الكاتب :محمد ابن المهدي / المغرب
شق الصبي طريقه إلى البرية بحزم.قبل صعوده الجبل، وضع قدمه اليمنى على أول صخرة تمهيدا لطيّ طرفي سرواله عند كاحله حرصا على ثباث الخطوات ودقتها. ومن حظه أنه عثر على غصن ملتوٍ ومتماسك كحزام يرد السروال عن مآله. ورفع يديه السريعتين ليعقد خيط قبعته المصنوعة من أوراق الشجر تحت عنقه. وفي يده اليمني عصا تسعفه على التسلق بيسر. الطريق لم يحدد بالشكل المعروف المستعمل من قبل الجميع. طريق مصنوع بعناية فردية. عبارة عن خط ضيق مرسوم بعناية فائقة بقدميه الصغيرتين، بحيث تكاد لا ترى إلا بصمة صنداله مطبوعة على الأرض بخطوطها الملتوية. يحمل في يده اليمنى وعاءً بلاستيكيٍّ متوسط القد أسود اللون، وضع بداخله كتابين مكتوب على غلاف أحدها بالفرنسية “أسس التفلسف”. والواضح أن الصبي جاء مستعدا، كان تخطيطا قبليا معينا على الهرب. إستهل الرحلة بعد أن هيأ لها . بعد كل مسافة محترمة يتوقف ليلقي أنظاره هنا وهناك، كأنه يخشى من عين خفية تسحق أحلامه.وشاءت الأقدار أن يمر وهو في طريقه على راعٍ طاعن في السن يسرح الغنم في خشوع. إغتبط أردم من الراعي لأنه لا يعرفه. ربما من القرى المجاورة. وإطمئن قلبه. وبادره بدون وعي بتحية الإسلام. لأنه ببساطة لا يعرفه . لاذ الراعي بالصمت كأن على أذنيه وقرا.تساءل أردم في سره : ما بال هذا! ربما إحتقر فيَ الطفولة.لم ينشغل كثيرا بالأمر. أكمل رحلته العويصة. بعد مدة يسيرة وصل إلى نقطة معينة فى منتصف الجبل جلس يثريث قليلا ليصيب الظمأ في وسط جو محتقن بالحرارة. وعلى ما يبدوا أن الأمر بعيد التحقق. تبعته لعنة والدته التي حاول تجنب اللقاء بها وأرسل الحمار بدلا عنه. ها هو ذا بدون مؤونة. وتيقن أن عليه أن يضيف إلى صبره صبرا جديدا.
واصل السير وهو متكأ على عصاه الخشبية. والظاهر أن الطريق ما يزال طويلا وبعيد المنال. توقف قليلا على مقربة من هامة الجبل ليأخد شيئا من أنفاسه، وإلتفت إلى خلفه واضعا كفه الأيمن على أعلى جبهته لتستوي له الرؤية في مواجهة أشعة الشمس. ومال بأنظاره إلى هناك… حيث قريته الحقيرة التي بدت له كنقطة لا ترى بالعين المجردة في قلب الجبال. ولحظتها، تحركت أرنبة أنفه كأنه يشم رائحة كريهة. رمى بعينيه إلى الأسفل، تحت قدميه التي تنفلت منه الرائحة من تحت التراب، وإكتشف أنه يطأ دون أن يحس على جثة أو جيفة نثنة هامدة!! إنتفض أردم بعفوية مع إطلاقه صرخة الدهشة والفزع!! وإنطلق عدوا دون أن يلتفت ولو على سبيل الفضول. بعد ما إطمئن إلى إبتعاده عن نقطة الخطر، قطف شيئا من العشب الخشن لينظف به صنداله البلاستيكي من الأشلاء المتفسخة العالقة على قدميه. لاحت في ذاكرته القوية صدى تلك الفئة التي تضع الجِيف كقوام لغدائها إتقاء لشر الجوع.أوشك بهذه الخاطرة أن يلقي بمعدته الفارغة أمامه من شدة التقزز. وفي كل مرة يبصق هنا وهناك مداراة لتقززه.
لم يبق الكثير للوصول للقمة، ومن وراءها خطوات يسيرة و يتجدد اللقاء بينه وبين شيخه. أخير كُتب له اللقاء. وصل مرتعه المفضل وهو يتلهف إلى قطرة ماء ترد عليه الحياة التي كاد أن يفقدها مع ما بدده من طاقة طوال المسير. ولب شيخه حاجته من ذلك الوعاء الطيني الملفوف بشظايا من الأسمال. ولما إسترجع أردم حياته، قال في حدة :
_ألا ما ألعن هذا الطريق وما أشقاه. الحق أني كفرت…! كفرت بالحياة في كنف الجبال ولن أغامر بتبديد مزيد من الطاقة هنا.
ورد عليه شيخه وهو يمسح على رأسه:
_أنت لها… أنت لها ! إلزم باب الصبر طويلا ولا تكثر الشكوى.
مدد أردم قدميه في إرتياح وثقة مبالغة أمام شيخه، مسندا رأسه الصغير بالحائط الطيني مغلقا جفونه كمحاولة لإسترجاع الأنفاس. وإحتراما لشيخه فرض على نفسه _متحديا النّصب_ مجاراة الحديث. ورد في نبرة ساخرة :
_نعم! نعم ! ذلك من أقوال أمي الخالدة. حقيقة لا أدري من أين تأتون بهذه الكلمات !
_ الصبر ليس كلمة خالية من المعنى كما تدعي، هو مفتاح النجاة… بل هو عنوان الحياة.
