الدكتور أحمد العلوي رئيس إتحاد اللسانيين المغاربة
رايت الناس الذين كانوا خلفى صاروا امامي ورايتهم يضحكون.سمعت صوتا ينادى ويقول:
لا تسرق. لا تتملق لغير الله. لا تحتقر الفضلاء. لا تعظم العظماء الذين بنوا عظمتهم على القتل او على التزوير. لا تتآمر لتنال ما ليس من حقك. لا تستشهد بالزور ولا تشهد بالزور لغيرك . لاتدخل الى الاحزاب الدنيوية . ان دخلت شهدت بالزور لمن معك فى الحزب وشهدت بالزور على من هو فى حزب آخر او من ليس فى حزب على الاطلاق. اذن لا تدخل الى الاحزاب. لا ترشح نفسك فى الانتخابات باسم حزب ولا باسمك الشخصى. ان فعلت كنت طالب شهادة زور مرتين, مرة من الحزب الشاهد لك الذى يقدمك ومرة من الجمهور الذى ينتخبك والانتخاب شهادة بغير دليل. اذن لا سياسة ولا برلمان ولا وزارة ولا ما يوصل الى ذلك ما دام الموصل هو شهادات الزور . اعلم ان الاحزاب جماعات تشاهد زورية ،واعلم ان كل حزب مؤلف من افراد يشهد بعضهم لبعض بالكمال وبالصلاح ، ويتبادلون الشهادة. واعلم انه لا فرق بينهم وبين بياعى الشهادات على ابواب المحاكم . هؤلاء فقراء يبيعون شهادتهم لمن يؤدى لهم . اما اعضاء الحزب فانهم يتقايضون. اشترى منك شهادتك لى بشهادتى لك. لا فرق بين التعويض عن الشهادة بالعملة وبين التعويض بالمقايضة. اذن لا تدخل الى حزب. لا ترشح نفسك. لا تنتخب.
مثل هذا الكلام المطارد كان وراء تلبثى فى الصفوف الخلفية. تأخرت باتباع ذلك الصوت وتقدموا وضحكوا. احسست بالحزن على ضياع الدنيا. لم يكن الايمان بالفضائل ليحول بينى وبين الشعور بالألم. ذلك الشعور يوقده الذل الذي يقود اليه التشبث بها في قطيع من البهائم البشرية العوراء المتشاهدة التي لاشغف لها الا بعبادة اكبرها بدنا واشدها بطشا٠ كنت اسمع صوتا يقول ان ضياع الحقوق السياسية والاجتماعية والتعرض للظلم من اتفه الناس والعجز عن الدفاع عن النفس امام قوة الجماعات المتشاهدة التى تستولى على الدولة او على الثروات هو ضريبة الالتزام الفضيلة . كل ذلك يفتح طريقا للألم فى نفس الانسان، في نفسي. ألا يكفى ان تومن لتنجو من آلام الضياع؟. هل الفضائل كالجمر والذى يستمسك بها كالقابض على الجمر٠كنت اسائل نفسي ولا اجد جوابا الا تلك الاصوات، تلك الاصوات التي لا ادري اهي صوت واحد ام صوت جمهور . جربت ان اشهد الزور فى حزب اخترته, ان اشهد لمن فى الحزب وان يشهدوا لى. لم افلح. كانت المبادئ ، مبادئ الفضائل، تطاردنى وتفسد علي خططى وتفضحنى وتجعل اسلوبى فى العمل مكشوفا . لذلك خرجت من الحزب واستغفرت الله على الغلطة التى ارتكبتها. الحقيقة ان شهادتى الزورية لم تجاوز جدران الحزب الى جمهور المنتخبين ، ولم ابطن اعتقادا حسنا في الحزب وزعيمه وصانعه المستتر . لم ارشح نفسى ولم ادع لاحد من الحزب. لم ادع احدا الى ان يشهد لى زورا ولم اشهد لاحد . خرجت من الحزب مهرولا. استفدت من الدخلة. ازداد يقينى فى سفالة التشاهد بما رأيت من سفلة المحازبين بل بما احسست به وانا في الحزب من سفالة شخصية ذاتية تتنافى مع ما تحرمه فصول كتاب الفضائل الذي كانت تقرأ ه علي اصواتي المطاردة عند كل ثنية وسبيل ، اصواتي التي استقرت في ذهني بسبب ثقتي بوكيل الملك .
