د. مصعب مكي زبيبة
إذا كانت التأويلية فهم الاستعمال اللغوي، والغور في سبر اتجاهاته ومعانيه المختبئة في طيات النص واستجلاء المقاصد التي يبطنها القاص، فإن القص ذلك الجنس الأدبي الذي يتجلى فيه التواصل عبر انساق السرد معبئا بالخطاب الاستراتيجي المشع بالأفكار والفلسفة المنتجة.
ومن هنا ظهرت التأويلية منهجا نقديا بعد افتضاض التشابك اللساني الذي يصطخب بالسرد، وعليه فإن الناقد المتفحص المهيأ لتسليط الأضواء على مقاصد الكاتب وبيان مواضع الجمال في النص الأدبي تتجلى فيه أماكن اشعاع الخطاب وسياقاته التواصلية التي تلهم المتلقي في استظهار ما يترشح عن السرد من خطاب أو حتى ما فوق الخطاب.
وهذا ما نريد أن نتتبعه في إشارات تأويلية لرواية (الرجوع الصادم) للروائي الشاب (إبراهيم الاعاجيبي)، وهي الرواية الصادرة سنة (2020) عن دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع.
إذ يمكن تصنيف أركان الرواية من حيث الفعل القرائي أو التأويلي على جانبين، هما الجانب المثالي والجانب المتأسلب، وهما جانبان متزامنان ضمنيا في العملية السردية الخصبة والمتنامية التي تمكن الروائي (إبراهيم الاعاجيبي) من تقديمها وإظهارها بكل جلاء ووضوح وصفاء.
ويبدو ذلك في دفعات متباينة أسلوبيا بين جذب ودفع، وبين إظهار وإضمار، فعندما يتبلور خيال بطل الرواية (وسام) بالذكريات الأليمة التي تشظت بكثافة أحداث الرواية نجد تتفق المضمر والظاهر، تقول الرواية: (يوما كنتُ راجعا في حدود الساعة التاسعة مساء، وإذ بي أرى دورية من الأمن واقفة بمنتصف الطريق لم أخشَ وجودهم لأني لم أبلغ السن القانوني لأذهب إلى الحرب… قادونا بذلك الليل إلى مركز تدريب، ويدعى حامية النجف… صعقتُ وكدت أجن تمت هذه العملية وبهذه الطريقة أُقاد إلى الحرب، وأنا غير مهيأ لخوضها). وبهذا الاسترجاع التقني الذي مارسه الأديب (إبراهيم الاعاجيبي) أضمر خطابا أيديولوجيا مهما وهو رفضه للحرب، ونيرانها المشتعلة التي أحرقت النسل والحرث، وهي رسالة غير مباشرة في نبذ كل أساليب القمع والاضطهاد الذي كان يمارسه النظام البائد، حيث يساق الشباب من دون سابق استعداد إلى مطحنة الحرب، وحيث يقدمون قرابين من أجل حياة القائد الضرورة، فقد اكتوى بطل الرواية (وسام) مثلما اكتوى الآخرون بسعيرها الطائش، وذاق لوعتها وأوارها، مثل كل العراقيين على حد سواء، الذين كانوا مشاريع موت مجاني على جبهات القتال التي ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.
وفي رسالة أخرى يبثها الكتاب في روايته يقول فيها: (وهذه هي أمك حتى هذه اللحظة لم تخلع الثوب الأسود حزنا على فراقك وشهادتك). والرسالة المضمرة التي تتشابك مع الرسالة الظاهرة هي أن الفرح كان شحيحا شحة الماء العذب في زمن القحط، لم يوقظ الفرح أرواحنا فكنا تلك الشجرة اليابسة التي أسقط أوراقها الحزن، والعطش الطويل إلى ماء الحرية وهوائها النقي، فكان انتظار ضوء الأمل في نهاية النفق أمل كل العراقيين الذين ايبست جذور أزهارهم ملوحة الظلم، وتصحر الديكتاتورية والتربة غير الصالحة التي كونها النظام البائد.
