الدكتور علي عارف نسر- لبنان
لم يكن الأدب يومًا، المبادرَ الأوّل لأيّ حركة تغييرية في الحياة، بل كان انعكاسًا لتلك العجلة الحياتية، إذ يشكّل والفكر والثقافة الدرجةَ الثانية في العمليّة التغييرية التي لم تكن لتحصل لولا حصولها على المستويات التحتية الأخرى، كالتغيير الاجتماعي والاقتصادي وما شابه ذلك. وبهذا لم تنقطع العلاقة بين الحياة والأدب يومًا، لكنّ الحياة وموضوعاتها وأفكارها هي المتبوع في العملية التابعية، ويشكّل الأدب، شعرًا ونثرًا، الطرف التابع.
وقد أثبت على الصعيد الاجتماعي والثقافي، مدى الاستجابة التي يقوم بها الأدب لمواكبة التحوّلات والتغيّرات على مستوى الحياة والمجتمع، لكنّ هذه التحوّلات لا يمكن أن تكون آلية ميكانيكية، بل عبر علاقة منطقية جدليّة يقترب فيها التحوّل، من تحوّل الزهرة إلى ثمرة.
وهذا الانسجام في العلاقة بين الطرفين، جعل النوع الشعري من الأدب الانشائي، عصيًّا على التحديد والتعريف، بل حافظ على زئبقيته الّتي لم يستطع النقّاد احتواءها، ما جعل تعريف الشعر يتغيّر بتغيّر المادة نفسها وتغيّر الحياة الذي أسهم في التغيّر الشعري.
وإذا كان التعريف النهائي للشعر محالًا، فما الذي يمنح النصّ الأدبي، الشعري والنثري الفنيّ، هويّته الأدبية؟
لم تهدأ الحروب النقدية حول النصّ الأدبي، قديمًا وحديثًا، عربيًّا وغربيًّا، يومًا. بل شكّل النصّ الأدبيّ مسرحًا للتباينات النقدية والدراسية والابداعية، بين الدارسين والنقاد والمبدعين، وكان الشعر هو الأكثر حضورًا على الساحة النقدية نظرًا إلى احتلاله حيّزًا كبيرًا لدى المهتمّين منذ القدم. ما جعل النقاد يشكّلون اصطفافاتٍ وفرقًا حياله، مقيمين نظريات أدبية بشكل متتال، ولم يمح اللاحق منها ما سبقَه بل زاد عليه تعديلًا ومناقشة. وتسلّح النقاد بالعديد من المناهج المحلية والمستوردة لاضاءة النصّ، وادّعى كل مؤمن بمنهج ما، أنّ منهجه ذو قدرة على تشريح النص وكشف بواطنه ومواطن الجمال والضعف فيه. وانقسمت هذه المناهج بين داخليّة اقتصرت على الوصف البنيوي والشكلي، وخارجية راح يبحث أصحابها عن مشارب ولادة النصّ، عبر ما يحيط بحياة صاحبه نفسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، مكرّسين الانقسام الحاد والقديم بين ما يعرف باللفظ والمعنى العائد عربيًّا إلى العصر العباسي على الأقل كما يبدو مما وصلنا من التراث النقديّ العربي.
ولا يمكن حجب النص عن مساءلة القرّاء له، إذ إنّ النص ثابت وتختلف حوله القراءات، فتشكّل كلّ قراءة جديدة ميلادًا جديدًا له. فالمحلل النفسي يلقي به فوق أريكة التحليل ويحاول كشف الدوافع النفسية اللاواعية التي أنتجته، والمحلّل الاجتماعي يضعه على طاولة التشريح الطبقي رادًّا إيّاه إلى الصراع المحرّك الأساس لعجلة الحياة، وكذلك ذوو المنهج الاسطوري والموضوعاتي وغيرهم. لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه بشكل موضوعي هو: هل بامكان المحلل النفسي والاجتماعي وغيرهما، أن يعثرا على جمالية النصّ عمومًا، والشعريّ خصوصًا؟ لا بل هل يمكن لهؤلاء أن يميّزوا بين النص الشعري والنثري إن لم يكن لديهم المام بتقنيات ولادة النص الشكلية؟ بالطبع لا. فالشعرية والهوية الجمالية الفنية، لا يمكن منحها لنصّ أدبيّ الا عبر دراسته أسلوبيًّا أوّلا، والخروج من هذه الدراسة الشكلية الوصفية إلى ما يحيط بالنص. لكنّ الدراسة الأسلوبية وحدها كفيلة بأن تبيّن الجماليات النصية، بينما الدراسات الأخرى عاجزة وحدها عن ذلك. والدليل الواضح على هذا، يعود إلى أنّ النصّ لا يمكن أن يحاكم من خلال موضوعاته وقضاياه، وإن كان هذا المعيار الأساسي في الحكم على الشعر لدى النقاد العرب قديمًا، حيث المعطيات الحياتية واقتراب النص أو ابتعاده منها هو المقياس الجمالي له، وهذا ما تبلور تحت ما يعرف بنظرية عمود الشعر التي أرخت بثقلها على الشعر العربيّ، مسيّرة إيّاه بما يشبه السلاسل قرونًا، ولم يخلخل ثوابتها ما قام على ضفافها من نظريات مهمّة وكبيرة عارضتها، بل زادتها رسوخًا أمام الوافد والدخيل المهدّد الكيان المألوف، حتّى ظهرت ملامح التمرّد عليها شعريًّا على يد أبي نواس وأبي تمام والمتنبي وغيرهم، ممن حوربوا بحجّة الخروج على المألوف وعدم وجود من يقارن بهم من الأوائل جراء الموازنات والوساطات التي قام بها بعض النقاد.
