الدكتور: محمد محضار / المغرب
الفصل الثاني
كانت علاقتي بأبي تشهد شدا وجذبا بين الفينة والأخرى؛ فبالرغم من الحذب الذي كان يشملني به، فقد كانت بيننا أزمة أفكار. كان له عالمه الخاص، الذي يتأثر بظروف عمله واحتكاكه باللصوص والقتلة والمجرمين؛ فهو دائما يقع في شرك التداخل بين عمله وبين حياته الخاصة.. فتراه يمارس لعبة الإسقاطات على كل أفراد أسرته، مستحضرا الهاجس الأمني بقوة في تعامله معنا.
خلال دراستي الجامعية، كانت نصيحته الأزلية لي: “إياك والإضربات! ابتعد عن اتحاد الطلاب.. لا شأن لك بالسياسة والأحزاب! اسمع يا ولدي، “الوقتْ صعيبة”.. هناك تعليمات لتقديم كل المشاغبين للمحاكمة. كن رجلا! لا تنس أن والدك رجل أمن محترم”.
كنت أحترم رأيه، وأشفق عليه؛ فهو يعاني ازدواجية في علاقته مع أسرته وتعامله معهم. كان هاجس الخوف حاضرا لديه بقوة، أيضا، بحكم عمله في الشرطة القضائية واصطداماته المتكررة مع أفراد العصابات وتجار الممنوعات. وانعكس هذا الهاجس سلبا على حياته الشخصية؛ فهو يحاول أن يوفر الحماية لأسرته، وفي الوقت نفسه يؤدي واجبه المهني على أحسن وجه.
ولعل الشيء الذي كنت أقدّره فيه أكثر وأثمّنه هو نقاء سريرته وتجنبه الرشوة والمرتشين؛ ما جعل وضعه الاجتماعي يظلّ متواضعا، عكس بعض زملائه ممن فضّلوا بيع ضمائرهم.. بالرغم من نصائح والدي الثمينة، فقد كنتُ خلال سنوات الدراسة الجامعية أشارك في كل أنشطة اتحاد الطلاب ولا تفوتني تظاهرة أو وقفة احتجاجية دون أن أسهم فيها بفاعلية، غيرَ آبه بالتضييق والقمع الممنهجَين اللذين كانا يسودان، سواء داخل الحرم الجامعي أو خارجه.. وطبعا، فقد نلتُ نصيبي من هراوات الأمن وعشتُ حمى الصراعات بين مختلف التيارات السياسية ودافعتُ عن قناعاتي دون خوف أو وجل. كانت تلك أسرارا خاصة بي؛ حرصتُ كل الحرص على إخفائها عن والدي، المهووس باستتباب الأمن والعاشق لتنفيذ “التعليمات”.
عندما أنهيتُ دراستي، اقترح عليّ ولوج سلك الشرطة؛ لكنني رفضتُ بقوة. قلتُ له: “أنا لا أجد نفسي في هذه المهنة، لديّ قناعاتي التي تدفعني إلى البحث عن مهنة تتوافق مع مبادئي الخاصة!”.. وكان من الطبيعي أن يقع التنافر ويكبر الخلاف، بالرغم من ذلك الهوس الوجداني المتبادل بيننا.
إحساسٌ غريبٌ أن تحبّ بجنون إنسانا يخالفك الرأي، وتحرص على أن تُسعده وتمنحه الفرح دون حدود.
كان والدي رجلا شريفا يمارس عمله بتفانٍ، ويحرص على ألا يزعجنا بالمشاكل التي تعترضه؛ وأقلها ضغط العمل ورعونة بعض المسؤولين. كنا نحس به وندعمه، وكانت والدتي دائما تقول: “والدكم طينة نادرة في هذا الزمن، يحبكم بجنون. لذا، حرص على أن تأكلوا الحلال الطيّب. لهذا، لم يخضغ لإغراءات المهنة وتجنّب الشبهات؛ السّي العْربي لا نظير له يا أولادي!”..
بعد سنة من العطالة، كنت أحسّ بوالدي يتألم لحالي في صمت ويدعمني، ماديا ومعنويا، ويحاول دائما تجنب إحراجي.
لم يعد يثير معي موضوع ولوج سلك الشرطة؛ أما أنا فكنتُ أحاول التكيف مع واقعي وممارسة حياتي بهدوء وانتظار ما ستحمله الأيام القابلة من جديد.. وكان ظهور سامية الفجائي بطعم المنجاة ولذة الكمثرى؛ ظهور جعلني أحس بأنّ لي قلبا ينبض ومشاعرَ تتحرك.
