الدكتور أحمد العلوي رئيس إتحاد اللسانيين المغاربة
بعث الينا الملك كتابا٠ كان عالما لم يبلغ احد مبلغه من العلم ولا ذرة منه وكنا له مطيعين ، فرحين راضين بطاعته . ابتهجنا به. كان حامل كتابه صادقا في تعريف هوية الكتاب. قال لنا ان فيه بيانا بكثير من الاشياء كالاعتقادات والامراض والادوية وسياسة المدينة والنفوس ، وبيانا بعلم الاشياء . كان الملك عليما حكيما ، وكان علمه باجسادنا يبلغ اعلى الدرجات بل ان علمه بذلك بلغ من الدقة ما جعل الرشداء يعتقدون انه خلقنا ، وكانوا يقولون انه لا يعلم أحد هذا العلم الا ان كان خلق المعلوم. على كل ، نهانا حامل كتابه عن ان نطبق ما نفهم منه بل حذرنا من فهمنا وأعلن لنا عجزنا عن فهمه بل إنه صرح لنا يوما بانه لا فهم يطابقه الا فهم الملك وانه قانون العالم وناموسه ، وقال لنا:
– هذا الكتاب هدية من الملك اليكم ، وقد جعل فيه كل العلوم فلا يصح ان تتعاملوا معه تعاملكم مع مراسيم وقرارات الحكام منكم . انه ليس اوامر باطلة يراد منكم تحقيقها ولكنه كشف لحقائق اجسادكم
واجبناه بان هذا لا يظهر عليه ، وان ما فيه هو وعد ووعيد وخبر وامر ونهي فاجابنا بما يلي:
– انه ليس مكتوبا على صورة الكتب العلومية بصيغها ومعادلاتها واحكامها واخبارها. انه مكتوب على صورة خاصة به. وعلى كل فقد حذرتكم فاحفظوه وسيبعث اليكم الملك من يفسر لكم الغامض منه ومن يكشف ما فيه من علوم.
وسألناه ان يكشف ذلك لنا قبل إهلال المفسر الذي لم يكن حل اوانه فاجاب بان ذلك ممتنع. وادركنا انه يعلم منه مثل ما يعلم ذلك المفسر المنتظر واكثر مما يعلم ، واننا لم نكن بحال نستطيع بها ان نتقبل دون خسارة الكشف الذي سألناه.
عاد حامل الكتاب الى حضرة الملك ، ولا ندري ما كان من امره بعد ذلك ، ونسي الناس اوصافه عن الكتاب ، وظل الكتاب بيننا مشهورا معظما وتتابعت الاجيال والدول والناس يقرأونه وينتظرون٠
كانت الدولة الاولي التي تأسست بعد عودة حامل الرسالة الى حضرة الملك مكتفية بالاحكام الطبيعية ، وكانت تجمع المنتخبين في كل مدينة فينتخبون وكلاء ، وكان الوكلاء ينتخبون وكيلا اكبر ، وكان الوكلاء الكبار يجتمعون وينتخبون الوكيل الاول الذي يشرف على شؤون الجماعة في المدن كلها تحت مراقبة الوكلاء الكبار . لم يكن الوكيل الاول يتلقب بألقاب العظمة ، وكان يكتفي يلقب الوكيل الاول وكانت مدته مستمرة ما دام الوكلاء الكبار راضين به ، وكان لهم ان يطالبوه كل سنة بطلب الثقة منهم. كانت الاحكام الطبيعية منتشرة في الناس ، وكان الجميع راضيا ، وكان الخيال متقلصا في الناس فكان لا يزين لهم تعظيم احد على احد ولم يكن في اقتعاد منصب الوكالة الاولى ولا الوكالات الاخرى ميزة على الناس. كان الناس قلة وكان من السهل مخاطبتهم والاجتماع بهم ، ولذلك