كانت الارض كلها بقاراتها وبحارها وقطبيها تحت حكم ملك جليل ، ولكني كنت منحرفا عنه بغير علم مني ٠كنت اتبع اماما يدعى في بلدنا بالوكيل وكنا نعتقد انه الناطق باراداته ، المفسر لكتاب الفضائل ، وكان الناس كلهم ،وانا منهم ، يكتفون بالتفسير ولا ينظرون في الكتاب ابدا . حين تساءلت عن سبب خسارتي وخسارة امثالي ، وعن سبب فوز المتشاهدين بالزور ٠ اجبت نفسى بان ذلك الملك وراء هذه المصيبة الحالكة ، وانه لو اراد لوضع قوانين تمنع الاستهتار بالمبادئ وارتفاع السفلة ٠ برأت الوكيل ونسبت الجريمة الى الملك ، وبمجرد ان نسبت اليه نية الاساءة الى الفضلاء بالقوانين القائمة التى ادت الى خسارتى اصابنى دوار شديد . كان الملك عالما لا يغيب عنه شيء من امور الارض ، وكان فاضلا وودودا وكان حكمه شرعيا لا شك فيه ، وكان ملكا حقا لا بالمجاز والاستعارة، وكان المساس بمرتبته اعظم جريمة ترتكب ، وأشد ما يبعد عن الفضائل ، واقوى ما يبطل الالتزام بها ولكن الغم والغضب والذل افسدوا مداركي وأعموا بصري وبصيرتي ، وحين انزلقت في سرداب الدوار نسيت كل صفات الملك بل نسيته ونسيت فضائله واسماءه . اصابني إذن دوار التناقض ، ودوخة الجهل ، ووجدت نفسي في عقر غار سحيق امام الوكيل بشخصه كما أعرفه من اوصافه . تعجبت من وجداني اياه في هذا الغار ٠ لكن زال عجبي فهو لا يموت الا بموت الناس ، ويصاحبهم أنى ذهبوا ، وهم يفتخرون به وان لم يروه فانظر الى افتخاري به وانا اراه وجها لوجه في الغار ٠عاصر اليونان والرومان والبابليين والمصريين القدماء ووصفه العرب واهل القرون الوسطى من الامم ، وكان صاحبا لهم جميعا . عرفته من اوصافه التى حفظتها من الكتب، واعتقدت ان لقائى به حظوة من حظوات الزمان ، وعارفة من عوارفه ، وسعادة لا يتكرم بها القدر على الانسان مرتين . لكن الامر تغير ، وحل محل السعادة به ندم وتشاؤم منه اذ قام يلومني. قال لى:
– ماهذا؟ انت وفلان وفلان وآباؤك واجدادك وقومك كلهم فى الصفوف الخلفية. لم تلتزم بشريعتي انت ولا قومك الذين هم في غيران أخرى . استمعت اليه. يدعونى الى اتباع شرعه. قلت له :
ـ الامر عكس ما تقول لقد اتبعت شرعك الذي زعمت لي ولغيري انه شرع الملك وهو التي قادتني اليك هنا ٠ قال لى:
بصراحة لم تتبع شريعتي كلها. الم اتك بها عن الملك فلما ابيتها تركتك واعتزلت في هذا الغار . اتبعت بعضها فكنت في عداد المخالفين لأن الاتباع هو اتباع كل شيء جئتك به لا بعضه.