الحب يأتي دون استئذان، ويغير أمورا كثيرة في حياة الانسان. الحب قيمة إنسانية رفيعة ترتبط أبعادها بمدى رغبتنا نحن البشر في لمّ شتات أنفسنا وتجاوز محننا الكثيرة والتغلب على ظلم الطبيعة وجور الحياة. الحب.. ما أجملها من لفظة يرتاح إليها القلب ويأنس بها الفؤاد! فيها سكينة ودفء، وخلف فضائها اللغوي والمضموني مَشاتلُ خصبة من زهر الفرح وورد النعيم. وأنت، حين تدرك ذلك تحس بأنك قريب من الحقيقة، حقيقة الحياة والوجود؛ تحسّ بأنك تتخلص من أدران نفسك وذمامة واقعك. الحب.. يا لفاعلية هذه الكلمة وسحرها! في نطقها إيقاع راقص وسمفونية عذبة. فطوبى لمن يعتنق مذهب الحب، ويتشبع بروح ناموسه، والخدلان لأعدائه ممن ينكرون وجوده ويؤمنون بكل رديف للغلواء والحقد والشر..
هكذا، أحسست وهكذا فكرت؛ لكنْ هل لسامية الرأي نفسُه؟ كان أخي سليمان قد اختار ولوج سوق الشغل مبكرا، بعد حصوله على شهادة الباكلوريا. التحق بالعمل في إحدى الوكالات البنكية، بتدخل من أحد معارف والدي. كان سليمان إنسانا مرحا، يعيش حياته بعفوية كبيرة. وكان مهووسا بممارسة رياضة فنون الحرب، وقد استطاع تحقيق ألقاب على الصعيدين المحلي والوطني؛ كنا نلقبه بـ”المحارب”! كانت علاقتي به حميمية إلى درجة لا تصدق، فقد عشنا طفولتنا معا وكنا نمارس شغبنا الجميل في الشارع والبيت ونحفظ أسرار بعضنا البعض.. عندما حدّثته في موضوع سامية، ابتسم وقال: “أتمنى أن تكون من نصيبك!”.
الفصل الثالث
الشمس قرصٌ أرجوانيٌّ يتلألأ في كبد السماء، والجو صحوٌ هادئ. جلستُ في باحة مقهى الشباب وحيدا. أمامي كوب قهوة سوداء، وفي يدي تحترق لفافة تبغ. المقهى تضيق بالرواد، فاليوم يوم عطلة، والناس لا تجد ما تملأ به أوقات فراغها إلا جلسات المقاهي والثرثرة العقيمة والنميمة في بعضهم البعض. اقترب من مكاني شاب في حدود الثلاثين، ووضع كرسيه بمحاذاتي ثم جلس وطلب قهوة. قال وهو ينظر إليّ:
-المقهى مختنقة بالرواد..
قلتُ، وبصري شاخص إلى بعيد:
-الفراغ قاتل.. وليس أمام الناس إلا المقاهي ملاذا من شروره.
قدّم لي سيجارة، قبلتُها منه شاكرا.
-رأيتُك في المقهى مرة أو مرتين من قبل، لا أذكر.. يبدو أنك رجل تعليم؟
قلتُ:
-أنا مجاز معطل..
قال:
-لقد كثر، في السنوات الأخيرة، المتعلمون المعطلون.. الحكومة لم تعد قادرة على توظيفهم، لأسباب اقتصادية على ما يبدو.
ثم تابع، قائلا بلهجة متذمرة:
-أنا معلم مغلوب على أمري، وأنت تعلم أن المعلم محتقَر، والجميع ينظر إليه بنصف طرف؛ لأنه لا حول ولا قوة له.. ولا يقبض رشوة مثل موظفي بعض
القطاعات الأخرى.. وتظل حوالته العجفاء، التي يقتطع منها أحيانا ليعطي للمدير والمفتش، المنبع الوحيد لرزقه.
قلتُ معلقا:
-لكل جحيمه، يا صديقي..
ودون أن يهتم لتعليقي، تابع بصوت منفعل:
-تصور أن المدير يطلب مني إحضار علبة سجائر كلما قصدتُ مكتبه لقضاء مأرب إداريّ! أما المفتش؛ فقصته، على كل حال، ذات ذيول.. تصور أنه طلب مني، في آخر زيارة تفتيشية، أن “أسكره” على حسابي حتى أحصل على الامتياز.. ولم أجد بدا من الرضوخ.
