الدكتور: محمد محضار / المغرب
دوار السبت كان يبدو هادئا، وغبش الصباح ينقشع عن سمائه رويدا. عبر الحقول الجرداء الممتدة ملء الأفق، لاحت بعض الأشجار العارية ومناطق من نبات الصبار .
عند ربوة لالا تُيوشَانِينْ 1وهو إسم يطلقه أهل المنطقة على شجرة تعلو الربوة،، بدت مدرسة الدوار بثوبها الأبيض، يحوطها سور من الطوب والحجارة أقامه الأهالي، وعلى بعد أمتار منها، قام بئر عمومي حفرته السلطات الفرنسية إبان استعمارها للمغرب، قديما كانت مروحته الهوائية تدور فتنقل الماء الى المجاري الإسمنتية، لكنها مع مرور الزمن تقادمت ولم تعد تعمل، فأصبح الأهالي يستعملون الدلاء للحصول على الماء، وهناك عند حافة الطريق المزفت المؤدي الى المدينة وقف محمد أحمق الدوار، وهو طفل لايتعدى عمره العشر سنوات يقدف الكلاب بالحجارة تارة، أو يمارس طقوسه الغريبة تارة أخرى. أطفال الدوار كانوا ينحدرون نحو المدرسة متأبطين محافظهم القديمة وأثر عمش النوم مايزال على عيونهم، كان صالح بينهم يمشي وحده الهوينا، محفظته الصغيرة تتدلى خلف ظهره، يحك يديه المتسختين الى بعضهما حتى يتدفأ، وهو يتجشأ رائحة الزيت البلدي (زيت الزيتون) الذي اِعتاد على تناوله عند الإفطار،.
وداخل ساحة المدرسة بدا المعلمون بميداعاتهم البيضاء يذرعون ساحتها جيئة ودهابا في انتظار موعد الدراسة. أما المدير فكان في مكتبه الصغير، منكبا على إعداد بعض الوثائق التربوية والإدارية كعادته.
اتكأ صالح على السور الطوبي مبتعدا عن التلاميذ، الذين إنصرف بعضهم الى الحديث في زمر، وانبرى بعضهم الأخر في اللعب. عيناه كانتا تلاحقان جحشا صغيرا يلهو ويتمرغ في التراب قرب أمه المنصرفة الى أكل بعض الحشائش القصيرة. هاهما الآن تنتقلان الى ملاحقة دجاجة منفوشة الريش تتبعها كتاكيتها. إن مثل هذه المشاهد تأسر فكر صالح، وتثير في داخله نشوة غريبة، فقد كان يجد متعته مع الحيوانات أكثر مما يجدها صحبة الأطفال من سنه، فهو مثلا يحب مداعبة حمار جده . جده هذا الذي يرتدي ثلاث جلابيب وبرنوسا خلال ايام الله
كلها دون أن يميز بين صيف أوشتاء، هذا الأخير كان يعنفه كثيرا ويطارده متى رآه يداعب حماره…
حل موعد الدراسة، بدأ التلاميذ يدخلون مصطفين الى ساحة المدرسة . انضم صالح الى زملائه الذين وقفوا أمام باب القسم.
داخل حجرة الدرس كان ساهما كعادته لا يعرف ماذا يدور حوله أويجري، كان التلاميذ يرفعون أصابعهم باستمرار، وأصواتهم ترتفع وهو لا يفعل شيئا. إنه عامه الأول بالمدرسة وهو يعيش حالة ارتباك وتشتت، كثرة التلاميذ كانت تمنع المعلم من الاهتمام بأمره.
كان وجهه الصغير واجما، وعيناه القسطليتان زائغتان تبحثان عن موقع دون جدوى، وأنفه الدقيق يفرز مادة المخاط المنساحة على شاربيه، ترى ماذا يدور بخلده…؟
اليوم قبل ان يغادر البيت في الصباح، عاش من جديد فصول الخصومة المعتادة بين والديه، وتكررت نفس المشاهد التي ألفها، فأمه تبكي وجلا، وأبوه يصب عليها جام غضبه، ويطوح بعصاه الغليظة في وجهها، رافعا عقيرته بالصراخ العاصف، لم تكن هناك قوة تستطيع أن تمنعه عنها فهو مالكها وصاحب الحق فيها، ناهيك على أن افراد أسرتها فوضوا أمرها كليا له، حتى يُقوّم نشوزها، وهي لا تملك سوى السمع والطاعة، لم يكن صالح يفلت من وحشية أبيه فكثيرا ما بصق في وجهه، او ركله بقدمه وهو يردد لازمته المعتادة..ابتعد يا اِبن العاهرة…وقد كان كل يوم يمر، يزرع فؤاد الصغير حقدا وضغينة على والده، بل انه تمنى له أكثر من مرة الموت حتى يرتاح، وترتاح معه أمه المغلوب على أمرها.
إنتهت الحصة الدراسية الصباحية، واندفع التلاميذ كالعادة نحو باب القسم يستحثون الخطى الى دورهم، فعصافير بطونهم تزقزق وعليهم ان يسكتوها بالخبز والشاي…
اجتاز صالح بوابة المدرسة وسط نفر من أصحابه وهو صامت، كان يسير مطأطأ الرأس، لكنه سرعان ما رفعه عندما مرق بالقرب منه بعض التلاميذ راكضين نحو البئر، كان هناك جمع غفير من النساء والرجال يكونون دائرة وأعناقهم مشرئبة نحو شيء ما، وعلى مقربة منهم بدت سيارة الدرك جاثمة، اندفع صالح بوازع غريزة حب الإستطلاع نحو الجمع ومالبث ان إنسل من بين الاقدام، ووقعت عينه على الشيء الذي إلتم حوله الناس، كان جسد أمه وقد تبلل كليا بالماء، واكتست بعض مناطقه ببقع من الوحل.إندهش أول الأمر ولم يصدق عينيه وتردد برهة قبل أن يندفع نحو الجسد المسجى، فيحركه بقوة صارخا ملء صوته: (أمي أمي فيقي أنا صالح)
دون ان يتلقى جوابا ..حاول أحد الدركيين أن يبعده عن الجسد بلطف زائد، لكنه تشبث به، ودفن وجهه في الصدر الحبيب الذي طالما ضمه، وانسلت الدموع حارة من عينيه . كيف يحدث هذا؟ من سيدفع عنه الآن شر والده ؟؟ من سيوقف وحشيته؟..لقد قُضّ مضجعه، وقُصّت أجنحته وليس له بعد اليوم الا السّماء.
. ….
1هذه الشجرة توجد بدوار السبيت بالعشاشكة منطقة السماعلة دائرة وادي زم.المغرب
محمد محضار وادي زم يناير 1986
نشرت هذه القصة بجريدة العلم يوم الأربعاء 12فبراير1986