هذه المعايير الحياتية التي حوكم النصّ من خلالها، وعبر القيم والأعراف السائدة راح النصّ يقبل ويرفض، جعلت الهوّة تتسع بين عنصري النصّ الأدبي، وهما الشكل والمضمون، وراح الشعراء يراعون الظروف الحياتية والأيديولوجية على حساب الفنية، ما حمل بعض الغيورين على الشعر وفنيته على رفع الصوت عاليًا والمناداة بفصل الشعر عن القيم والدين كما هي الحال في صرخة الأصمعي في القرن الثاني للهجرة.
هذه المستجدات التي زعزعت بعض النظريات شبه الديكتاتورية، أنتجت نظريات تشدد على تقليص المسافة بين الشكل والمعنى، وأكثر ما تمثّل ذلك بنظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني الذي خرج من تحت مظلة عمود الشعر وراح يجرّد اللفظة منفردةً، من أي قيمة معنوية أو دلالية، إذ لا قيمة لها إلا بعد نظمها في سلسلة من كلمات ضمن عبارة واحدة. وهذه النظرية يمكن أن نعدّها الحجر الأساس للبنيوية الغربية التي غزت النقد العربي لعقود من الزمن. وبهذا، أصبحت النظرة إلى النصّ مختلفة، إذ لم يعد الموضوع مغريًا للحكم عليه، بل لم يعد السؤال الكلاسيكي “ماذا يقول الشاعر” ضروريًّا، بل أصبح السؤال الذي يتطلب اجابات عن فنية النص يختزل بالصيغة الآتية: “كيف يقول الشاعر؟”.
هذا السؤال الذي يحيلنا إلى البحث عن أسلوبية النص الشعري وغير الشعري، يؤكّده مسرح التنافس بين الشعراء منذ القدم إلى اليوم، إذ شكّلت أربع ركائز حقلًا خصبًا لهذا التنافس والتمايز بين الأدباء، وهي الموسيقى واللغة والخيال والمعنى، وليس مجيء المعنى في آخر سلّم الركائز انتقاصًا منه، بل تأكيد بأنّه ليس مقياسًا للتنافس طالما أنّ المعاني يشترك فيها الجميع، وليس من قدرة أحدنا على خلق موضوع أو معنى استثنائي، بل تشكّل المعاني مَعينًا لمن يغرف منها ويعيد تدويرها بلعبة فنية عبر الركائز الثلاث التي ذكرت قبل المعنى. وهذا ما جعل كبار الشعراء، ومنذ الجاهلية، يشكون من تبخّر الموضوعات وإعادة اجترارها فقط، فقد قالها زهير بن أبي سلمى علانية: “ما أرانا نقول إلا رجيعًا/ أومعارًا من قلونا مكرورا…”
ليؤكّد المتنبي ذلك بعد قرون:
” أتى الزمانَ بنوه في شبيبته/ فسرّهم وأتيناه على هرمِ”.
ليكرّسها أبو العلاء المعري قائلًا:
“تمتّع أبكار الزمان بأيده/ وجئنا بوهنٍ بعدما خرف الدهرُ…”
ولكنّ هذا لا يعني اهمال المعنى، لأنّ الكلام الذي يخلو من معان هو محض هلوسة وهذيان، وصحيح أنّ ترتيبه يأتي في نهاية السلّم، ولكنه موجود، وفي معظم التعريفات، شكّل المعنى آخر الترتيب، وخير مثال على ذلك تعريف قدامة بن جعفر للشعر: قول موزون ومقفّى يدلّ على معنى… فالشكل يسبق في الأهمية، ولكن الشكل دون مضمون جميل يستحق استنفار اللفظ والصور والموسيقى للتعبير عنه، لا يشكّل نصًّا، وقد أشار إلى ذلك بأسلوب جميل الناقد ابن رشيق في قوله المختزل، مشبّهًا البيت الشعريّ بالبناء المسكون فيقول: ” هو بيت قعره الطبع، وسمكه الرواية، ودعائمه العلم، وبابه الدربة، وساكنه المعنى، ولا خير في بيت غير مسكون.”
