أ. عبد الرحيم بيضون
كان الطفل زياد جالسا على الطاولة يرسم على ورقة عادية شجرة الأركان. فسقط من يديه قلم أخضر فاقع اللون، وعثر أخته سلمى، فالتوت قدمها اليمنى متألمة، وأخذ يضحك عليها. نهضت شرارة متجهة نحوه واضعة بقوة القلم في فيه كي يكف من ضحكاته الساخرة. وكر فعل أخذ يمتص قلم الرصاص. فأخذ ريقه الاسود يسيل على ورقة الرسم، وعلى ملابسه وعلى الطاولة.
أثنائها كانت الأم منشغلة بالموبايل الذكي، تتابع برنامجها المفضل لديها حول الموضة. وما إن سمعت صراخ سلمى -التي تكبره بثلاث سنوات-صرخت في وجهه وضربته ضربا مبرحا فوق راسه قائلة:
- اترك أختك لحالها يا مشاكس، يا حمار.
- رد عليها بعفويته المعهودة: أنا لست حيوانا بل إنسان. كما قالت لنا معلمتنا لطيفة بروض شمس، وكما جاء في القرآن الكريم
- ردت عليه بعنف: اصمت يا جحش.
- رد عليها وعيناه جاحظتين: أنا لست جحشا، أنا فنان يا أمي، انظري الى شجرة الأركان كم هي مورقة، وستزهر عما قريب.
وأمام استمرارها في تعنيفه وتخويفه، بلع مادة القلم الفاقع لونه ومعها قطعة خشب. حبست أنفاسه، فسقط أرضا. ولم تعد أمه تدري ما تقدم وما تأخر، كما بقيت أخته متسمرة في مكانها لا تقوى على الكلام
ومن حسن الأقدار، دخل الأب، ورأى الأم في حيرة من أمرها، وسلمى متغيرة المزاج، وزياد في حالة خطيرة. فأسرع وأخذه من رجليه ورأسه إلى الأسفل، ويضربه على ظهره كي يخرج قطعت الخشب من حنجرته. كما استعانت أمه بسبابتها لإخراجها.
وبمشقة الأنفس اخرجت قطعة خشب، فتنفسوا الصعداء. وعادت انفاس زياد. الذي اخذ يضحك مع اخته بعيون دامعة، رغم المها في رجليها، والمه في حنجرته.
1
وبعد قليل، أحس زياد بوجع في بطنه. استدعى زيارة صيدلي الحومة. وبجرة قلم أنفقا ما يناهز مئتين درهما.
وبالصدفة الحسنة، التقيت بهما عائدين من الصيدلية، وحكيا لي ما جرى، وليس كل ما وقع، ولم أتردد في الدفاع عن هواية زياد. قائلا لهما:
- اتركا زياد يرسم خربشاته على الورق وعلى الطاولة وعلى الجدران حتى. فسخرا منى كما لم يعيرا أي اهتمام له ولرسمه لشجرة الأركان السرمدية، الفريدة، التي تتحمل اشعة الشمس الحارقة، الشجرة التي تكفي نفسها بنفسها بدون لقاح من غيرها، ومن جهلهما قالا لي:
- لو عرفنا ما سيقع لاشترينا له “كارط بوستال” بها شجرة الأركان وفوقها معز، واستغنينا عن كل هذه الصباغة. وتابعا طريقهما.
ورغم ذلك اخذ زياد يرسم بدون قلم الرصاص، لون الشؤم والمرض والجرح. وعوضه باللون الأزرق؛ لون السماء والماء والهواء والدواء، وباللون الاخضر السرمدي. وبقيت خربشاته ذكرى ملونة بألوان قوس قزح على جدران روض شمس. وبعد مدة أينعت شجرة الأركان، وتظللوا بظلالها الوارفة. وصار زياد من فناني المدينة.