الكاتب محمد أسليم/ المغرب
استأذنتُ جليستي، أذنتْ، خرجتُ إلى غرفة مجاورة، خلعتُ حزامي الجلدي، عُدْتُ إلى غرفة النوم وأنا نصف عار. هممتُ بالجلوس. ما أن توهَّمَت الفتاة أني جالسٌ حتَّى رفعتُ الحزام وهويت عليها بضربَة وحشية، ارتسمَ فوق ظهرها خط أحمر عريضٌ، صَرختْ بأقسى ما أوتيتْ من قوة، طوَّحتُ بالحزام في الهوَاء، سَقط بعيدا، انحنيتُ على مُضيفتي متوسِّلا إليها أن تصفح عني، صَدَّتني بفظاظة، ثمَّ قالت في ما يشبه الابتهَال الخشوع:
– زدني. أرجُوكَ زدني، أرجوك زدْنِي.
رَفَضْتُ إشفاقا عليها، لكن إلحاحَهَا كـان مـن الجـد
والاسترسَال بحيثُ لم أملك أمامه سوى الانكسار: فأنا رجُل مهذَّبٌ لطيفٌ يكرَه التعذيب، ولكن هَا هو يجدُ نفسَه إزاء ضحية فاقت كلّ مازوشية، كأنها خرَجَت لتوِّها من روايات الماركيز د ساد أو سَاشر مازوش. أشفقتُ عليها وعلى نفسي، تقطرَت من خَدي دَمعتان، دنوتُ منها، رَجوْتها أن تعفيني من تلكَ المهمَّة العسيرة، لكن بقدْر مَا كنتُ أزداد أمامها انكسَارا كانت تزْداد أمَامي إصرارا… وفيمَا كنتُ شاردا في التفكير في ما يجب علي فعله، تذكرتُ، في تلكَ اللحظة، دُون أن أعرف لحد الآن لأي سَبب، حكاية صاحب المسدَّس السّري التي رواها جلال الحكيم عن جَارة له عن أختها العَاهرة أنهَا قالت:
«كان يتردد على حي المومسات صاحب مُسدَّسٍ، فيختار أجملنا، ثم يختلي بها في غرفة، فيأمرها بالتجرّد من الملابس، فتفعل إلى أن تصير (زبطاء) كأنها نزَلت لتوها من رحم أمها، وبَدل أن يلج سرّها مُباشرة، يجلسها في حاشية السَّرير ووجهها مستدير صوب الجدَار، وردفاها منتصبان قبالته، ثم يتجرَّد من ثيابه، ويبتعد عَنها إلى أقصَى طرف البيت، وهو يتأمَّل ضريحها الخلفي، ووجهُهَا مدفونٌ في الفراش… وفجأة تسمَع وقعَ خطوه القوي على أرْض البيت: يتقدَّم نحوها رَاكضا، تقبض أنفاسَها، تستعدّ لإطلاق صرخة كبرى من جرَّاء الألم الذي سيُحدثـه عنف دَسِّ سِّرِّه في سِرِّها… لكن يا للعَجب! تصوَّرُوا أي شيء يفعل. ما أن يصل إليها حتَّى يُقعي، ويصفَع ردفيها باليمنى واليُسرى صفعا قويا، كأنه يطرشُ خدين، ثم يجهش بالبكاء مخاطبا الرِّدفين وقد جعَل منهما جمعا: «أنا مزاوكـ فيكم، هَا العار عليكم. أش بغيتوا عندي، تفارقوا مني، الله يرحم والديكم، أنا مزاوكـ فيكم. راني جيت غير نحـ…..كم»، ويُلازمُ ذلك الوضع إلى أن ينسكبَ حليبه في يديه، ثم يُسَلم للتي اختلى بهَا المبلغَ الذي اتفقا عليه، كأنه قضى وَطرَه منها فعلا، وينصَرف إلى حَال سَبيله فرحانا مَسْرُورا…»
من قبل، كنتُ كلما سمعتُ الحكاية اكتفيتُ بالسّخرية من الحارس السِّرِّي مُبتسما، لكنني وجدتني الآن أطلق ضحكة كبرى، لستُ أدري لحدّ السَّاعة سبب إطلاقها ولا سَبب كوني تخيلتُ المشهد، لأوَّل مرة، وكأنه يمرّ أمامي مثلَ شريط…
قال قائل بداخلي: لماذا تضحَك؟
أحجمتُ عن الضَّحك، وهَا هو ينقشع أمامي مَغزى الرّعب والألم الذي يؤثث مَشاهد الجنس عند سَاشر مازوش والماركيز دُ ساد، ومَغزى تلك المشاهد التي تتحوَّل فيها «الجايشات» اليابانيات إلى جَلاداتٍ قاسيات؛ تجرِّد الواحدة منهن زبونها من ثيابه وتكبله بالأغلال، وتجعَل منه شبه بهيمة، تمتطيه، ولا تجود عليه بمجرد لمسَة أو قبلة – فهيهات، ثم هيهات أن ينعَم بالضريح – إلا بعدَ أن تمطر ظهرَه بسيل من السِّياط، وتشنف آذانه بأقذع الشتائم… الآن فقط أفهم مَغزى الأنين والترنح الذي يتخلل مَشاهد الجمَاع الأكثر اشتعالا، الأنين والترنح الذي ترسله تلكَ الحسانُ ذوات الجمال الملائكي اللواتي يقبلنَ أن تسجَّل ممارساتهن الأشدّ حميمية في أشرطة بصريةٍ وتجوبُ أنحاء المعمُور… إن هذا الصراخ لهو جوابٌ يقدمه الإنسَان على سؤال مَفقود، مَفقود لكنه موجود، عرفه ابن آدم مُنذ العُصُور السَّحيقة – ولا زَال – وسَوف يظل يعرفه:
ربما كان فعلُ الجماع نفسُه تصريفا رمزيا لفعل أكلٍ حقيقي كان يمارسه الجنسان على بعضيهما في العهُود السَّحيقة، تحتَ تأثير (أو لتصريف) القلق الذي يحدثه في المرء مُشاهدته ضِعفه، أي رؤيته وجهَه في الجنس الآخَر باعتباره مرآة له. وحيث إنَّ هذا الافتراسَ كان سيؤدي لا محالة إلى انقراض النوْع، فإن مَا يمكن تسميته بالعقل الغريزي – أو عَقل النوْع، الثاوي في الجنس لا الفرد – دلَّ الإنسانَ على طريقة لنقل الصراع إلى حلبة أخرى، لمواصَلة الحرب بأسلحة أخرى: دلَّ الجنسَين على سرَّيهما. ومنذ ذلك الحين والحرْب قائمة بين الإثنين: هَذا يسعى للنفاذ في ذاك وذاك يسعى لابتلاعه… وحيثُ لا النفاذ ولا الابتلاع الكامل يتحققان، فإن الإنسانَ يعوِّض هذه الاستحالة بالصّراخ أو يعضِّد ذلك السَّعي بالصراخ؛ ما الصّراخ إلا تألم أو خطوٌ في طريق الغوَاية…
لم تسعف توسّلاتي ولا ابتهالاتي ولا محاولاتي في إقناعها بعجزي عن الإمْساك ثانية بالحزَام. فقد كان إلحاحها وتوسلها من الصدق والرقة بحيث لم أمْلك إلا الإذعَان له. ولحد الساعة، مَهما نجحتُ في إقناع نفسي بأنه لم يَكن بوسعي أن أفعل أيَّ شيْء آخر عدا تعذيب مُضيفتي تعذيبا فاق كل وحشية، فإنني لن أفلح – طالما حييتُ – في فهم لغز المارد الذي خرَج مني لحظتئذ، وجَعلني أقوى على القيام بكل ما قمت به في تلكَ الليلة الليلاء: لم أكتفِ باتخاذ حزامي الجلدي سَوطا وتمزيقه فوق ظهر الحسْناء فحسب، بلْ تجاوزتُ ذلك إلى تكبيلها بأغلال صنعتُها من أطرَاف المآزر واللحف، ولويتُ على ظهرها ضربا كلّ ما كان في البيت من قضبان وأواني مَعدنية، ومزقتُ ملابسها وعدَدا لا يستهان به من الأفرشة، صَانعا منها قيودا وأغلالا، ودَسَسْتُ قطع الصّوف والقطن في فمها، للحَيلولة دون تسرُّب صُراخها إلى خارج البيت… بيد أنني مِقدارَ ما كنتُ أعذبها كانت تستزيد، بل إني لا أتردَّد الآن – وقد أدمنتُ مشاهدة الأشرطة البورنوغرافية – في اعتبار صُراخها مَا كان من وقع الألم، وإنما من موقع اللذة كان… ولم أتوقف إلا بعد أن صَارت مؤنستي جثة هامدة. وهي ممدَّدة مثخنة بالجرَاح بدَا لي أنها شاخَت. قلتُ هي ذي الحقيقة سافرةٌ ممدَّدة أمَامي؛ ما يليق بي أن أقوم به منَ الآن فصاعدا هوَ: كلما مرَّت أمامي امرأة عجوزٌ، امتلأ وجهها بالتجاعيد، وقلَّ بَصرها، لا تسير إلا مجاهدة قدميها أو مُتكئة على عصا، يجبُ أن أقول: «عجبا كيف مرَّ الوقتُ سَريعا! منذ لحظاتٍ فقط كانت هذه السيدة فتاة حسناء، تلاحقها عُيون الرجال أينما حلت وارتحلت، ويَشتهونها جميعا»… وبالمثل ما يَليق بي قوله كلما شاهدتُ فتاة في مُقتبل العمر تمرّ أمامي، مزهوة بجمالها، تسير متهادية، تتحاشى عُيون الرجال وهي مُوقنة أنها تتابعها، ما يَليق بي قوله هو: «ما تمضي لحظات إلا ويَكون هَذا الجسد قد تهلهَل، والوَجه قد ذبُل، وحان قطافه؛ سَينقض عليه الموت المتربِّص».