لم تكن تحدث ثورات. كان المال اكثر من الناس. بعد ذلك اشتد التناسل وكثر الناس حتى جاوز مقدارهم مقدار المال المتيسر ، وخاف الوكلاء الكبار والوكيل الاول من هجمة الجوع والفاقة وخفف من جزعهم على أمن الجماعة أن حظهم من النعم كان لا يجاوز حظوظ الموكلين من عامة الناس٠ مع ذلك لم يحدث ما يعكر صفو حياة الناس اذ كان التفاوت بين المال والناس محتملا. وفجأة انقلب فريق من المسلحين على دولة الوكلاء ، وطردوهم واعلنوا الدولة الثانية ، ورفعوا راية الاستبداد وتلقب كبيرهم باعظم الالقاب. كان كتاب الملك الى هذه اللحظة محفوظا معلوم المنزلة معظم المثابة ، ولم يكن اهل الدولة الثانية المستبدة مشتغلين ، في أول ما يشتغلون به ، بغير ضمان الشبع وامتلاء الجيوب بما يدفع الفقر عنهم وإن تعلق بالناس جميعا . تمهدت لهم الطرق وجمعوا الاموال وحققوا لانفسهم الشبع من الاخباز ولذويهم وتسببوا في جوع جماعات من الناس . وتراءى الجوع والذل لهذه الجماعات في صورة الكارثة المدقعة وانتظروا ظهور امر الملك فلم يظهر . لم يشتغل الكبار بنقل الوصايا ، وصايا حامل الكتاب ، الى الجيل التالي بعدهم فقد شغلهم عن ذلك الجوع والمرض والذل الذي انتشر فيهم بعد قيام الدولة الثانية ٠ نسيت الوصايا وصار الكتاب معرضا لكل فهم واستعمال . لكن ظل الكتاب مع ذلك محفوظا موقرا وإن غدا الناس يجهلون سبب التوقير الا ما كان من نسبته الى الملك ٠ صار التوقير لذلك غامضا خاليا من المعنى ، وكان هذا الامر شاملا لرجال الدولة الثانية. كان الجميع يشتركون في اضمار الاحترام له وان كان بعضهم ظالما لبعض بما يفهمون منه .
وفي خلال ذلك كان ما يرهب رجال الدولة الثانية هو ثورة الجوعي والمحرومين وكان خوفهم معللا. لم يكن مستبعدا ان تتالف جماعة في جبل بعيد وان تعثر على معدن حديد وان تجلب الحدادين طوعا او كرها وان يصنعوا السيوف والحراب وان تكون الخاتمة ازاحة رجال الدولة الثانية عن مواقعهم واسقاطهم في سبخة الجوع والفاقة، واستيلاء غيرهم على النعم . لم تكن تكنولوجية المواصلات والاسلحة قد تطورت ، وتحولت الى اسرار لا يعلمها الى قلة من المتخصصين ولم تكن الدولة الثانية تملك ما ستملكه دول نشأت قرونا بعدها من طائرات وصواريخ والكترونيات تعجز الثوار والاعداء وتقوم سورا بينهم وبين السلطة والامرة. لذلك لم يكن رجال الدولة منعمي البال او خالي النفس من المخاوف كحال رجال الدولة بعد قرون واجيال حين تحولت الاسلحة والمواصلات الى علم وتحولت الثورة الى خطة مكلفة مالا وجهدا وتنظيما . في عهد الدولة الثانية كانت الثورة والانقلاب امرا سهلا لا يكلف الا معدن حديد وحدادين ونارا واعوانا وخيولا ، وفقراء وطلاب ثأر وغاضبين يتحولون الى جنود ، وبعدا مطمئنا عن مركز السلطة التي يراد ازاحتها.