إن احتشاد الرسائل والخطابات التي بثتها رواية (الرجوع الصادم) يصعب تتبعها واحدة واحدة على وفق منهج إحصائي دقيق، ونكتفي ببعض الاضاءات والوقفات لكي ندلل أن الرواية ذات أبعاد خطابية تشتمل على الظاهر والمضمر يمكن تأويلها على وفق أداة رؤيوية سردية سليمة. إذ كانت المرجعيات الثقافية للرواية رفض التحزب على حساب الوطنية ورفض الفوضى على حساب النظام والإدارة، ورفض المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة ومصلحة الوطن، وهذه الرؤى والمواقف الوطنية نجدها مبثوثة على امتداد الرواية، ولا تكاد تخلو منها صفحة واحدة من الرواية أما على سبيل الظهور أو على سيبل الإضمار التي مارسه القاص بكل تكثيف واحترافية سردية متقنة، والأمثلة على هذا الظهور والإضمار كثيرة مكثفة ولهذا سوف نكتفي بإعطاء بعض الإشارات كأمثلة في حين ندع القارئ اكتشافها جميعا حين قراءة الرواية كاملة. أمثلة الاضمار (نحن من أرسلناها لك) فالفتاة التي تعرّف عليها مصادفة في أثناء وجوده في السوق الملاصق لكراج الداخل، واعتقد انها مجرد ضحية للقدر، فأحبها وأخلص لها وتزوجها، ماهي إلا عميلة من عملاء الأحزاب التي لا تتورع عن فعل أي شيء من أجل مصالحها ومكاسبها، فعبارة (نحن من أرسلناها لك) أضمرت كثيرا من الأشياء منها التآمر وعدم التورع لفعل أي شيء.. كل تلكم الأشياء أضمرتها تلك العبارة، وهناك كثير من العبارة التي تضمر مسارات جرت في تاريخنا المعاصر، سببت الكثير من العثرات والهفوات التي كلفت العراق الكثير من الخسائر والتراجع على حساب المواطن البسيط.
أما إذا انتقلنا إلى محور تأويلي آخر وهي لغة القص في الرواية، وهي محطة مهمة من محطات التكثيف الأسلوبي لدى القاص، إذ نلحظ عليها اللغة الأدبية التي خرجت من عنق التقريرية والتوصيلة، فقد رفض القاص إبراهيم (الإبلاغية) المباشرة، لينتقل إلى حضرة (البلاغة) التصويرية التي ترسم الأحداث بدل سردها سردا علميا محضا، فكان هذا الانتقال من لغة توصيلة إلى لغة (سردأدبية)، منهجا كتابيا يحسب للكاتب، وكان امتيازا أسلوبيا يرسم منحنيات المشهد السردي بكل تفاصيله، ونجد ذلك جليا عندما يصف الكاتب بطل روايته وهو ينتقل من التردد إلى حسم الموقف: (أن تعيش في ضنك وبؤس وحرمان، كل سنين عمرك، وفجأة يأتي بريق من فرصة العمر، بدأت تلوح لي البشارات لأكون شيئا له ثقله ووزنه، عليّ أن لا أعير أدنى اهتمام لكيفية الوصول إلى ما أطمح فقد جربت صحبة أصدقائي فلم أفلح بأن أكون معهم ولا مع عدوهم؛ لأني بقيت أتأرجح دون أن أحسم موقفي وأبادر لوضع قدمي على الطريق)، وهذه الأسلوبية الجمالية نجدها أيضا عندما تطأ رجله المكان الذي نشأ وترعرع فيه وبعد غياب طويل؛ إذ نجده يصف ذلك المكان بهذه الدقة قائلا: (رائحة المدينة ملأت أنفي بأعذب عطر، البيوت متقاربة… روائح الأطعمة منتشرة كلما مررت ببيت من هذه المنطقة التي تتقارب فيما بينهما حتى تتلاصق).
ونلاحظ على الرواية أيضا التسلسل الأسلوبي الممنهج الذي لا يخدش في انسيابية الأحداث والصور والتفاعلية بين المتلقي والباث، وهي التسلسلية التي يمكن وصفها بأنها ليست بالتسلسلية التقليدية، بل تنعطف بعض الانعطافات المتعمدة التي تجري بوعي تام، مما يزيد من الجمال التقني الذي مارسه الكاتب بكل دراية وفنية باللعبة السردية، فعندما ينعطف التسلسل في قول الفتاة (سحر) التي تعرف عليها بطل الرواية: (سألتني لماذا لم تقربني طوال هذه المدة وتعرف أن جسدي مباح لك؟)، لكن الانعطافة الأسلوبية تتجلى عندما يشعر البطل (وسام)، بحقيقة مشاعره اتجاه الفتاة التي عطف عليها عطفا بريئا من دون طمع الاستحواذ أو الاستغلال، ولما تفوق على نفسه وانتصر لبراءة الفتاة الروحية (التي تظهر وهمية هذه البراءة في نهاية الرواية)، وبعدما قست عليها الظروف وأصبحت عرضة للاستغلال الجنسي من مجتمع ذئبي المشاعر يستغل ضعف الإنسان أيا كان مادي أم معنوي ليؤدي فروض ادران جسده النتنة. وقد تحول المشهد من عطف أو شك أو اتهام إلى مشهد حب وشجاعة وشرف، شجاعة أمام كلام الناس الذي لا ينظر إلى أبعد من أرنبة أنفه. المشهد يبدو هكذا: (نعم؛ مستعد أن أعقد القِران وكُلي أملٌ بأن أنال رضاك يا سحر: عليكِ أن تبدئي حياتكِ من جديد، الله يغفر الذنوب كلها، ولو كانت مثل زبد البحر)، فكانت هذه الانعطافة بالعواطف والمشاعر ناتجة عن فهم معمق للعبة السردية التي نالها بعد أرث مختزن في ذاكرة الكاتب مرده الكم الكبير من قراءات القاص (إبراهيم الاعاجيبي)، وهذا ما نلحظه جليا في كثرة كتاباته النقدية المشفرة بالإبداع المبثوثة في الجرائد والمجلات العربية والعراقية المرموقة.
