أ. عبد الرحيم بيضون
في الكتب المدرسية المغربية سموك (بوبي). وفي الكتب الفرنسية سموك (ليو). وأسميك صديقي الوفي. الذي يفوق “وفاء” جميع الحيوانات والبشر. وأنت حارسي في وحدتي، ومنقذي من بئر في طفولتي. وبامتياز سجلت حضورك الوجودي والرمزي في تاريخ البشرية.
صديقي من فصيلة ” السلوقي”. لونه أسود منقط بالأبيض. ذو جسم نحيل، رأسه طويل، أذناه متدليتان، عيناه عسليتان، فكاه حادتان، لسانه وردي، قوامه – الخلفية والأمامية – متناسقة وهيئته، وذنبه متوسط الطول والحجم.
تكمن قوته في حركاته وقفزاته الممتدة الى الأمام، كله طاقة داخلية خارقة. يذكرني ببطولاته في قصص الأطفال، وفي حكاياته في أفلام الكبار، التي أبلى فيها بلاء حسنا يفوق وفاء البشر،
ما زلت أتذكر لقطة مثيرة من فيديو ببرنامج “جيوغرافي”، حين استطاع الكلب انقاد صبي صغير من الغرق في مسبح الفيلا، وكانت أمه منشغلة بالهاتف النقال، وجدته الصماء مشغولة بالتلفزة، والخادمة في راحة. صديقي الوفي علمني ما معنى التضحية، واتخذته أنيسا في وحدتي، وليس مجرد ديكور كما هو حال الساسة، والأغنياء كتذكار أمام الكاميرة.
كلما هممت للخروج للعمل، أجده رابضا بالقرب من باب المنزل يبصبص لبشاشة محياي، نتبادل النظرات الودودة وعيناه العسليتين تنطقان امتنانا على حسن ضيافتي البارحة؛ من تنظيف واستحمام وعشاء دسم. وهو يصغي لكلامي وكأنه انسان حين قلت له:
سأتغيب يا صديقي لأسبوع، وسأطلب من الحارس الليلي “لعوينة” مرافقتك، ومن القهوجي إمدادك ما تأكله. وربضت على جسده برفق، واحتك بي بالمثل معانقا.
وبعد أسبوع، عدت حاملا كيس لحمة وعظمة، فتحت الباب، وناديت باسمك، وفاء، وفاء أين أنت؟ ومن عاداتك أن تسبقني الى باب منزلي. فاذا بك قابعا بالقرب من شجرة الزيتون، لا تقوى على المجيء، فصعقت حين رأيتك تتألم في صمت رهيب. تبادلنا دموع حرى وأحاسيس نبيلة مشتركة. ووفاء غريزي وحزن طفولي. وحب” إنس-حيواني”. وعلمت من “لعوينة” أنك كنت بقرب سيارة بالمربد فرفستك عجلاتها. وكسر سائقها المتهور عمودك الفقري، فشلت رجلاك الخلفيتين. وهرب فجرا. وما زالت رائحته عالقة بأنفك وصورته بمخيلتك. ولم تقوى على البحث عن قوت يومك، لتكتفي بجرعة ماء وكسرة خبز أو بعض بقايا الأسماك التي تجود بها القمامة المليئة بالزبالة براس الحي.
والان، تجر رجليك بتثاقل شديد، وتسير بضع خطوات لتتوقف لاهتا من جراء الألم إلى أن تصل الى الشجرة المباركة المضللة وسط الحديقة، سجين كسرك. الذي تخاف أن يتعفن، وأنفر منك. بعد أن رمقتك عيون الحي، وتجاهلك اناسه بما فيهم الحارس الليلي وبائع السمك. لكن لن أنسى الأيام الحلوة التي قضيناها تحت الشجرة صيفا، على أنغام (سوناتا) (إنس-حيوان) في عيد ميلاد الكلبة (لايكا) التي كانت تصاحب “الكّاوري”، ذات العينان الخضر، والشعر الأشقر الناعم المنقط باللون البني فتخلقا علاقة ود بينكما. أحب فيك عدم رضاك لما يقوله الحارس الليلي، الذي يتباهى أمام الناس بسرد بطولاتك ل”رهوط” الحومة الذين يطيب لهم ازعاجك وانت ملتصقا بها، وفي حالتك هذه، نبدك الحارس وكأنه لا يعرفك. ويتمنى لك موتة عجلى. يا للمفارقة العجيبة، كيف ل”لايكا” أن تنعم بكل حقوقها، من عناية وتطبيب ومأكل ومشرب وملجأ، وأنت محروم منها، مع أنك تفوقها تضحية ووفاء؟ في هذه اللحظة تذكرت بأن جهل وفقر العامة في تعاملها مع الحيوانات الاليفة يعود الى عدم تربيتهم على الإحساس بها على أنها مخلوقات ربنا مثلها مثل الانسان والشجر والطير والنهر…
وصبرتك وواسيتك قائلا لك: أنت، نعم الصديق. وأنت الوحيد الذي لا يعرف معنى الاقتصاد في العواطف. وأنت الآن محتاج للمساعدة. وسأسعفك وسأضمد جراحك وسأجبّر كسرك وستتعفى إن شاء الله. وفي الغد أعددت لك مع المعلم العربي عربة من خشب وأليمنيوم وركبنا لها أربع عجلات وأحزمة جلدية وربطناها بعنقك، كي يسهل تنقلك كحصان سباق. وفي مدة وجيزة تعافيت وأخذت تتنقل بها من مكان الى مكان بكل سهولة. وفي المساء تعود إلى جذع الشجرة. الوارفة، وفي خلوتنا تشعرني بأريحية أنك تتمنى أن أحقق أمنيتك وهي: إن مت قبيلي -لا قدر الله -أن أحفر قبرك تحت جذع هذه الشجرة المباركة، وأن أكتب على شاهدك “هنا يرقد صديقي وفاء”. كما توصيني خيرا ب (لايكا) الحبلى منك، وبعد أسبوع تحقق حدسك، وحان أجلك، وقبل أن تلفظ أنفاسك الأخيرة توادعنا بدموع حرى. وصليت من أجلك ركعتين. ودعوت لك بدعوتين. وأخذت أحفر قبرك. أثناءها جاءت (لايكا) لتودعك واقتربت منك. وأخذت تلحسك برقة وبلطف، دامعة العينين، وهي في حالة مخاض، تتوجع توجع أنثى. وفي لحظة وضعك في لحدك، أنزلت حملها. وأثناء مساعدتها لامست شيئا ما تحت جذع الشجرة المباركة، فاذا بصندوق، فتحته فوجدت بداخله جواهرا ونقودا ورسوما، نفور مهدها وأزهر قبرك ورودا، صار ضريحا نزوره كل ليلة لإطعام صغارها الأربعة. وفي الغد علقت إعلانا عن تأسيس جمعية(وفاء) لحماية الحيوانات الاليفة تحت شعار:(إنس-حيوان).