كان في البلد طائفة من البطاليين الذين فشلوا في علم الفروسية وفي علم الخشب والحديد والبحر والبناء وغير ذلك من علوم الحرف. كانوا بطاليين لا شغل لهم الا اتهام الامراء بالظلم ٠ لم يكن الامر كذلك فقد انعقد الاجماع على انهم من افشل الفاشلين وانهم لا ينفعون في شيء. لكن هؤلاء الفشلة كانوا متشوقين للسلطة وكان هذا هو السبب في انتشار العجز عن فهم العلوم الحرفية في نفوسهم فقد كان ذهنهم متجها الى محبة السلطة وممارسة الاستبداد على الناس . كان عددهم عظيما وكانوا قد تحولوا الى مصدر قلق وريبة لرجال الدولة الثانية. وزاد من خطرهم انهم صاروا لاول مرة في تاريخ البلد يستدلون عن باطل بنصوص من كتاب الملك فزعموا ان الظلم اصله رجال الدولة ورفعوا عقيرتهم بمخالفة هؤلاء جميعا لكتاب الملك. لم يكن احد من العقلاء يجرؤ على الاستدلال بكتاب الملك على امر باطل. الدولة دولة استبداد. لا شك في ذلك ولكنها ليست سببا في فشلهم فهم فاشلون لانهم اغبياء لا غير ولانهم يريدون الاستيلاء على السلطة والاستبداد بالاخباز بغير طريق معقول . كانوا جبناء لا سلاح لهم الا الكذب والصوت بخلاف الفتاك الذين لا يتخلفون عن تعريض انفسهم للهلاك من اجل الامرة والحكم ومن اجل الحفاظ عليه. لم تركن الدولة الثانية الى ما تعرفه من جبنهم بل خشيت من عددهم ومن ان يجرهم العدد والكثرة الى الاتصاف بالشجاعة والاقدام فالجبن قد يزول بالعدد.
لم تكن الطباعة الحجرية ولا الالكترونية قد ظهرت بعد.
كان الناس يتعاملون بالمخطوطات وكان النساخ متفرقين في البلد وفي بيوتهم ولم تكن الدولة احصتهم ولم يكن بامكانها ان تراقب اعمالهم . شرع البطاليون في كتابة تفاسير لكتاب الملك تنحاز الى نظريتهم وانتشرت مخطوطاتهم في العامة وهابهم الناس ونسبوهم الى العلم وتسابقوا لشراء تفاسيرهم وتحول الناس الى موقف عداء من الامراء ومن المعلمين اهل العلوم الحرفية وانتقلوا الى تعظيم علم البطاليين والى التبرك بالدراويش. هنالك اختار رجال دولة الاستبداد المهادنة والاستفادة من الحالة على المقارعة. ولم يكن لهم في الضرب على يدهم فائدة اذ كان يكفيهم ان يحلوا البطاليين في المرتبة العالية وفي المنافع وان يشغلوهم لتثبيت اركان دولتهم . لم ينظر احد من الناس الى غياب العلاقة الدلالية التطابقية بين كتاب الملك والتفاسير اذ كانوا قد نسوا وصايا حامل الكتاب ووصفه لهويته. لم يكن بينهما اي صلة اذ كان الكتاب في الشرق والتفاسير في ظلمة من الغرب. لكن كانت مليئة بالنقول عن كتب النحاة والفلاسفة واهل العقيدة من كل الامم ، وذلك ما لجم اذهان الناس وحولهم الى تابعين خانعين. وكان من جملة ما ادخله البطاليون في تفاسيرهم الدعوة الى طقوس ليلية زعموا ان على تاركها لعنة الملك وغضبه وزعموا ايضا انها مسجلة بين جمل كتاب الملك لا في جمله ، وان العلماء وحدهم يدركون كيفية استخراجها والفوا مخطوطا جماعيا وصفوا فيه تلك الطقوس الليلية ودعوا رجال الدولة الى فرضها على الناس في المآكل والمشارب والمناكح وفي اوقات من الليل فصار الناس يستيقظون لعمل الطقوس بعد المغرب الى الفجر . لم يكن رجال الدولة الثانية اجانب عن تلك القداديس والطقوس بل ان البطاليين لم يكتبوا مخطوطهم الجماعي عنها الا بعد ان رفعوا عنهم سيف الترهيب وبعد ان أقعدوهم على كراسي ذهبية وبعد ان صارت اجتماعاتهم بهم وتقاسمهم الامر بينهم امرا مقضيا٠تركوا لهم الارواح وسياستها واكتفوا هم بسياسة الاجساد . لم تكن تلك القداديس ولا تلك الطقوس من كتاب الملك وانما نسبوها اليه ظلما وبهتانا لشغل الناس عن طلب الامرة والسلطان او عن العودة الى دولة الوكلاء. قضى كل غرضه. رجال الدولة الثانية ضمنوا بالبطاليين وتفاسيرهم وقداديسهم تقييد الناس وابطال حرياتهم والبطاليون ضمنوا الاخباز او قسما منها . الامر الذي كان يخاف منه رجال الدولة الثانية هو خروج الناس من البلد ثم عودتهم مسلحين لافتكاكه وحرمانهم من المنافع . فقد الناس حرياتهم بعد اقرار الطقوس والقداديس الليلية لانها كانت كلها تتجه الى مسح الحرية من نفوسهم بمسح النوم من عيونهم . قسموا لهم الليل اقساما. كانوا لا ينامون الا ليستيقظوا عشر مرات في كل ليلة وكانوا كلما ختموا ليلتهم ختموها بالتوجه الى بيت بناه رجال الدولة الثانية باشارة من البطاليين في الطرف الغربي من البلد وسموه بيت الهواء٠هنالك كانوا يبكون وينتظرون شروق الشمس ثم يعودون الى منازلهم . كانوا يفعلون ذلك كل ليلة وكانوا بعد ذلك يمضون وجه نهارهم وخاتمته نائمين فاذا اقبل الليل عادوا الى طقوسهم. استراح منهم اهل الدولة في النهار بالنوم وفي الليل بالطقوس ودامت الدولة الثانية المستبدة قرونا٠
توالد البطاليون والمستبدون بعد ذلك ، وتعلق الناس بمذهب البطاليين القداسي تعلقا لا تعلق فوقه ، حتى أصبح صباح من أيام الله فأحاط بالمدينة العاصمة قوم لا يعرفون قداديس ولا طقوسا ليلية ولا نهارية فخربوا اسوارها واستغاث امراء الدولة الثانية بالناس فلم يستجب لهم احد ودعوا الجنود فلم يستجيبوا لهم ٠ كان هجوم الكفرة ، كما سماهم البطاليون من بعد ، مبرمجا قبل الفجر وكان الناس والجنود مشتغلين بالقداس الليلي ، وكانوا لو خيروا بين القتل وبين ترك القداس لاختاروا القتل . بلغتهم صيحات رجال الدولة ووصلهم صريخهم فلم يأبهوا لذلك حتى احاط بهم في بيت الهواء جنود الغزاة فحملوهم اجمعين الى سجون جهزوها وراء اسوار المدينة ثم جاؤوا برجال الدولة الثانية الوارثين لمن قبلهم من رجالها فجعلوهم في اكياس من خيش غليظ وامروا الفرسان فداسوا بسنابك خيلهم اجسادهم فقتلوهم جميعا ودفنوهم باخياشهم ثم اعيد الناس والجنود الاسارى الى منازلهم أحرارا بعد ان استوثق منهم وهدم بيت الهواء ومنعت القداديس، واخذ كبير الغزاة كتاب الملك فأجله حين علم انه كتابه ولم يكن يعرف لغته ثم امر فوضع في مكان رفيع مذهب وجعل عليه الحراس٠
وانتهت بهذه الكارثة الدولة الثانية ، واضطربت احوال دولة الغزاة فارتخت قبضتها على عاصمة الدولة الثانية واقاليمها فانتقضت عليهم وقام امراء في الاقاليم وفي العاصمة واستقل بعضهم عن بعض وعادوا الى القداديس الليلية والشرائع البطالية ونسوا هذه الكارثة نسيانا تاما ولم تعد تخطر لهم في يقظة ولا حلم ٠