سكت صاحبنا برهة ليسترجع أنفاسه، ثم استأنف كلامه:
-دنيا مْخربقة بحق، لا معنى لها. كم من مرة حاولت أن أفهم؛ لكن دون جدوى.. كنت أجد نفسي وسط الطريق وقد تقطع بي الحبل..
قلتُ، وعيناي تتأملان وجهه الأسمر النحيف:
-الإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا ليفهم؛ بل ليأكل ويشرب ويتناسل ويعيش حتى ينتهي، وكفى بالله وكيلا.
ضحك، ورشف من فنجانه جرعة ثم قال:
-معك حق.. كلامك صحيح. لا وقت لنا لكي نفهم، وحتى حينما نفهم نكون على حافة النهاية.
قلت:
-ليس أمام المرء أحيانا أحسن من اتباع سياسة اللااكتراث تجاه صروف الحياة وتقلباتها، وإلا جُنّ.
تواصَل حديثنا على هذه الوتيرة حتى شعرتُ بالملل؛ فودعته، وتركت المقهى قاصدا البيت. حاولتُ أن أقرأ قليلا؛ لكنني لم أستطع. استلقيتُ على الفراش، شخصتُ بنظراتي إلى سقف الغرفة، وحلّقتْ بي أفكاري إلى بعيد:
“أسبوع كامل انقضى علي وأنا أرتاد دار الحاج حكيم، وأجلس إلى ابنتيه سامية وحليمة، ثم أستمع إلى كلتيهما تعبّران عن ذاتيهما وتكشفان عن ذكائهما الفائق. أكتفي بالتوجيه وكلمات الإطراء. وأظلّ أحدّق في سامية، التي كانت تتفنن في ارتداء ملابس تكشف عن مفاتنها.. كانت عيناها الزرقاوان بحرا هائجا أغرق في أعماقه باستمرار، ووجنتاها تفاحتين تخلب لبي حمرتهما الشفقية، ساعداها ناصعي البياض، مرآة تعكس سحرا سرمديا. كانت شفتاها القرمزيتان تلمعان ببريق النشوة البكر، ونهداها المنحسران بين طيات ثوبها الشفاف تنطقان بلغة العشق. كانت هالة من الفتنة تحيط بمحياها العذب.. وأحاول، قدر المستطاع، أن أحتفظ برزانتي، وأضغط على مشاعري وعواطفي؛ لكنْ كيف وسامية جميلة جمالا يفوق التصور؟ وفوق كل هذا، فهي ابنة رجل له مكانة اجتماعية مرموقة. كنت وأنا أتطلع إلى سامية أتطلع إلى طبقة مجتمعية تعلو طبقتي، وأهفو إلى ممارسة ما سموه لعبة القفز بين الطبقات؛ لعبة يشهد التاريخ أن جل ممارسيها سقطوا في دائرة الفشل.. إن سامية ليست فردا أو ذاتا، بل طبقة.. هذا ما أحس به، ولكنْ باسم أيّ قانون تحرم عليّ سامية؟ فعندما خلقنا الله كنا سواء”…..
قطع عليّ حبل تفكيري صوت مزلاج الباب وهو يُفتح. رفعتُ رأسي لأجد أختي تتقدم نحوي بخطو خجول؛ قالت وقد اقتربت مني:
-هل كنت نائما؟
-لا.. كنت فقط سارحا ببالي.
جلست على حافة السرير، وعيناها تطفحان بنشوة غريبة وقالت برنة خجولة:
-أريد أن أكلمك في موضوع مهمّ بالنسبة إليّ.
-تفضلي إذن، أنا أسمعك…
تلكأت طويلا.. واحمرّت وجنتاها قبل أن تقول، متلعثمة:
-منذ شهرين، تعرفت على شاب.. قدّمته لي إحدى صديقاتي، والواقع أننا تفاهمنا.. وهو يريد أن يتقدم لطلب يدي هذه الأيام.
قلتُ وأنا أبتسم:
-وهل في هذا ما يخجل!؟ ليتقدم فتاك وستجدينني في صفك.
افترّ ثغرها عن ابتسامة عذبة وقالت:
-لقد طلبتُ منه أن يلتقيك أولا، فهل أنت مستعد لتلبية رغبتي هذه؟
-طبعا، أنا مستعد.. حدّدي الوقت والمكان، وستجدينني طوع الإرادة.
