صلاح الحضري/ تونس
التي سيقت إليكم كادت تتحوّل إلى حقيقة لولم أتمكّن من الفرار. نعم الفرار من السفّاح الذي دبّر قتلي رفقة شريكة عمري وبموافقة أبنائي الأعزّاء على قلبي (تعمّدت السكوت برهة حتّى أشاهد ردة فعلهم. حقّا يبدو أنّ شحوبًا قد اعتلى بعض الوجوه. واصلت كلامي مضيفا) : لو أردتم التعرّف إلى هويّة السفّاح الذي أتحدث عنه فيكفي بأن توجهوا أنظاركم إلى ذلك الرجل الذي يمثل عليكم دور الحزين. إنّه صهري الذي أشاع خبر موتي قبل أن يحسم في أمر قتلي. لقد خطّط ودبّر وعزم على التنفيذ هذه الليلة. يبدو أنّ صدور أفراد أسرتي ضاقت ذرعا بتواجدي طريح الفراش. لذلك أصرّ جميعهم على التخلّص منّي من أجل هدف واحد رخيص. من أجل ثروة يعتقدون أنّها جلاّبة للفرح والسعادة وفي حقيقة الأمر ليست إلاّ سببًا للمعارك والتكالب على قشور هذه الدنيا الفانية. حبّ المال وحده لايدفع إلى القتل. يجب أن تقدّم له الأنفس المريضة العون اللاّزم لتكتمل شروط الجريمة. يمكنكم العودة من حيث قدمتم فمازال في عمري بقيّة لأحاسب كلّ المورّطين في محاولة إنهاء حياتي. لاتتسرعوا ثانية في تصديق مثل هذه الأخبار الكاذبة إلاّ بعد التأكّد من صحّتها. لست “ندمان” على التّشهير بأفراد أسرتي لأنّني لن أترك لهم فرصة واحدة لطلب الاعتذار. يمكنهم اعتباري ميّتا رغم أنفي. وسأعتبرهم على الدوام أحياء يرزقون. أدرك تمامًا صعوبة تحمّل ذلك لكن لن أسمح لنفسي باستجداء أيّ كان ليشفق عليّ أو ليتقبّلني أبا لم يختر لعب هذا الدّور الانساني النّبيل.
تستطيعون السّمر حتّى تهدأ الأمطار ولو شئتم العودة إلى منازلكم فأنصحكم بالتّسريع بذلك لأنّ استعلامات المرصد الجوّي تؤكّد نزول أمطار كبيرة في السّاعات القليلة المقبلة. وفي خاتمة هذه الكلمة الموجزة أجدّد شكري وامتناني لكم على حضوركم. لقد أكّدت موتتي المفتعلة علوّ شأني لديكم ومكانتي في قلوبكم. الموت حقيقة لا مفرّ منها حتّى وإن أبطأ في قدومه فسوف يطرق أبوابكم جميعًا آجلا أم عاجلاً. لم أتخيّل قطّ بأن أعود إلى الحياة بعد موت سريريّ أكّدته جميع التقارير الطبيّة. انتظرت معجزة رغم يقيني القاطع بأنّ زمن المعجزات ولّى وانقضى. ولمّا أفقت من غيبوبة طويلة المدى اكتشفت جحودًا ونكرانا لكل ما قدمته لأقرب النّاس إليّ. أعود وأكرّر فكل ذلك من أجل حَفْنة من مال لاندري حقّا هل سنمنح العمر لننفقه أم أنّنا سنرحل لنتركه. تذكّروا ولاتنسوا أن أغْنَى ملوك الدنيا وأعتاهم تجبّرا ونفوذًا خرجوا من هذا الكوكب صِفْر اليدين ولم يأخذوا معهم غير خرقة من قماش لا تساوي شيئا.
ثمّ التفّتُ إلى التقنيّ مشيرا إليه بقطع البثّ. لم يعد لديّ ما أضيفه. لا حاجة بأن أكشف شدّة حسرتي على اتخاذ قرار هجرهم. ليس الأمر سهلاً ولكنّه يريحني نسبيّا على الأقل في هذا التوقيت بالذّات. أعلم جيّدا أنّ كنوز الدنيا بأسرها لن تعوّضني عبارة واحدة تصدر عن فلذات كبدي وأعلم كذلك أنّ التّفكير في عقابهم هو في نهاية المطاف عقاب وانتقام من نفسي. ساءت حالتي وانتابني إحساس بالنّدم على ما تسرّعت في فعله. ماهكذا تعلن وتكشف أسرار عائلية. كنت أتحدّث لوحدي كمن فقد صوابه. عن أيّ عقاب كنت ألمّح منذ حين ؟ ما كنت أقصده هو حرمانهم من الميراث وهل يعتبر هذا التصرّف صائبا ومقنعا ومريحا ؟ هل الدّفع بمصير عائلة إلى المجهول يشفي الغلّ السّاكن أعماقي؟ هل أن معاقبتهم تعني لديّ اعترافًا بما نسبته إليهم من ذنوب كي يعتذروا فأصفح عمّا فعلوه؟ لست أدري لم يدفعني إصرار مقيت للتشفّي والمحاسبة.
شئت أم أبيت فهو في نهاية الأمر عزم على الانتقام من شريكة عمري. هل تستحق ذلك وهل أنّ معاقبتها بمفردها سيحدث الفارق؟
وبينما كنت في حيرة من أمري إذ أقبل محاميّ مبلّل الشعر. خجلت من تعنّتي في تكليفه بمهمّة فاشلة في ظرف مناخيّ مماثل وقلت معتذرا :
-أعتذر منك. كنت مصرّا على إخراج ما بصدري من همّ وغمّ كبيرين. قد يكون لك رأي مخالف لما صدر منّي. حين تنفلت أعصابي تجتاحني أحاسيس بالرغبة في ردّ الفعل دون اعتبار نتائج ماينجر ّ عن ذلك.
صمت محاميّ وأظنّ أن صمته كان مقصودا قبل أن يعلّق قائلا :
ــ لنفرض أنّك على صواب وأنّهم مخطئون فهل سيحقّق أيّ عقاب تراه مناسبا لهم ما ترومه من إصرار على المحاسبة والتّشفّي ؟
لم أشأ الردّ على الفور وخيّرت سماع ماسيجود به عليّ من نصائح. وكأنّه تفطّن إلى تعمّدي البقاء صامتًا فانبرى يقول مسترسلا :