وهذه الانعطافات بين السلب إلى الايجاب أو بالعكس من الايجاب إلى السلب تقنية مارستها الرواية ممارسة واعية تنم عن دراية خصبة متجذرة الأركان، فإذا ما انتقلنا من الانعطاف الإيجابي إلى السلبي سنجد (شخصية الشيخ جاسم)، الذي وصفه القاص بأنه (المتمرجع)، دلالة على أنه يدعي المرجعية لا عن حق، بعدما كان في صفوف المعارضة يقاوم الظلم والديكتاتورية بكل بسالة أصبح هو الآخر يمارس نفس الدور الذي كان ينتقده ويقاومه ويدعو إلى مقاتلته وسلب الشرعية عنه، وهنا تبدو المفارقة الكبيرة في تغيير النفوس أمام لمعان المادة، في حين يصر بطل الرواية (وسام) على موقفه الثابت على الرغم من قوة التيار الذي يقاومه. وهذا ما طبعته خاتمة الرواية من انتصار الإرادة على (اللاموقف)، ومن انتماء للوطن على حساب الارتماء في أحضان الأجنبي. ولهذا جاءت النهاية بهذه الصورة الفنية الرائعة: (سارعت الخطى وابتسمت له في ليلة هادئة على حين غرة حجزت موعدا لي في الطائرة وذهبت إلى بلد أحبه ويحبني ركبت طائرتي متوجها إلى لبنان، لاتخذها مستقرا لما بقي من سنين عمري بعيدا عن الضوء).
ومن هنا جاءت رواية (الرجوع الصادم) مخاضا سرديا في نسج وإعادة تأهيل للأحداث التي جرت في ظل عراق ما بعد الدكتاتورية، أو ما يطلق عليه (العراق الجديد)، حيث نمت فئات جديدة كانت مضطهدة من قبل نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، وهنا يبدو الرفض لما ترشح من نظام جديد في عراق يفترض أن يكون قدوة لدول المنطقة، وبعدما تخلص من اعتى الأنظمة القمعية، ولكن ما حصل ويحصل كان بخلاف جميع التوقعات، وهذا ما ارخت له الرواية وأرشفت له بكل حيادية ورصانة، وهذا في الحقيقة ما ينقص الرواية العراقية بصورة عامة فقلما نلحظ تأرخة الأحداث المعاصرة، إذ تتجه أغلب الروايات إلى تأرخة الأحداث القديمة، وتتجنب الأحداث المعاصرة، وهذا ما يحسب للقاص أيضا، يقول في هذه السردية (تأرخة السرد): (أن تكون وزيرا لهو منصب رفيع ومسؤولية كبرى، العراق يدعى بلد السواد لكثرة خيراته، فهو منجمٌ من كل ما تحتاج إليه الحياة، يحتوي على كل ما يمكنه من أن يكون في مصاف الدول العظمى، ولكن ينقصه شيء أهم والذي هو الإدارة والتخطيط والانماء، وهذه لن تتوفر إلا بإدارة وطنية همها أولا البلد والشعب).
وفي الختام حوت الرواية (الرجوع الصادم) كثيرا من الوظائف التخيلية والايحائية والرمزية التي سعت إلى استكشاف عراق ما بعد التحرير من الدكتاتورية، فكانت الرواية تشتغل على عنصري الإنسان والتاريخ المعاصر، فلم تكن نصا خاملا مشوها، وإن كان في يتمثل تاريخا مشوها مزيفا، ولكنها قدمت الأحداث المعاصرة التي انمازت بالتزييف والتزويق وانطوت الرواية على مشروع متكامل نحو نبذ التحزب الأعمى الذي يؤدي إلى التقاتل والتراشق، فكانت الرواية نشيطة بأحداثها وانسيابيتها وأشخاصها التي شملت زوجة السابقة لبطل الرواية التي فارقها زوجها مدة طويلة لتتزوج أخاه وشخصية ابنه من زوجته الأولى اللذان تعاونا من أجل سرقة البطل، وأم البطل التي ايبسها الحزن على ولدها الغائب، والمتمرجع والأشخاص الذي زاملوا البطل في بلاد الغربة أيام المعارضة وأشخاص آخرين، وزوجة البطل التي وجدها في السوق مصادفة التي مثلت دور الضحية وغيرها من الأشخاص، وهنا نؤشر على قدرة القاص الشاب إبراهيم الأعاجيبي في بث موضوعات وأحداث مثيرة للجدل وتقنياته الفنية في عرض سرد عبر تراكيب لغوية جميلة وأساليب سردية مارسها بكل قدرة وإدراك ثم الرؤية والمنظورات المتناحرة في الرواية، ولهذا نقول بكل ثقة أن الرواية تستحق القراءة وتستحق الدراسة.