بقلم الناقد والشاعر أ لطفي عبد الواحد/تونس.
كانت الصداقة التي جمعت بين الأديبين محمّد البشروش من دارشعبان الفهري بالاديب محمد الحليوي من القيروان من الصداقات الأدبية الراقية والنادرة. تأسّست على محبّة صادقة لعلّ من أسبابها أنّ الرجلين جمعت بينهما صفات ومشاغل مشتركة فهما من جيل واحد وهما أيضا مربّيان فاضلان من خيرة المربّين والادباء وهما من المهتمّين بشؤون الفكر والفن ومن مزدوجي اللغة بامتلاكهما لغتين هما اللغة العربية الفصحى واللغة الفرنسية ومن المهتمين كذلك بالادبين الغربي والعربي المكتوبين بهاتين اللغتين على خلاف صديقهما الشاعر الكبير أبي القاسم الشابي الذي كان يمتلك اللغة العربية ويتقنها ولا يتكلم غيرها وممّا لا شك فيه أنّ صداقة محمد البشروش للحليوي توطّدت بسبب الصداقة العظيمة التي جمعت البشروش بالشابي إذ المعروف وهذا مايقرّ به الحليوي والشابي أنّ صلة البشروش بالشابي كانت متينة وأن اخبار هذا الاخير كانت تصل الحليوي عن طريقه ولعل ما ميّز صداقة البشروش والحليوي قد تواصلت بعد وفاة الشابّي الذي فارق الحياة في سنّ مبكّرة سنة 1934 ليلتحق به البشروش بعد حوالي عشر سنوات وتحديدا في سنة 1934.
وخلال هذه السنوات تواصلت العلاقة بين الأديبين لكن يبدو أنها ضعفت بحكم قلة الاتصال بينهما الا انها لم تنقطع ولم تتوقف وربما كانت وفاة الشابي هي السبب الذي جعلها تتواصل بسبب المحبة والوفاء لروح صديقهما. ومن بين الرسائل المتبادلة بين البشروش والحليوي رسالتان كان أرسلهما البشروش إلى صديقه الأولى من دارشعبان الفهري بتاريخ 16 مارس1935 اي بعد حوالي ستة أشهر مرت على وفاة الشابي تخللها موت جدة البشروش التي كانت بمثابة أمه التي ربّته إذ انه فقد والدته وهو لايزال طفلا في الثانية من عمره والرسالة الثانية دون تاريخ محدّد لكن يبدو أنها كتبت في نفس السنة من مدينة نابل المحاذية لمدينته التي ولد فيها حيث كان يقضي وقتا طويلا فيها اما بمفرده او صحبة بعض أصدقائه.. والرسالتان هامتان تبيّنان نوع العلاقة بين الرجلين وتصوّران الحالة النفسية الصعبة التي كانا عليها بسبب فقدان صديقهما الشابي وما خلفته هذه المصيبة العظمى من فراغ واحساس بالغربة لدي البشروش بصفة خاصة تضاعف كما اسلفت الذكر بوفاة جدّته التي كانت له أما وسندا عظيما في حياته ولا تخلو الرسالتان أيضا من قيمة وثائقية إذ يذكر البشروش المكان الذي كان يتردّد عليه في تلك الفترة من تاريخ تونس في مدينة نابل وهو نزل فرنسا الذي بني حسب بعض الروايات التاريخية في سنة 1902 في مكان يوجد الان بعد أن زالت منه البناية القديمة في وسط المدينة إذ في هذا النزل كان يقضي البشروش بعض أوقاته مع أصحابه. وفي مايلي انشر هنا الرسالة الثانية مكتفيا بها مع صورة لنصها الوارد في كتاب الاستاذ عبد الحميد سلامة الذي كان قد صدر له في سنة 1978 عن الدار التونسية للنشر. كما أنشر صورة الرسالة الاولى من نفس المصدر لمن رام الاطلاع على الرسالتين..
رحم الله الأديب محمد البشروش ورحم الله صديقيه الفاضلين الأديب محمد الحليوي والشاعر ابي القاسم الشابي..
رسالة الأديب محمّد البشروش إلي صديقه الأديب محمّد الحليوي.
نابل…….
أخرجت رسالتك الآن من إدارة البريد وقرأتها وتعتب عليّ لأني لا أجيبك عن كل ما تسألني عنه وعن اي شيء سألتني؟ لاشيء او على الاقل لا أذكر انك سألتني.
الآن أنا بنزل فرانسا يحيط بي الأصحاب ويرتفع في هذا الفضاء ضجيج امتدّ حتى كرهته وسانتهي من الكتابة إليك لافارقه إلى زاوية هادية حبيبة أمينة تجد فيها نفسي المكدودة وأعصابي المرهقة قليلا من الراحة وقليلا من السلم.
وما اضمأ نفسي إلى الراحة والسلم. آه من قلبي لا يطمئن ولا يقنع دائب الطلب. دائم الرغبة وقد اتعبني بطلباته والطلبات تتعب وترهق.
والقلب يملي وعلى إرادة القلب نمضي ما نحن يا صديقي؟ أنحن العوبة القلب أم العوبة القدر والقضاء؟
كل ما نعلمه أننا الاعيب وهذا كل ما تستطيع أن تعمله الالاعيب. وأي مرارة تندفع من قلبي حين اتبين أننا ما كنّا غير الاعيب تتقاذفنا العواطف ونمضي على أمر أقل الرغبات.
آه يا صديقي.
دعني افارقك لامضي.. إلى حيث أنسى كل شيء… إن أجمل ساعة يرزقها المرء هي أن يكون فيها محاطا بلذاذة من النسيان وما أجمل النسيان أي وداعة وأي حنان أنفذ إلى القلب من النسيان. وإذا كانت الحياة تؤلم بمشاهدها ومعاركها فالنسيان بلسم والنسيان لذاذة تريح الفؤاد وتريحه ليستانف الجهاد ويستانف شقاءه ويظل أبدا الاعيب بين يديها.
آه يا صديقي لا ترجو أن أحدثك بعد هذا.
أخوك محمّد البشروش