استحوذ علي الهلعُ، أخذت فَرائصي ترتعش، غرقتُ في ندَم شَديد، قضيتُ الليلة بجانبهَا، أتصنتُ من حِين لآخر على دقات قلبها، وأرَاقب شهيقهَا وزفيرها، طالبا منَ السَّماء ألا يكفَّ ذلكَ القلبُ عن النبض وألا يتوقّفُ ذلكَ الصَّدر عن الشهيق والزَّفيـر… لكن السَّماء كانت أقسى من أن تستجيبَ لدعائي…
توقّفَ قلبي عن النبض، انقطعت أنفاسُها، قلتُ هي الآن في أحد وضعين: إما توقفت عن العَمل أو دخلت في طور العطالة. ذلكَ أنني كنتُ على الدَّوام أقول: شغلٌ لا نتقدَّم في شأنه بطلبٍ لأيّ كان، لكننا لا نفطن لأنفسِنا إلا وقد كُلِّفنا بمزاولته، فنزاوله شئنا أم كرهنا، مَع أننا لا نتلقى أي مقابل عنه: إنه مهنة الحياة.
جبَّارٌ أنت أيها الموتُ، وعاملٌ (أنتَ) لا يَكلّ ولا يملّ! عندما يَكون الشارع مزدحما بالمارة والمتجوِّلين، بحيث يتعذر عليَّ المرور بسُهولة، من جرَّاء الاحتكاكات المتوَالية لجسدي بأجساد الآخرين، جراء الزِّحام، أتعجبُ قائلا: «عَجبا كم أمتار كفن يَلزم لتكفين كل هَذه الجثث التي ستلتحق بعد قليل بالمقبرة»، فيردّ عليَّ قائلٌ بداخلي قائلا: «وأعجبُ من ذلك أنَّ الموتَ نفسه سيتكفل بهم جميعا؛ سيزورُهم واحدا واحدا دون أن يكلَّ أو يملَّ، أو تثنيه عنهم كثرة أعدَادهم!»
الآنَ وقد ماتت، الآن فقط أدركُ أنها اسْتطاعت، في هذا الوقت القصير أن تتوغلَ إلى أحشائي، إلى أن صَارت أحد اثنين: حبيبة أسْكرَني عِشقها، أو أنثى تربطني بها صلة قربى قوية. أوجعَني موتها. أترنَّح تحتَ وطأة الفقدان. أدركتُ فظاعة الخطأ الذي ارتكبته: علينا ألا نمنح كل محبتنا للأحبَاب ولا الأهل، لكي لا نؤلمهم برَحيلنا ولا يؤلمونا برَحيلهم؛ علينا مُعامَلتهم كأنهم جيرانٌ لنا أو رفَاق طريق في سَفر لا نعرف كم يَدوم… علينا، متى رأينا أحبابنا، أطفالنا أو أبوانا، ألا نَرى في عيونهم سوى ظلمة ليل الكائن الحالكة، علينا أن نقول: «ما يجمعنا بهؤلاء سوى سفر، ما يعلم أحدٌ منا ولا أحدٌ منهم مَتى ولا أينَ سينتهي به».
ليَكُنْ. لكن، أما علمتُ أنه لا يَشفع لنا وطأة الإحساس بفقدان الأقارب إلا قِصَر نظرنا؟! فنحن نتألم على موت الأب والجدّ. أما علمنا أن الجدَّ نفسَه قد تفتتت أكباده من فراق أبيه الذي لا نعلم عنه شيئا، وأنَّ أبا الجدّ قد أنزل دموعا مهراقة لما ماتَ أبوه (وهو أنا – الأب – الجد – أبو الجدّ) (وهو جدّ جدّ أبي). بهذا المعنى، فألم فراق الموتى يَسري في عُروقنا من غير أن نعلم به. حَري بنا ألا نُصْدِر ابتسامة واحدة.
تراءَى لي مَوكبها الجنَائزي، وقفتُ أتأمَّل جثتها مليا، ردَّدتُ في خَاطري: «أنا هُو ذاك الميِّت، أنا هو الجثة الممدَّدة»، وبذلكَ استعَدتُ الخسَارة التي يمنى بهَا «الأحيَاء» بعد مَوتهم – خسَارة مشاهَدَة الشَّخص جثته وهو مَيِّت – وحوَّلت استحَالة استبَاقي الموْت، إلا في المتخيَّل والاستيهَام، إلى استباق حَقيقي واقعي. هذا ما يليق بالإنسَان المنذور للموت أن يفعله مَع كلّ ما يحيط به، فينصت لصَرْخات الألم التي سيطلقها عَليه أبناؤه بعْدَ مَوته، يُنصِتُ إليها وهو حيّ يرزَق، ويسمَع ما سَيقوله الناسُ بعدَ وفاته وهوَ لازال حَيّا يُـرزَق.