صلاح الحضري/ تونس
لم يعلق محاميّ بحرف واحد وبدا جليّا أنّه أدرك سبب الاستنجاد به. كعادتي وقفت إلى جانب نافذة مكتبي التي تطلّ على أرقى وأفسح شارع بالمدينة أعشق نزول الأمطار على الإسفلت المبلّل. ساءت حالتي وأحسست بغليان دمائي حين عادت بي الذّكريات إلى كلّ جميل قدّمته لزوجتي.
مضَتْ عشر دقائق دخل علينا بعدها شابّان في مقتبل العمر. وبعد حوار لم أسمع تفاصيله شرع أحدهما في إخراج مستلزمات العمل الذي جاء من أجله. أثناء ذلك همس إليّ محاميّ بصوت خافت:
ــ أتمنى أن يكون “أيوب” متعاونًا. قد يُعطّل عمل التقنيّ فتفشل المحاولة.
إذاك عجلت بمقاطعته قائلا :
ــ لا حاجة لكما باستشارته ولابموافقته. تصرّفا بما ترياه مناسبًا ولو صادف وأن سُئلتما عمّا تفعلانه فقولا بأنّني سأتوجّه بكلمة مُباشرة لزوجتي الغالية وأبنائي الأعزاء.
لم يصطبر الشّاب الأطول فيهما على السّكوت فعجّل بالقول:
ــ ليس الأمر صعبا. سوف أتدبّر أمري. سأرسل إليكما إشارة الشروع في النقل المباشر بعد ساعة على أقصى تقدير. هل أعددت ما تودّ قوله يا سيدي ؟
أجبت دون طول تفكير :
-حينها ستخرج العبارات بكل تلقائيّة. لا أحتاج إلى اختيار أبلغها فهي موجزة وسهلة الفهم.
* * * * *
الساعة تشير إلى التاسعة والنصف ليلا. كل شيء جاهز في انتظار إشارة الشّروع في النقل المباشر. اخترت مكانا في أحد أركان المكتب ووجّهت عدسة الكاميرا نحوي. لست على ما يرام. بداخلي ارتعاشة يهتزّ لها قلبي من حين لآخر. خوفي من أن أرتبك فتتلاشى عباراتي ولن تحقّق المطلوب. إنّها المرة الأولى التي أجرؤ فيها على القيام بعمل مشابه. وبينما كنت في حيرة من أمري إذ أومأ إليّ التقنيّ بالشروع في الكلام هامسا :
ــ كل شيء على ما يرام. نحن على الهواء مباشرة.
ارتعدت فرائصي وارتجّت الدنيا أسفل قدمي وتعرّق كامل جسدي قبل أن أقول سائلا إيّاه :
ــ هل أستطيع مشاهدة ردّة فعل الحاضرين أثناء إلقاء الكلمة؟
ردّ على الفور :
ــ تستطيع ذلك. لكن أنصحك بعدم التركيز على مشاهدة مايحدث هنالك حتّى لايصيبك الارتباك. لنشرع في الحال. أرى الدهشة الكبيرة مرسومة على وجوه جميع المتواجدين هنالك. سنبدأ النقل واحد اثنان ثلاثة تفضّل.
جفّ حلقي منذ الوهلة الأولى. أخيرا شحذت عزيمتي على الكلام فقلت: أبنائي الأعزّاء. زوجتي الغالية مرحبا أهلا وسهلا بكم. لا يذهبّن بكم الظنّ إلى أنّني أحدّثكم من العالم الآخر. انظروا جيّدا إليّ فنحن نشاهد بعضنا بعضا ونتحاور على الهواء مباشرة. دعوني قبل كلّ شيء أرحّب بضيوفنا الذين أجبرهم سماع خبر وفاتي على الخروج من بيوتهم في هذا المناخ الممطر. لاشكّ وأنّكم أدركتم الآن بأنّني لازلت على قيد الحياة. إنّي أتنفس ما تتنفّسونه وقلبي ينبض كما تنبض قلوبكم. عذرا على مجيئكم للقيام بواجب العزاء ولن تتخيّلوا شدّة احترامي وإكباري لتصرّفكم النبيل. لكن دعوني أحطكم علما بأنكم أخطأتم في العنوان. المعلومة.