بقلم الأديبة زينب حداد / تونس
كان كالنّسرِ المُحلّقِ في سماء النار و النور،فاتحا جناحيه للريح يحتضن بهما الكونَ مجرّاتٍ و كواكبَ ونجوما …كان كالذرات تتجمّعُ لتُنشئ الطاقةَ الكونيةَ…كان كالماء يتدفق أنهارا فبحورا فمحيطاتٍ…اليوم يحصلُ على شهادته العليا…اليوم تنفتح أمامه أبوابُ الحياة…اليوم يولَد…اليوم يبدأ…
كما الكونُ عند نشوئه تفجرّتْ طاقاتُه…تفكك و تجمّع…توالد و توسّع حتّى اكتمل…بدأت أحلامُه تتراقص أمام ناظريه…شغل فراتبٌ فإشباعُ جوعٍ ففرحةُ الإخوةِ الصغارِ و الأبوين العجوزين فسَفَرٌ و رحلات فمنزلٌ مجهّز بالضروريات و الكماليات فسيارةٌ وإنْ متواضعةٌ ففتاةيحبها و تحبه ، يعيش معها حياةَ الاستقرار فأطفالٌ كالزهوريستقبلونه إذ يعود من العمل بالتهليل و القبل و يستقبلهم بالحلوى والهدايا…يحتضنهم … يشمّهم و يَعِدُهم “بجنة أرضية و أنهار من كوثر وعسل مصفّى”…
كان كالنسرمُحَلِّقًا يحتضن الكون َ مُمْتلِئَ الكيان
مرت سنة فسَنَتانِ ثم أخرياتٌ تتابعن كأسراب النمل…وهو ينتظر…بدأت الجذوةُ تنطفئ و الروحُ تنكمش…هزُلَ منه الجسدُ و اغبرّ وتشعّث و اشتكت منه كراسيُّ المقاهي و جدرانُ المنزلِ
ما فرح الإخوةُ ولا هنئ الأبوان و لا أعارته فتاةٌ لفتةً
كان يرى كيف تتناسل التنانينُ وتبتلعُ الأخضرَ و اليابسَ من قوت
الناس ٠
كان يرى كيف تغيب جبال من الأموال في بطون الذين لا يشبعون ٠
كان يرى كيف تضاعف فقرُ الفقراء و كيف تضاعف ثراء الأغنياء بأموال الفقراء الكادحين ٠
وكيف أُهْدِرت الكرامةُ باسم ثورة الكرامة
وسُرِقَ الخبزُ باسم انتفاضةِ الخبز
انكسرالجناحان وبات النسر زاحفا على أرض الوحل و الحصى والشوك …انكمشت المجرّاتُ و ضاق الكون فجمع ما تبقّى له من “هلاهل “في حقيبة وقصد البحرَ …هناك في الأبعادِ تبدو الشمس طالعةً و ستكون الجنة تحت قدميه …هو صاحبُ شهائدَ عليا و كفاءاتٍ لو وعى قيمتَها الحجرُ لانفطر…هناك في الأبعاد مالٌ و حريةٌ و عدالة …
هناك …الأحلامُ لا تُغتالُ …
كان موجُ البحر كالجبال المتحركة،يدفع بالجثث نحو الشاطئ ٠
وكان إذ يتكسّر على الصخور عند الشاطئ يتقيّأ كلّ ما اختزنه من غضب و قهر ٠
كان النسر على سطح الماءمنتوف الجناحين ،شيئا يسلمه الماء إلى اليابسة أو يكاد ثم يسترجعه حُلما مذبوحا اختلط دمه بزبد البحر…
كان الكون ينكمش…تتفتت كواكبه و نجومه ذراتٍ …ذرّاتٍ٠