ذ. صلاح الحضري/ تونس
والحيرة. طال عذابه وطال انتظارنا ولا ندري إن كان سيتواصل أنيننا وألمنا أم انّ بوادر نهايته قد بانت كما أشار إليه طبيبه المباشر.
وأخيرا تخرج زوجتي عن صمتها فتقول:
ــ كلّكم تتمنون موته بفارغ الصّبر، كلّكم تنتظرون ساعة حصولكم على الميراث. أتعلمون لماذا؟ لأن الجشع أعمى قلوبكم وأضعف مشاعركم تجاه والديكم. لأنكم تتكالبون على حبّ المال وتنسون أنّه لو دام لغيركم لما وصل إليكم قطّ. عجيب ما أسمعه.
يسود الصمت بضع لحظات وينفجر “أيوب” قائلاً بلهجة مرتفعة:
ـــ لا تستثني نفسك يا أمّاه فأنت كذلك مللت هذا الوضع أكثر ممّا مللناه. ألم تشتكي في السّابق وتؤكّدي بأنّ صدرك ضاق ذرعًا وأنّ موت أبي أرحم له من عيشه وهو على تلك الحال؟ لسنا بمثل ما وصفت ولن نكون قطّ كما أشرت. نحن نتألّم لما أصابه ونتحسّر على وضعه وليس لنا غير الدموع. تعبنا يا أمّاه ولم نعد نقدر على تحمّل رؤيته وهو كالجثّة الهامدة.
وتعود “عليسة” للمقاطعة فتسأل أخاها:
ـــ هل لديك حلّ يا “أيوب”؟ هل نعجّل بالتخلّص منه حتّى نريحه من وضعه المؤلم؟ يبدو أنّ صبرنا جميعا قد نفد وهذه حقيقة لا يجب انكارها. قل ولا تخجل أنك متعب بزيارته من وقت لآخر. قل ولا تخجل بأن موته أرحم لنا من عيشِه. لم تخطىء “ماما” حين أكّدت انّنا ننتظر ارثه بفارغ الصبر. ولو أخطأت في ما قالته فهات نتّفق على أن نتصدّق بكامل ثروته على من هم في حاجة إليها.
لم يتحمل “أيوب” البقاء صامتًا فآنبرى في غليان :
ـــ لست مؤهّلة لفهم خطورة ما نقوله. كيف تفكّرين بهذا الغباء؟ أيعقل أن نتصدق بثروة أبينا ونحن أولى بها؟ يالحماقتك يا “عليسة” ويا لسذاجة تفكيرك.. أبوك ينام على كنز كبير وحرماننا منه هو الحمق بعينه. إذا كنت غير محتاجة لنصيبك في الميراث فذاك أمر تتحمّلين تبعاته ولا يهمّك ما نحن فاعلون بنصيبنا أيّتها الحمقاء، أو قولي إن شئت ايّتها المغفّلة.
يسود الصّمت ثانية وتكسّره زوجتي فتقول مكتئبة:
ـــ خوفي من أن تندلع حرب اختلافات وخصومات بينكم وأبوكم ما يزال على قيد الحياة. ماذا لو مات وانتهى أمره؟ خاب ظنّي عند سماع مثل هذه السّخافات أو قولوا إن شئتم هذه التّفاهات. لن يموت والدكم قبل أن تحين ساعة رحيله. إيّاكم أن تستعجلوا فكرة التخلّص منه كما أشار أولئك الأطبّاء الفاشلون. حذار من ارتكاب ذنب كبير قد يقضّ مضاجعكم طول العمر.
كعادته “أيوب” لديه بما يعلّق فيقول:
ـــ لم نعد نفهم كيف تفكّرين يا أماه. ألم تتذمّري من كثرة الأتعاب في السابق؟ ألم تقولي بأنّ موته أرحم له من عيشه؟ حدّدي موقفك يا أمّاه ولا تعبثي بمشاعرنا. لم نكن لنستعجل موته لو لم تتضاعف معاناتك ويزداد عذابك؟ لتفهميها كيف ما يحلو لك. لقد حكم أهل الاختصاص عليه بالموت وهم أعلم منّا بمثل هذه الامور. نحن لا نتمنى فقدانه لكنّنا نشفق على حاله وندعو الله أن ينهي عذابه.
ويرنّ جرس الباب فأسمع وقع خطى يعقبها صوت “بلحسن” زوج شقيقة زوجتي. لا أدري ما الذي أتى بهذا الشّامت إلينا في هذا التوقيت بالذّات. من المؤكّد أنّه قدم ليودّعني الوداع الأخير ويسخر بما يكفي. من منّا لا يعرف سخافة تدخّلاته ورداءة تقييمه لبعض الأمور. مسكينة شقيقة زوجتي حين اختارتها الأقدار لتعيش مع رجل مازال لم يستوعب بعد بأنّنا ودّعنا القرن التّاسع عشر منذ أكثر من قرن. انحنى عليّ فملأت رائحة عرق كريهة الغرفة نتونة وقّبل رأسي وتمتم يتلو عليّ آيات بيّنات من الذّكر الحكيم. لم يأت “بلحسن” وحده لزيارتي بدليل أن زوجته “هاجر” انبرت تقول:
ـــ من كان يتخيّل أن يترجّل هذا الفارس المغوار بين عشيّة وضحاها؟ عربد واستبدّ بأكثر ممّا يستحقّ الأمر ونسي أو ربما تناسى مثل هذا اليوم. اللهمّ لا شماتة. لكنه ارتكب ذنوبًا جمّة أطلب من العليّ القدير أن يغفرها له.
ولا يستأذن “بلحسن” زوجته في المقاطعة فيقول متحمّسًا:
ـــ لم يترجّل بعد يا “هاجر” لكنّه سيفعلها في غضون سويعات قليلة. لن تتصوّروا عظيم لوعتي على فراقه، تمنّيت توبته قبل أن تداهمه المنيّة فلقد ارتكب من الذّنوب ما جعله يحتلّ مكانة مرموقة في جهنم وبئس المصير.
وتنفجر زوجتي في غليان لتقول:
ـــ كفّ عن هذا الهراء ولا تتفوّه بكلام بذيء قد يدخلك عوضا عنه إلى جهنّم. زوجي لا يستحقّ منك كلّ هذا الجفاء أو كلّ هذه الأحقاد. بعبارة أوضح أعلم جيدا إنّ كلّ ذي نعمة محسود فلا فائدة من أن نبعثر أوراق الماضي ونعود لقطع صلة الرّحم التي تضطرّنا كعادتك إلى الوقوع فيها.
ولا يستطيع “بلحسن” البقاء صامتا فيقول بنبرة تهكّمية صرفة:
ـــ سبحان مغيّر الأحوال. ماذا دهاك يا امرأة؟ ألم تشتكي من سوء معاملته لك؟ ألم تؤكّدي بأنّ ثراءه المشبوه غيّر من طباعه وأفسد سلوكه وأتى على أخلاقه؟ ألم تكرّري عديد المرات بأنه يحتقرك ويشتمك وأنّ عوامل الودّ والاحترام بينكما أضحت حلمًا يستحيل تحقّقه؟ عذرا سيّدتي عمّا بدر منّي فلقد ظننت بأنك كنت صادقة في ما تقولينه وتسرّينه.