لا اتذكر الآن تتمة الحديث٠انما اتذكر أني قلت له :
اتبعت البعض فهلكت هلكتين فمابالك لو اتبعت شرعك كله ٠ ما اظن ان الملك امر بهذه الشريعة كما تسميها
فقال لي :
-اتكذبني وتشك في فقهي وفهمي
فقلت له :
-مادمنا جميعا في الغار فسأبحث عن سبيل الى الخروج بغير فهمك
كنت قد وجدت نسخة من الكتاب في الغار ، وكنت قبل هذا الحوار معه خائفا من النظر فيه لان ذلك كان محرما بامر الوكيل وتفسيره فلما ساءت صلتي به نزلت في نفسي شجاعة جديدة فأخذت اقرأه وحولي صيحات الوكيل الناهية ٠
انتقل بعد ذلك الحوار الى امر آخر , الى الخلود ٠ تحول الى التهديد بالخلود ٠قال لى:
– ان كنت لا تصدقنى وتستريح الى فهمك فاعلم انى اعلم ميعاد وفاتك وهؤلاء شهودى
كان وراءه شهود برزوا بعد ذكرهم وشهدوا امامى انه اخبر بوفاة اهليهم قبل وفاتهم بالدقيقة والثانية . خفت مما قالوا وفقدت البقية الباقية من ذرات الادراك المتناثرة في قلبي وندمت على اجترائي عليه بالتكذيب ووقعت فى غفلة اخرى وكآبة شديدة تشبه الغار في الغار . لم أفارق الوكيل من يوم ان ادعى شهوده امامى انه يعلم مواعيد موت الاحياء ومنهم انا ونسيت ماكان قبل ذلك ومسح من ذهني كل ذكر لحياتي قبل الوقوع في الغار، واعتذرت اليه بكل معاني الاعتذار واعظمها اعلان وإسرار محبتي للغار وايثاري البقاء فيه معه حبا له وتكفيرا عن اجترائي عليه . لم افارقه لاننى كنت اريد ان اعرف ميعاد موتى. ان عرفت الميعاد سهل علي البحث عن الوسائل المانعة للموت بمساعدته. ان كان يعرف الميعاد فلاشك انه يعرف الدواء. لم يقل لى احد ان الموت مرض ولكنى اعتقدت انه مرض يستوجب العلاج . كل ذلك ضروري. كيف استطيع ان اقاوم الموت المتربص بى ان كنت لا اعلم ميعاده؟ كنت عازما على البقاء حيا الى الابد ووجدت فى لقائي بالوكيل ، وكيل الملك ، الذي لم يلقه احد غيري فرصة نادرة لا تتكرر ٠قلت في نفسي وانا في الغار :
-الحياة في الغار خير الف مرة من الحياة في العالم البراني بشمسه وقمره ونجومه
وسألته عن الادوية ، ادوية الخلود بعد ان اخبرني بانه نسي اساءتي فقال لى :
– ستموت بعد ساعة او بعد يوم او بعد شهر او بعد سنة او بعد قرن او بعد قرون ، لكن ذلك يحسب بطاعتك فان اطعتنى ، كما احب ، علمتك الادوية التى تقيك من الموت قرونا ، وان اطعتنى اقل مما ينبغى علمتك اقل من ذلك ، وان عصيتنى وكذبتنى فلا شيء لك عندى وتموت بعد فينة.
جولت فى ذهنى معنى الفينة. هي اقل من الثانية. خفت واعتقدت انه اجلى الحاضر وان البقاء الى ما وراء الفينة لا يضمن الا بالدواء. خفت خوفا شديدا من حلول اجلى وانا عالم به. لم يكن امامى وقت للاستدلال والبرهنة وللتجربة. ماذا افعل؟ اقول له:
– ولننتظر مرور هذه الفينة.؟
لو فعلت لكنت مجازفا بحياتى. اليس يجوز ان يكون صادقا ككل المخبرين ؟. اذن فلنفترض انه صادق فلو كان ذلك لكانت الطامة. لكن قد يقال:
– ولماذا لا نفترض انه كاذب؟
والجواب ان ذلك الافتراض لا يغنى من حظ الكارثة فى الوقوع شيئا. لن يمنع عنى الموت. يجوز ان نفترض ذلك ولا يكون افتراضنا صحيحا وتحل الكارثة. فى الحالين سواء افترضنا انه كاذب او افترضنا انه صادق فان الكارثة كانت تطل علي بنصف جسدها. لذلك وجدت الاقرب الى الراحة ان اصدقه. صدقته فقال لى:
– اقرأ كتابى.
أخذت من يده كتابه ٠ شرعت في قراءته ونحن فى الظلمة. كانت ظلمة كآبتى منتشرة فى الآفاق. لا ارى غيرها ولا ارى الا من خلالها ٠ وقرات فيه مواعيد وفيات الناس الذين اعرفهم. لم يكن فى الكتاب اسماء كل الخلق. انما كان فيه الاسماء التى اعرف حامليها . لم اتساءل حينئذ عن سبب ذلك ، ولو تساءلت لوفرت على نفسى كثيرا من الرهق . لم استنبط من الحالة انه لم يكن يعرف الاسماء الا من جهتى فقد كان سألني عمن اعرف من الناس ، ولم استنبط من ذلك الشك فى علمه بالمواعيد اذ كيف يعلمها وهو يجهل اسماء الخلق . العلم بالمواعيد اعسر من العلم باسماء الخلق وعلى عارف هذا ان يعرف ذاك . لم اتساءل عن ذلك. قرأت الكتاب ووضعت عينى على تاريخ موتى. وجدت انه مضى علي فى الحياة بعده اربعون سنة او اكثر . قلت:
– انك كنت تخبر بوفاتى قبل اربعين سنة وهي لم تحدث فما هذا؟
قال لى:
– لم يحدث ذلك لانك صحبتنى واتبعت امرى
-اتبعت امرك؟ هو السبب؟ كيف؟
– الم تلبث معي في الغار؟ الم تعترف بوكالتي عن الملك؟ الم تفضل علمي على علم عينيك؟ الم تتخذ امراة تقودك؟ الم تكن تلك المراة من اتباعى؟ كل ذلك كان. لقد برهنت بذلك على طاعتك لى فطال عمرك ولو خالفت امرى لهلكت
– لكن الكتاب ليس فيه ذلك. لم تغير التاريخ. لماذا؟
– انك معى فى الغار . لا احتاج مع هذا الى تغيير التاريخ. الذين دخلوا الى الغار ويطيعونني يكتب لهم الخلود ولا يموتون . انت خالد. الكتاب فيه اعمار الخلق الذين لم يدخلوا . كتبته قبل دخولك. ما فيه يتحقق عليهم لا عليك.
