للكاتبة العراقية يلى عبدالواحد المرّاني/الدانمارك
– خذ هذه الأحجار حبيبي، ارمها خلف السيارة حين تتحرّك، الواحدة بعد الأخرى…
ينظر إليّ بعينين دامعتين تستجديان تفسيراً، وهو يراني أضع حقيبتي الصغيرة في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة التي ستقلّني إلى المطار، أحتضنه وأطبع قبلةً تعتذر على خدّه. تفرّ منّي شجاعتي أمام صمته ودموعه الصامتة، ويمرّ أمامي شريط سينمائيّ مفزع لذلك اليوم الذي عدت به خائبةً مكسورة، حين فشلت التجربة الأولى وأعادونا من المطار صبيحة اليوم الثاني بعد أن قضينا ليلة مرعبة على كراسٍ خشبية، نجهل ماذا ينتظرنا حين نعود خائبين… كنت أخشى أن أعيد تلك التجربة المريرة…
يوم بارد مطير وكئيب كان في شهر شباط، زاده كآبةً ذلك الخوف البغيض الذي لم يغادرني، رغم نظرات الرجاء والثقة التي يحاول أبنائي زرعها في قلبي، وبإصرار مخادعٍ كاد يخذلني، قلت وأنا أشعر بعزيمتي تفرّ منّي،” يجب أن أحاول ثانيةً، من أجلهم سأجازف…”
أخذت مقعدي في سيارة الأجرة، فتحت النافذة وهتفت، ” سأعود من جديد كي آخذك معي، هل فهمت حبيبي؟ ”
عيناه الغارقتان تشيان بعجزه عن الفهم، ولكنه يهزّ رأسه باستسلامٍ عجيب…
– الآن حبيبي، ارمِ الأحجار….
السيارة تتحرّك ببطء، كما طلبت من السائق، أراقب صغيري من الزجاج الخلفي، يركض ويرمي الأحجار؛ الواحدة بعد الاخرى وهو يبكي… تنهمر أدمعي ساخنةً تغرق وجهي حين جثا على الأرض منتحباً… كدتُ أن… ولكن أختي تلقّفته بحضنها.
للمرّة الثانية أدخل ذلك المطار وحيدةً، ووجيب قلبي يسبقني، عيناي تدوران بقلق، أفتّش عن رفيقتي في الرحلة إلى المجهول، كلّ ما أعرفه عنها، أنها طويلة وضخمة الجسم، شعرها طويل، وتحمل كيساً أزرق، ولم ينسَ صاحب مكتب التهريب أن يوصيني بحمل كيس أزرق أنا الأخرى، ” وكلّ شيء رتّبناه مع أمن المطار…”، أضاف حين انغرس خوفي في وجهه…
أحسّ بالضياع وسط مئات المسافرين، أرتجف، أشعر بدمي يبكي في شراييني حين أرى الصغار سعداء يتقافزون مع ذويهم، وددت لو أتحوّل إلى خفقة ريحٍ تطير إليه، أحتضنه بكلِّ أمومتي الموجوعة، ” لن أتركك حبيبي…”، سأقول له…
ما أن وجدت نفسي عائمةً في الفضاء، حتى انهارت مقاومتي، أخذت أنشج بصوتٍ خفيض، تحوّل إلى شهقاتٍ تخنقني، فزعةً جحظت عيناي، فتّشت عن صوتي كي أستغيث، فلم أجده… وحين عثرت عليه، كان ضبابيّاً، آتياً من وراء الحياة، أنظر من خلال النافذة الصغيرة، أجدني أعوم في غابةٍ من الغيوم البيضاء بلون الثلج، يطلّ من بينها وجه صغيري باكياً، معاتباً وهو يركض ويرمي الأحجار السبعة، ثم يسقط من غيمةٍ بيضاء كبيرة، أفزّ من اغفاءتي مذعورة، أستمطر ذاكرتي، أين أنا؟ أفركُ عينيّ كي استيقظ من ذلك الكابوس اللعين، ليس غير الصمت والحزن، ولوعة عميقة كالموت تزلزل كياني؛ فأبكي، صوت زجاجيّ بارد يخترق سمعي
– ماذا بك؟
أنظر إليها… سلحفاة ضخمة تملأ مقعدها، كتفها الأيمن يفيض ويحتلّ نصف كتفي الأيسر، وأنا منزوية، ألتصق بالنافذة الصغيرة… هائلة هيئتها، أو هكذا صوّرها لي خوفي، وابتسامة بلهاء تفترس وجهها… ابتلع ريقي مرّا، جافّاً كخيبتي…
– أين نحن؟ …. أتساءل ببلاهةٍ مفرطة
– في طريقنا إلى الهدف… تقول هازئة
– أيّ هدف؟
– أتمنى أن تعودي إلى إغفاءتك… تقول بضيق
وتخرج قطعة شيكولاتة من حقيبتها، تقضمها بتلذّذ، أغمض عينيّ ثانيةً؛ فأغوص قي ذاكرتي، تتزاحم الصور، تتكاثف، تتداخل ببعضها، والأحجار السبعة يقذفها صغيري، الواحدة تلو الاخرى تصطدم بنافذتي التي ألوذ بها؛ فأبكي… بحرقةٍ أبكي…
– ماذا تفعلين بحقّ السماء؟ ستثيرين من حولنا الشكوك…
تهتف بذعر رفيقة دربي التي لا أعرف عنها شيئاً ، سوى أنها ستلحق بخطيبها في ألمانيا…
” أريد أن أعود… أريد ان أعود…” ، أفزّ مذعورةً، أمدّ يدي، رأس صغيري مطمئنٌ فوق صدري، أنفاسه دافئةً تخترق رئتيّ…
==================================
ملاحظة: من تقاليدنا الموروثة في العراق، أننا نسكب الماء خلف مسافر عزيز نتمنى عودته سالماً، ونرمي سبعة أحجارٍ خلف ضيف ثقيل أو مسافر لا نرغب بعودته…