بقلم الأديبة ليلى المراني/الدانمارك
اشتدت حرارة الجو لدرجة لا تطاق، الناس في الشوارع يلهثون وسياط الشمس تطاردهم دون رحمة، حتى السيارات بدت هي الأخرى تلهث، تكاد تنفجر… المُذيع يعلن على شاشة التلفاز أنها موجة حرّ غير مسبوقة تمرّ بها البلاد منذ أكثر من ثلاثة عقود… تنعقد سحب لاهبة من الحر والاختناق في مستشفىً للولادة في بغداد حيث تزاحمت أصوات نساءٍ يشتمنَ اليوم الذي تزوّجنَ فيه، وأخرى تستجدي الرحمة والعون من ربّ العالمين ومن الأولياء الصالحين، امتزج العرق بالدموع، وبمياهٍ ساخنة تنهمر من أفخاذ نساءٍ هربت الدماء من وجوههن، آلام مُحتقنة… أجساد مُنهكة اتخذت من الممرات سكّة ذهابٍ وإياب، علّ الطلق يتسارع والجنين الذي يأبى أن يغادر دفء رحم أمّه والأمان، يرأف بحالها،
وحدها هي تتكوّر على السرير الأبيض كأرنب مذعور، عيناها تنزفان ألماً مكتوماً وخوفاً من المجهول الآتي، وهو متحفِّز قلِق، يجلس أمامها، يستقرئ قادماً مُبهماً يُريده ذكراً؛ فقد أنجبت له ثلاث بنات، ولن تكون الرابعة، وإلاّ…
يفتل شاربيه مُحذّراً؛ فيتضاعف خوفها، اشتدّ بها الطلق، أخذت تقضم أظافرها حتى سال الدم قانياً من أطراف أصابعها، يمتقع وجهها، تكتم صرخةً كادت تفلت من فمها، حين صدتها نظرة غاضبة صوبَّها نحوها، ” تحمّلي، هذه ليست أول ولادة لك..”، رصاصاً أطلق كلماته المُهدّدة؛ تطلّ ملاك الرحمة بثوبها الأبيض، توزّع نظراتها بينهما، مستفهمةً:
– لماذا لا تغادرين الفراش؟ هيّا انهضي، تمشي قليلاً.. هواء الغرفة ثقيل..
– دعيها، هي متعبة لا تستطيع الوقوف..
– سأساعدها..
وقبل أن تتوجه إليها، صوّب نحوها نظرةً مُحذّرة كالسيف القاطع، ابتلعت المُمرضة كلماتها وهرولت نحو الباب، تلعن… ناح صوت مُرتجف في صدرها وهي تقبض بأسنانها على الشرشف بقوّة حتى مزَّقته، ” يا رب، ليكن ذكراً، حتى لو كان الثمن حياتي… من أجل بناتي الثلاث، يا رب..”
وفِي صدره هدر صوت مُهدِّد، ارتجف له شارباه الكثّان،” لن تري وجهي، أقسم بكلِّ الأنبياء والرسل لو جاءت بنت رابعة.. سأتركك هنا تتعفنين، أنت وابنتك يا بنت ال….”
أصوات الاستغاثة والوجع أخذت تعلو في الممرات والغرف، أقدام تروح وتأتي، وصرخة مولود جديد يعلن مجيئه للحياة؛ فتعلو ابتسامات واهنة تلك الوجوه المتعبة..
اشتدّ بها الطلق، جحظت عيناها، عضّت على يدها محاولة كتم صرخة ألمٍ تمزِّق أحشاءها… تهالكت على نفسها، وقفت وسائل شفاف يغرق ساقيها، ركض يستدعي الممرضة، الوقت يمضي بطيئاً، صراخها يصمّ أذنيه؛ فيلعنها..
قلقه وتوتره يزدادان عنفاً، يمسح عرقاً تصبب من جبهته، يفتل شاربيه، ويبصق..” يارب ولد… أريده ذكراً يحمل اسمي..”
في القرية هناك، حيث أزيز الرصاص لغةٌ معبّرة عن الأحزان والأفراح، تنتظر النساء، وينتظر الرجال عميد قريتهم يأتي حاملاً ابنه، ويتراكض الصغار يتدافعون فرحين، يلتقطون الحلوى تنثرها النساء على الوليد السعيد..” ماذا أسميه؟ أسعد، حليم.. أمجد، ياسر.. لا ، لا، خزعل، نعم خزعل على اسم جدّه… أسم كلّه رجولة..”
يتيه بأحلامه، يوقظه صوت الممرضة تستدعيه..
– مبارك..
– ولد.. أليس كذلك؟
– بنت، مثل القمر..
دارت الأرض به، كاد يسقط، تفجّر رأسه دماً وتهدّلت كتفاه… وقبل أن يكرّر السؤال يخترق طابور النساء المتوجعات، كالبرق راكضاً إلى الشارع… يضيع في الزحام….