لم اشعر بعد ذلك باي رغبة فى الخروج من الغار والعودة الى عالم الصراع على الخبز والنساء . كنت مطمئنا الى انتصارى. أي انتصار؟ الانتصار على الموت بتحصيل الخلود الذى بشرنى به وكيل الملك فى الغار. هل اعتقدت انى انتصرت على الفائزين بالزيف بالمال والمناصب والرتب والسعادات فى العالم المحيط بالغار؟ وجدت فى نفسى آثار ذلك الاحساس. وكيل الملك لا يكذب. لقد فزت بالخلود وهو ما لم يفوزوا به. سيموتون جميعا ، واظل حيا وحدى. ستفنى احزابهم وشهاداتهم ، بعضهم لبعض ، وشهادات منتخبيهم ، وستفنى مناصبهم ، ولن افنى انا مادمت مستمسكا بالاقامة فى غار الخلود. لا يجوز لى ان اجاوز عتبته . الخلود فى ظلامه خير من الفناء فى النور. هذا ما علمي اياه وكيل الملك الذي نطيعه طاعة للملك . انه يعيش معى فى الظلمة ولو كان كاذبا لما اختار لى ما اختار انفسه.
طالت اقامتى فى الغار واعتقدت انى ان خرجت منه تلقفنى الموت وفارقنى الخلود. ذهبت الى غرفة ادنى ظلاما من بقية الغار. كان فيها بعض المرايا. لا ادرى من وضعها هناك. كنت اراها واشيح بوجهى عنها خوفا من ان ارى فيها شيخا هما كبيرا. كنت اخاف من آثار انطباع السنين على محيا الانسان. نظرت الى صورة وجهى. لم ار شيخا. ما زلت كما اتذكر نفسى. اين السنين الماضية؟ أهي سنون كثيرة مرت ام ما زلت فى السنة التى شهدت دخولى الى الغار؟ أأكذب احساسى بطول الاقامة فى الغار, ام أكذب المرآة؟ قال لى الوكيل حين سألته:
– ان كنت شابا كما كنت فلأن صحبتي في هذا الغار المبارك نفعتك. ستخلد شابا.
وقفت بين حكمين الاول يصدق الوكيل والثانى يكذبه . عدت الى غرفة المرايا ٠ اقتربت منها ٠ لم تكن مرايا ٠ كانت جدرانا ملساء عليها صوري قبل خمسين سنة ٠ من صورها ؟ وجدت كتابا في مرفع من الطين ٠ تناولته فقرأ فيه من خطي اني صاحب تلك الصور وراسمها قبل تلك السنين ٠ شككت مرة اخرى في الوكيل ، وتقدمت الى المرفع فوجدت فيه كتاب الملك بخطي فقد كنت كتبته من حفظي ٠ ترددت ولكني عزمت بعد ان شككت في الوكيل شكة ثانية ٠ ترددت على غرفة المرايا بعد ذلك لأقرأ في السر كتاب الملك ٠ وجدته يامر صراحة بتجنب الدخول الى الغار ، الى هذا الغار عينه وذاته ٠ جمعت امري واتجهت الى باب الغار ٠ كان بعيدا ٠ كان الغار عميقا سحيقا ، وبابه لا ترى الا مرة في كل يوم عند مرور الشمس او مرور باب الغار بالشمس ٠ قضيت سنين في العبور الى الباب ثم وصلت اليها وخرجت شيخا هما بعيدا صورة وفكرا عن الشاب الذي كنته يوم رماني الدوار الى الغار ٠
أحمد العلوي
الرباط – مونريال
٢٠١٢ -٢٠١٩