزدوج (أم غائبة-حاضرة وأب غائب-حاضر)، أخذ يتغيب عن الأنظار, تائها بالشوارع وبجنبات السويقة وبالمحطة الطرقية وبمقاهي سوق الأحد. ليلجأ الى “واد لحوار” المؤدي الى الجحيم، بمملكة ” رهوط الحومة” الذين لعبوا برأسه وأشربوه “الجانكة” و”السيلسيون” فانسلت رجلاه وابتلي، لتتقادفته الأيادي الجارحة لسره الخفي.
فيأخذ سممع الندى وكريمة والرايس في البحث عنه في كل هذه النقط السوداء. ليفاتحوا معه موضوع الذهاب معه الى الجمعية، بعد أن ألبسوه وأطعموه وغسلوه ورافقوه الى المسجد كما كان في السابق…. اذ كان يحسن تجويد القرآن ويرتله ترتيلا، وكان يؤذن في الناس يوم الجمعة. وبعد أخذ ورد رفض الفكرة من أساسها، مما جعلهم يفكرون في حيلة أخرى، وجعلوه يؤمن بأنه سيشفى وسيعود الى حالته الطبيعية، وسيجد نجمته المفقودة.
مؤخرا يفضل الجلوس بالقرب من علي البقال-صاحب الخضر العفنة-منتهزا الفرصة لسرقة برتقالة أو جزرة، ليقتفي هذا الأخير آثاره قاذفا إياه بطماطمه العفنة، وهو يسب أصله وفصله، ناسيا أنه كان أول من علمه كيفية الصلاة.
وان رأوه قابعا بالقرب من الفران، يعلموا أن أباه عاد ثملا كعادته ليطرده من الدار ليخل له السهر مع شيقته الشقراء البارزة النهدين والعاجزين. فيضطر عريس الريحان للبحث عن مكمن لقضاء ليلة قارسة. ها هو جالس فوق كتلة اسمنتية ثملا ب”السيلسيون” و” الجانكة” – وسكر الأب ليس كسكر الأبن- مقوس الظهر, منحني الراس، في صمت مريب. فجأة رفع رأسه الى السماء باحثا عن نجمته لاحتضانها والتحدث معها كطفل صغير، وحين أحس باقترابها منه، توهم أنها ستهوي على رأسه، وما ان رفع يديه على رأسه لتفاديها فقد توازنه فسقط أرضا مرددا ” أخيرا أسقطت نجمتي. ويصيح “باغي ترجع لي ممتي”، بموتها “مشى عقلي أطار ت معها روحي”. أما “بوي” خلاني ما ميت ما حي، خلاني فريسة للذياب. مشى عندها كي شيء كلب، تدير فيه كي بغات”. ميمتي” نجمتي لي كانت مضوي علي، لي كانت تغطيني برضاها وبحنانها من برد قلب بويا القاسي على نفسه وعلينا”
وبعد ذلك أخذ يستعطف سممع والرايس ويطلب منهما أن يمنحاه درهما أو درهمين لشرائها. فيمتنع سممع بلباقة، ويحدثه الرايس بقساوة قائلا له:
– بدل ساعة بأخرى. ليتدخل سممع قائلا للرايس:
– مع من تتحدث؟ انه في حالة غيبوبة، “مرفوع”، وبالتالي فساعته غير ساعتنا وزمانه سديمي-رفع عنه القلم أثناءها امتدت يده لأخذ كأس قهوة الرايس -بخفة برق- فشرب منه ولعابه متواصل بين الكأس وفمه, وكل مرة يبصق فيلتصق أرضا محدثا صوتا كصفعة على خذ. استعطفه سممع وأعطاه كرسيا للجلوس بعيدا عن الرايس الذي أخذ يتضايق من تصرفاته المستجدة. لكن عريس الريحان لم يحس بالارتياح الا بعد أن جلس القرفصاء بالقرب من الرايس متخشبا، وفجأة انقض على قارورة ماء التي كانت بالقرب منه فشرب منها بدون كأس وأخذ يضحك بهستريا وهو ينظر الى القارورة، أعقبه بكاء صامت وتنهيدات عميقة عمق أربع سنين من التشرد وهو يحك رأسه الوسخ، ثم يغيب عنهما مع أنه جالس معهما. يغيب ثم يحضر بصوته الملحاح المؤثر الراغب في منحه درهما أو درهمين لشرائها. فأجلساه بمشقة وفرضا عليه أن يسمع اليهما، واتفقا معه على الذهاب معهما الى الجمعية لمعاينة حالته التي تتدهور يوما بعد يوم. وعريس الريحان يضحك ويصمت ثم يغيب بدون جواب. فاقترب الرايس من سممع قائلا:
– أتمنى أن نكون في الموعد المحدد للذهاب به الى الجمعية.
– سنقول له أننا سنذهب معا للبحث عن نجمته، بعد أن نسيناه ونسيه محيطه وأقرباءه وجيرانه.