وهكذا ينحصر التنافس ضمن ركائز إيقاعية ثلاث، وهي الموسيقى، خارجية أكانت أم داخلية، وأكثر ما تمثّلت بالعروض والروي والقافية سابقًا، لتؤكّد نصوص شعرية أخرى أنّ خلوّها من هذه العوامل الخارجية لا يحرمها من الايقاع. والايقاع عبر اللغة والتخييل، وما فيه من انزياحات عبر المسند والمسند اليه والمضاف والمضاف اليه والنعت والحذف وغيرها من الانزياحات التركيبية وعلى رأسها التقديم والتأخير.ثمّ الايقاع التصويري التخييلي وما يحويه من منافرات عبر أنواع المجاز وعلى رأسها الانزياح الاستبدالي المتمثّل بالاستعارة وعلاقة المماثلة القائمة عليها.
وهذه الركائز الايقاعية الثلاث، تعلو وتهبط حسب التغيرات الزمنية والحياتية المنعكسة على الأدب شكلا ثم مضمونًا، فيعمل الأديب على الابتكار والخلق عبر العوامل الشكلية ضمن الركائز الايقاعية المذكورة، من دون ابتكار ملحوظ على مستوى الموضوع والمعاني المطروحة في الطريق. وقد بدأ التنافس عبر الموسيقى، خصوصًا في الجاهلية والاسلام، ليهبط هذا المدماك أمام اللغة خصوصًا في العصر العباسي، ليصبح التخييل هو المسرح الأساس للتنافس خصوصًا مع الرومنسيين. وهذا التناوب بين الركائز، يؤكّد تفاعل الشعراء والادباء مع عقرب الرقص الزمني، والانسجام مع حركة التغيير، وقد اختزل ابن المعتز هذا الشعار عبر قوله:
إذا آنست في لفظي فتورًا/ وخطّي والبلاغة والبيانِ
فلا ترتب بفهمي إنّ رقصي/ على مقدار إيقاع الزمانِ
وفعلا، عمل الكثيرون من الشعراء على الخروج على المألوف في كلّ عصر جاعلين رقصهم على ايقاع الزمان، وشكّلت الخروق للمألوف صراعات حادّة بين المقلدين المحافظين والمجددين، وأكثر ما تجلّى ذلك في العصر العباسي لما ولّده الجديد الذي أتى به بشار وأبو نواس وأبو تمام والمتنبي… وغيرهم، من استنفار لدى المتمسّكين بكلاسيكية الأدب عبر معايير للحكم، كان أكثرها معايير حياتية تعكس الأعراف والتقاليد والقيم السائدة، متّبعين طرق القدماء دون علم بها، فقط للمحافظة على التراث، وقد جاءت سخرية النواسي واضحة حول ذلك في قوله”
تصف الطلول على السماع بها/ أفذو العيان كأنت في الفهمِ
فإذا وصفت الشيء متّبعًا/ لم تخلُ من زللٍ ومن وهمِ.
ليشكّل جواب أبي تمام زلزالا على صعيد التجديد والخروج على السائد حين قال: لماذا لا تفهمون ما يُقال، لمن سأله: لماذا تقول ما لا يُفهم.
واستمرّت الثورة التغييرية التي تعكس الثورات التغييرية الحياتية، فتجرّأ بعض الشعراء على الخروج على الأوزان القديمة عبر الموشحات والمخمسات وغيرها، لكنها حركة كانت محدودة ومؤقتة إذ سرعان ما عادت الأوزان التقليدية الى عزّها على يد الاحيائيين، ليتخلخل الوزن بقوة على يد شعراء التفعيلة في القرن العشرين، عبر الاطاحة بالبيت والروي الواحد والابقاء على الوزن التفعيلي وتعدد الروي، معلنين بذلك خروجهم من الشعر القديم وليس الخروج عليه، لتأتي قصيدة النثر في النصف الثاني من القرن نفسه، وتطيح بما تبقّى من وزن معوّضة غيابه عبر التخييل واللغة فقط، محوّلة النص الشعري إلى غابة من الغموض، معلنة تعويض الوزن بذلك، ما جعل روّادها يدخلون في ازدواجية الموقف، إذا إن التعويض يكون اعترافًا بأهمية ما خسرناه قسرًا، فلماذا شغلهم هذا التعويض عن المفقود وهم تخلّوا عنه طوعًا وليس كرهًا؟
وأخيرًا، فإنّ هذا العرض السريع لحركة التغيير على مستوى الشعر، جاء لتكريس فكرة أنّ الهوية الفنية والأدبية، سواء على صعيد الشعر أم على صعيد النثر، لا يمكن أن تُمنح لنصّ أدبي إلا عبر دراسته شكليًّا وأسلوبيًّا أولًا.