لم أكد أتمّ عباراتي حتى طوقتْ عنقي وأسرعتْ تطبع على وجهي قبلات متتالية وهي تلهج:
-كنت أعلم أنك ستوافق.. إنك الوحيد الذي يفهمني في هذا البيت.
نزلنا معا إلى الطابق السفلي؛ تغذّينا صحبة باقي أفراد الأسرة في الصالون، ثم شربنا الشاي. عدتُ إلى غرفتي لأخلد لقيلولة. عندما استيقظت كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة. دخلتُ الحمام، فاغتسلتُ، وحلقتُ ذقني. عدتُ إلى غرفتي وارتديتُ بدلتي الجديدة.. ثم خرجتُ قاصدا بيت الحاج حكيم.
ضغطتُ على زر الجرس كالعادة، فتحتْ لي الخادمة الباب، ثم قادتني إلى الصالون. وجاءتِ الحاجة زينب تخطر في ثوب فضفاض من المخمل الأخضر وجلست بمواجهتي وقالت:
-كيف حالك؟
-بخير، يا سيدتي.
ألقت نظرة على ساعتها اليدوية، ثم قالت:
-أظنّ أنّ سامية وحليمة توشكان على العودة.. فقد خرجتا منذ الزوال صحبة رشيد، ابن سيدي موسى، موزع مواد البناء في المدينة؛ لا شك في أنك تعرفه، له متاجر ومستودعات في عدد من المدن المغربية.
لم تكد تكمل كلامها حتى تناهى إلى أسماعنا صوت ضحكات منبعثة من البهو. علقت السيدة:
-لقد وصلوا.
كانت سامية تبدو منسجمة مع رشيد؛ أحسستُ بنار الغيرة تشتعل داخلي. مدّ رشيد يده محييا، وحذت حذوه سامية وحليمة. قالت الحاجة زينب وهي تقدّمني لرشيد:
-عبد الحق، ابن صديقتي السيدة نعيمة، والده هو السي سليمان، مفتش الشرطة المعروف، يقدّم دروس الدعم لكل من سامية وحليمة.
ردّ رشيد وهو يبتسم:
-تشرفنا.
ضغطتُ على أحاسيس الدونية التي كانت تضطرب داخلي، وشعرتُ بعمق المأساة وغورها. فكرتُ: “لا شك في أن رشيد همس في أذن سامية أحلى الكلمات، ولا شك في أنه خاصرها وهما يتجولان معا في الضواحي، بين الأشجار والزهور.. وربما أسندها إلى شجرة وقبّلها وهو يجول بأنامله بين ثنايا جسدها الأبيض الغضّ.. وما من شك في أنها انتشت كثيرا وأغمضت عينيها، مثلما تفعل العذارى”…
سألتني سامية، وأنا غارق في تفكيري.
-أين غبت، يا أستاذ؟ تبدو ساهما اليوم!
-لا، لا.. طبعا.. كنتُ فقط أفكر في ما سنراجعه اليوم.
-لقد وعدتني بمراجعة مادة الفلسفة.. وبالمناسبة، هل أحضرت لي كتاب “مدخل إلى الفلسفة اليونانية”؟
أسرعتُ أقدّم لها الكتاب وأنا أقول:
-وهل أنسى؟.. تفضّلي.
جاءتِ الخادمةُ بالقهوة، وشربنا جميعا، ثم استأذن رشيد وقالت له الحاجة: “سلّم لي على أمك”..
وانسحبتِ الحاجةُ، وبدأتُ المراجعة مع سامية وحليمة.
انسلخ من الوقت ردحٌ، وبدا علينا نحن الثلاثة شيءٌ من الإرهاق.. وقامت سامية، فأشعلت التلفزيون، قدّموا إشهار سيارة “ريكاطا”.. قالت حليمة:
-سيارة رشيد مثل هذه.
وتابعت ضاحكة:
-ريكاطا بليسما.
وقدّموا أيضا إشهار “رونو 18” و”أونو”، ثم قدموا نشرة الأخبار؛ قالوا فيها إن الحرب مستمرة بين العراق وبين إيران. وقالوا إن السيارات الملغومة تهز بيروت، وإن روسيا تستعمل الأسلحة الكيماوية ضد الثوار الأفغان. ثم قالوا إن الدنيا عندنا بخير، والطقس سيكون جميلا يوم غد.. مباشرة بعد ذلك، شرعوا في عرض مسلسل مصري اسمه “الناس معادن”. وجاءت الخادمة تدعونا إلى العشاء.