أثناءها امتدت يد عريس على كأس قهوة الرايس مرة أخرى، الذي لم يتمالك أعصابه فصفعه وأخذ الكأس منه بقوة، فتدخل سممع لأبعاده، وبعد ذلك أحس الرايس أنه أخطأ في حق هذا اليتيم، الذي أخذت عيناه تدمعان مرتسمتان احساسا عميقا بالاحتقار، وانتفخت أوداجه وعروق عنقه، واصفر وجهه بعد حمرة، ثم جمع أصابع يديه المنتفختين، خلناه سيفاجئ الرايس بركلة فجائية في حجره أو بلكمة قوية في وجهه –كما يفعل مع الأخرين- لكن رد فعله مع الرايس كان مختلفا, اذ أخذ ينظر اليه مليا وكأنه يقول له في صمت ” حتى أنت….حتى أنت..” ثم انطلق كالسهم نحو على البقال ليصب جم غضبه على الصندوق المليء بالنعناع و المقندوس وأخذ يبعثره عن آخره ولاذ بالفرار وهو يصيح ” هل أنا بقة على وجه الأرض؟ “ثم انحنى على حجرة، أراد أن يرميها في اتجاه علي البقال فانفلتت من يده فكسرت زجاج نافدة مطبخ جارته كريمة التي أخذت تصرخ وتلوح بعصاها متجهة إليه، فرأتها كريمة وعارضت طريقها ووعدتها أن تغرم لها الزجاجة المكسورة قائلة لها:
– انه في حالة غضب قصوى، في حالة هيجان هستيري، والعيب ليس عيبه لوحده، بل هو جناية على من اوصلوه الى هذه الحالة.
– إنك تتصرفين معه أكثر من الازم، وتساهمين في تماديه، فيجب عقابه كي لا يقوم بفعلته مرة أخرى.
– تريدين أن أعنفه وهو مريض؟ وهو قبل كل شيء يتيم، وهذا من واجبي. هل نسيت خير أمه مباركة السوسية؟ هل نسيت حق الجوار والعشرة الطيبة؟ فيتم الأب أو غيابه قاسي، أما يتم الأم فهو أكثر قساوة مما تتصورين، والأمر من هذا أن جل الجيران يمكن وضعهم في خانة (همزة لمزة) – إلا من رحم ربك-
– قال الأول ” هذاك غير ولد مباركة السوسية محتاج لشرائها
– قال الثاني” مسكين…الله اهديه…” وتابع سيره
– قال الثالث ” ما بقى صالح…موته أحسن من حياة…”
– قال الرابع ” لهلا اهدي شيء مخلوق…انه يرعب ابنتي (مروة) حين تريد التسوق عند علي البقال وشراء الشوكولاطة المفضلة لديها
قال الخامس ” اتركوه يعيش، واليتيم أوصى به ربنا عز وعلا ورسولنا عليه ازكى السلام
أخيرا اتفق سممع والرايس على الذهاب بعريس الريحان الى الجمعية، على أساس اللقاء بنجمته هناك، فنفذا خطتهما بمساعدة كريمة. وما ان وصلوا اليها، استقبلتهم رئيستها بقلب رؤوف وطلبت من مساعدة اجتماعية ملء استمارته بالسجل الأزرق للجمعية: اسمه وتاريخ الازدياد ومكان سكناه واسم الأب والأم ورقم الدار والزنقة والحي والمدينة. وبعد ذلك أخذت الرئيسة تستفسره بلباقة عن وضعيته الدراسية، ووعدته أن تصحبه الى الطبيب- النفساني- للعلاج , وكتبت تقريرا مستعجلا, ومن بين ما جاء فيه:
موت الأم في غياب الأب – عدم اهتمام الأقرباء-انحراف-فاغتصاب-مظاهر تعنيفه– مظاهر مواجهته مع الأخر… اطلع عليه الطبيب، ووقف على كل كلمة-حالة، كما استحسن السماع لكل من سممع وكريمة والرايس وعلى البقال والأب-وان كان ثملا-.
وأعطاه اقراصا مهدئة من جراء الاحباط المزمن الذي يعاني منه عريس الريحان، وطيلة مدة العلاج لازم الدار والمسجد فاخذ يصلي ويقرأ القرآن كما كان في السابق، قبل أفول نجمته الساطعة، التي منحته قوة وشحنة لتجديد حياته…
وأروع يوم في حياته، ذلك اليوم الذي بشره سممع بأن الرئيسة عائشة-الشنة-تخبره وتطمئنه بإيجاد عمل له لدى سيدة ثرية، مالكة لضيعة بعيدة عن مدينة أكادير بأربعين كيلومتر، راغبة في مرافق لأبيها المريض. فتم اللقاء معه فرق قلبها ليتمه ولروحه البريئة ولحيويته المحبوبة ولطيبوبته، كما رق قلبه لها وكأنه رأى نجمته في تلك السيدة، فصار ابنا لها، وصارت أما له-بعد كريمة وعائشة بطبيعة الحال.
وبعد عامين من العمل والعلاج و الاهتمام، استعاد نفسه، واستعد لاجتياز امتحان السياقة بمساعدة السيدة لقضاء كل ما تحتاجه من المدينتين(انزكان واكادير) وحين يزور هذه الأخيرة, لا بد أن يتذوق (ملح الطعام ) عند سممع وكريمة والرايس, وزيارة علي البقال وبعض رفقاء الدراسة الاعدادية, ولا ينسى ابنة الجارة ربيعة التي أحبها- كان- وان كرهته أمها –كانت- وبعد ذلك يزور الدار الخربة وهو يفكر في اعادة بنائها, بعد أن وعدته السيدة وعائشة إعانته لتأسيس جمعية (نجمة) ليتامى حيه. فصار عريس الريحان معروفا بشهامته، خدوما لكل ناس الحي-سواء الأوفياء منهم أو من هم في زمرة (همزة لمزة)، صار فاعلا جمعويا، أحبه الجميع بعد أن أحب الجميع. وبهذا كون له أسرة بعد يتم مزدوج.