بقلم: الكاتب لـحـسـن بـنـيـعـيـش / مـكـنـاس/الـمغـرب
احتفالا بعيدها الأممي التاسع لا يسعني إلا أن أجدد التأكيد على أن اللغة العربية لغة سحر و بيان. و أكشف عن بعض لطائفها و أسرارها، و مكنونات جمالها، و دقائق معانيها، و حسن صياغة مبانيها. من ذلك: الفصل و الوصل، و الإظهار و الإضمار، و الذكر و الحذف، و الإيجاز و الإطناب و التعريض و التصريح… ما يجعل العربية متميزة كنظام لغوي محكم بلغ بها درجة الكمال الذي لن ترقى اليه لغة غيرها.
الأصل في اللغة العربية الوصل، و قد يعذل عنه إلى الفصل؛ حيث تكون عناصر الجملة قوية التركيب، متجانسة الأجزاء، لكن السياق يستوجب الانقطاع أي الفصل دونما خلل أو اضطراب، ما يجعل الفصل / الوصل ثنائية جذابة بامتياز. فلا يتلى: “فويل للمصلين” إلا موصولا بما بعده. أما قول أبي تمام:
” ليـس الحـجاب بمـقص عنك لي أملا 🟔🟔🟔 إن السمـاء ترجَّـى حـين تحـتـجـب ”
فترك العطف من أجل الفصل، و لا سر لهذا الفصل إلا قوة الرابطة بين الجملتين.
و في الفصل: الظرف الزماني “أما بعد” لكمال الانقطاع بين ما افتتح به الكلام و ما يتلوه و هذا مشهور. و من جميل الفصل ما يعرف بالإعتراض الذي يجري مجرى التأكيد، و يقع بين المبتدأ و خبره أو الفعل و فاعله، كما هو في قول الشاعر:
” و قـد أدركـتـنـي -و الحـوادث جـمـة- 🟔🟔🟔 أسـنـة قـوم لا ضعـافٍ و لا عـزلٍ ”
و هذا اعتراض بين الفعل و فاعله. و في هذا الفصل ما لا يخفى من الحسن.
يعتبر الإظهار أصلا فإذا أضمر أحد الركنين وجب تفسيره: “و إن أحد من المشركين استجارك”. إِنْ لا تدخل إلا على الفعل، و فعل الشرط هنا مضمر يفسره الفعل الظاهر. و التقدير: و إن استجارك أحد. و كذلك الأصل الذكر، و إن عذل عنه وجب تقدير المحذوف، كما في قول الأعشى:
” عـلـقـتـها عـرضا، وعـلـَّـقـت رجلا 🟔🟔🟔 غيري وعـلـق أخـرى غـيـرها الـرجـل ”
المحذوف الفاعل، و يحذف إذا كان معلوما للمخاطب: “خُلق الإنسان من عجل”. أو مجهولا و ليس في ذكره فائدة زائدة: “سُرق مالي”. كما قد يحذف :المصدر – المفعول به – الحال و المضاف.
أما الإيجاز و الإطناب، فيوظف كل منهما وفق ضابط معروف: “لا اختصار مخل، ولا اطناب ممل”. و من الإيجاز: “أخرج منها ماءها و مرعاها” تكثيف دلالي لمعنى الجملة في كلمات قليلة: بالماء و المرعى أخرج من الأرض قـوتا و متاعا للناس: عشب – شجر- حطب – نار – ماء… و هو إيجاز قصر، أما إيجاز الحذف فيحذف فيه: الحرف – الكلمة – الجملة أو الجمل، مع قرينة تعين المحذوف. و يكون عندئذ الحذف آية في البلاغة و روعة في الحسن.
و في الإطناب مقامات تفهم من سياق الخطاب: “عُـرَبًا أَتْـرَابًا”، العَروبُ: المتحببة لزوجها المظهرة له ذلك. و هذا لا يكون مع الصمت أو الإيجاز، و حذفِ أطراف الكلام، و إنما يكون بالإسهابِ فكاهة و مداعبة و تغزلا و استفاضة في الحديث و البوح الحارق. و اشتهر عند العرب أنها تختصر في الإعتذار و تطنب في الشكر.
و لأمر ما فُضل التلميح عن التصريح، فـيكنى عما يـُسْـتَـمَـجُ الإفصاح به بــالرمز أو الإشارة:
” أشارت بـطـرف الـعـيـن خـيـفــة أهــلـهـا 🟔🟔🟔 إشـارة مـذعــور و لـم تـتـكـلـم
فـأيـقـنـت أن الـطـرف قـد قـال مـرحــــبا 🟔🟔🟔 و أهـلا وسـهـلا بالحبيب المتيم ”
و بالاستعارة اللطيفة كما في قول قيس بن الخطيم من قصيدة مطلعها:
” رد الخليطُ الجِمال فانصرفوا 🟔🟔🟔 ماذا عليهم لو أنهم وقـفوا ”
قائلا:
” ما أَنس سلمى غداة تنصرفُ 🟔🟔🟔 تمشي رويدا تكاد تـنغرفُ ”
فبدل وصفها وصفا فزيولوجيا مكشوفا لاكتنازها و سمنتها، وصف مشيتها بالفتور فكان ذلك أملح و أزيد في جمالها، مراعيا حسن الأدب و ترك التصوير الإيروتيكي.
و كذا قول الشاعر:
” رمتـني بسهم ريشه الكحل لم يضر 🟔🟔🟔 ظواهر جـلدي و هو للـقلب جـارح ”
ثم انظر إلى ما حقه التأخير، كـالـمفـعـول به و الخبر و الجار و المجرور، عند تقديمه إما لفتا للانتباه أو تخصيصا لأمر من الأمور و منه قول المجنون:
” تَـزَوَّدْتُ مِـنْ لًـيْـلًـى بِـتَـكْـلِـيـمِ سَاعَـةٍ 🟔🟔🟔 فَـمَـا زَادَ إِلَّا ضِـعْـفَ مَـا بِـي كَـلَامُـهَـا ”
و ما أعظم أن يخرج الأمر و النهي و التمني و النداء و الاستفهام عن المعنى الأصلي إلى دلالات استلزامية يدل عليها سياق الخطاب و قرائن الأحوال، كـالـتـوبـيـخ –الـدعـاء – الالـتـمـاس – الـعـتـاب – الإنـكـار و الـتـأكـيـد و الإقـرار! و من ذلك قول جرير:
” ألستم خير من ركب المطايا 🟔🟔🟔 و أنـدى العالمين بطون راح؟ ”
إنه كلام غاية في الدقة و روعة في البيان، فلا غـرابة إن عُـدَّ أشهر بيت في المدح، لما فيه من التأكيد و الإقرار للممدوح صفتي : الشجاعة و السخاء.
فـلـيـعـذرنـي أبو ماضي إن قـلـت :
” و الـذي نـفـسـه بغـيـر جَـمـال 🟔🟔🟔 لا يـرى في الـعـربـيـة شـيـئا جـمـيـلا”
و كـل عـام و لـغـتـنـا الـجـمـيـلـة بـألـف خـيـر.