كان العشاء زاخرا بالوجبات اللذيذة والصحية في آن. لم تكن شهيتي مفتوحة. وبالرغم من ذلك، تحاملتُ على نفسي واستمررتُ في الأكل حتى لا أثير ريبتهم. كانوا سعداء، وكلماتهم المتبادلة تنم عن ذلك. كنتُ أنا وسطهم غريبا، أتخبط في بحر التناقض. انتهينا من العشاء، واجتمعنا من جديد في الصالون، وشربنا الشاي. استأذنتُ في الذهاب، وقامت صحبتي سامية. أمام الباب، وقفتْ تنظر إليّ مبتسمة، منتظرة أن أهمس لها كالعادة بكلمة “إلى اللقاء”؛ لكنني تجرأت وضممت كفها بين راحتي، وقلتُ بصوت خجول:
-أنت جميلة.
ردّت ضاحكة:
-حقا؟..
-بل ساحرة وفاتنة.
قالت بنبرة تنمّ عن الشعور بالرضا:
-رشيد قال لي الكلام نفسه.
-رشيد!
-نعم، رشيد.. إنه شاب لطيف، وقد حدثته عنك بما فيه الكفاية.
-حدثته عني.. وماذا قال؟
-لم يقل شيئا، اكتفى فقط بالابتسام..
وبجرأة لم أعرف كيف واتتني، جذبتُها نحوي واعتصرتُها بين ذراعيّ، وطبعتُ على شفتيها النديتين قبلة محمومة، وأنا أرتعد.. لم تقاوم أو تُبد صدودا.. لكنها أزالتْ يدي من حول خصرها بلطف وقالت:
-تصبح على خير.
ثم أغلقت الباب وقفلت عائدة إلى الداخل. انطلقت أشقّ طريقي بخطى متذبذبة. كان الظلام شديدا، وأضواء المصابيح العمومية تبدو باهتة. قفزتْ إلى ذهني صورة سامية، وتمنيتُ لو أن تلك القُبلة التي أخذت منها طالت.. وجاءت صورة رشيد على حين غرة، تطرق بالي دون استئذان.
إنه فتى سامية المفضل، ويبدو أن أمها أيضا معجبة به وتشجع على قيام علاقة بينه وبين ابنتها. ولكنْ ما لي أنا وما لسامية ورشيد؟ ولماذا أجهد ذهني بالتفكير فيها بهذه الكيفية فيما هما ينعمان براحة البال؟ إن سامية ورشيدا إذا “تحابا” فستكون صفقة “حبهما” أكثر ربحا لكليهما؛ فهما ينتميان إلى الطبقة ذاتِها، ويمتلكان الثقافة الاجتماعية نفسَها. مثيلات سامية ممن ينتمين إلى الطبقة الراقية يفضلن رجلا من الطبقة ذاتها يكون بمثابة “دفة”؛ وبعدها، يتمتعن بحياتهن الخصوصية كما يردن، وليس مهمّا مع من.
قد تكون فكرتي مغلفة بالسداجة أو خاطئة ، وربما كان سببها الاحساس الكبير بالدونية،لكن ما باليد حيلة فأنا بشر ولست قادرا على التحكم في انفعالاتي وتوتري ، حتما هي عُصارة الألم ، وقمة
الشعور بغياب القابلية تستوطن كياني وتستشري في شراييني ، لتعلن عن نفسها إضطرابا واِرتياعا يسرح في ثنايا وجهي ، ويطرد ذلك التلألؤ الجميل الذي أحسست به في دواخلي حين قبلت سامية ولو بغير رغبة منها .
كان هذياني يزداد وأنا أسير بخطى ضائعة دون هدف ، و تنامى لدي شعور قوي بالغبن ووجدتني دون وعي أكلم نفسي وأخاطب الفراغ” يازمن اليباب والاندحار كم شمساً غابت في عمق قرارك؟ وكم بدراً ابتلعته حلكة لياليك القاتمة ؟ .وليس اليوم بيني وبينك إلا نفس مهزوزة وعبرات ضائعة من مقلتيّ الشاحبتين لن أقولَ شيئا سأكتفي بابتلاع غصّتِي و انتظار المجهول”.
استمرت هذه الهلوسة والهذيان يطبقان على دماغي حتى وصلت إلى البيت. دخلتُ إلى غرفتي توا، ثم لبست “بيجامتي” وخلدتُ إلى النوم.