_الجميع يقول ذلك؛ لكن لا أحد يفعل !
وأضاف في شيء من التراجع والكفر :
_ في معجمي لا أجد كلمة تدعى الصبر. ولاجرم إن وجدت، أنني سأكون مجبرا على الإيمان بها !!
_المؤمن لا يقول ذلك يا بني، أنت ولد مطيع!
وأحس الصبي بأن رائحة العفن تلاحقة، مال برأسه إلى يساره و بصق بجرأة أمام شيخه . وقال في تشدد :
_أ تعلم… تراودني أحيانا رغبة جامحة في كسر رقبة الصبر قبل أن ينضج !
_لماذا ؟ أتريد أن تنقطع عنا بهذه البساطة؟ ألا ترى يا بني أنك تُلقّى العلم من لدن شيخ فذ وعلاّمة؟
وقال غير حافل بتقدير الشيخ لذاته :
_الحياة شاقة هنا كما تعلم . نحن منقطعون تماما عن العالم. في بعض الأحيان أشك فيما إذا كنا نعيش في كوكب آخر…نحن منبذون!! ذنبنا الوحيد أننا ولدنا في الجبل، هذا شيء فظيع لا يحتمل!
وأردف قائلا في شيء من التحدي :
_نويت أن أقطع الوشيجة مع المعاناة!
ضحك الشيخ بسخرية وسأله:
_كيف ذلك يابني؟ أم أنك مزمع على إغتيال المعاناة!
_ تقريبا… لكن ما أزال مترددا !
_ ما العمل في هذه الحالة إذن؟
غرق الصبي في أحلامه وغمه ولم يعر سمعا صافيا لسؤال الشيخ وقال مهموما:
_قد يكون القرار منطو على شيء من الجفاء في حق والدتي؟ لكن ما العمل! أُجبرنا عليها.
_أخبرني… ما هو قرارك؟
_أ تشك يا سيدي أني قادر على إركاعها؟
_من هي؟
_حقيقة… قررت أن أواجه الحياة!
_ ما هذا الهراء؟مزيدا من الوضوح أردم … من منا معفي عن مصارعتها؟
لزم أردم صمتا مؤقتا. فهو ممزق ولا يحسن التركيز. إختلط عليه الصواب من الخطأ. لا يدري أ هذه الخطوة سترفعه عن الشظف أو قد تصبح سببا في تمرغه أكثر. وقال بسرعة الذي يحاول التخلص من ثقل الأعباء :
_أنوي الهجرة!!
لعنه الشيخ في سره. وقال بامتعاض:
_أه.. هكذا إذن !
وكان الصمت شعار اللحظة. بدأ الشيخ في حنق يرتب عدته لإلقاء الدرس كما العادة.
وفجأة !!
على حين غرة. وبحركة لا شعورية أمسكه الشيخ من معصمه بقوة محذقا في عينيه كأنه يعاتبه من إبتغاء المصلحة له قائلا :
_لا تحاول…!! إياك والتراجع عنا يا أردم …!!
لاحت علامات الوجل على وجه أردم من غرابة هذا الرجل الميت الحي ومن قبح مقلتيه المحاطة بسواد دائري قاتم.هذه النظرة المتوحشة يدرك أردم كنهها حق المعرفة. إعتدل أردم في جلسته وجمع رجليه وحوى ركبتيه بساعديه واضعا ذقنه على ركبتيه، كأنما طُوي عهد الإرتياح وتقطعت أوصال الثقة بينه وبين صاحبه العجوز . بدأت تكهناته التي رسمها في خياله عن غرابة هذا العجوز تأخد مسارها الواقعي. غير أنه أخطأ وضعها في هامش الإهتمام بداية الأمر. إحكامه العاطفة في مسألة تعلم القرءاة والكتابة حجب عنه رؤية الأشياء على علتها.
أخد يتفرس فيه. وركز أردم نظره أكثر في أظافره المتكدسة بالأوساخ، والظاهر أنها لم تقلم عقودا من الزمن، فضلا عن جلباب أبيض اللون إضطر الى التخلي عن رونقه بفعل فرط آثار الدَّرن عليه. وتسرب شك مهول إلى سريرة الصبي الذي لم يعد يطيق. وبعد صمت مطبق، هم أردم بالقول ردا على نصيحة الشيخ أو ربما تحذيرالشيخ كاذبا. وبنبرة الخوف :
_لا نية لي في ذلك البتة… كان ذلك مجرد إدعاء فارغ!!
العجوز لم يتجرع أبدا هذا الرد، وأدرك أن هذه هي الفرصة ولا دعي للتأجيل أكثر. قلبه لن يتحمل ضياع الدم المقدس. وإكتفى بقوله:
_ممتاز!!
هل أنت مستعد للدرس؟
إكتفى أردم بهز رأسه بالإيجاب. ويصدر عن مقلتيه بريق لا مع من الخوف. إبتلع ريقه وإزدرده عن آخره. توالت وتتابعت بسرعة ضربات قلبه، كأنه يُساق الى المشنقة. لا يرتاح أبدا لهذا الرجل الذي يدعي العلم ويمسك عليه الوقت بسرد زندقة السلف وتفاهة الفلسفة التي لا يأتي منها بشيء مفهوم. قليلا ما تُقبل أذنيه على الإصغاء. ولا ريب أن شكوك عدم الإرتياح في حضرة ملقّنه إستشاطت في خواطره، بعد زوبعة الروائح النثنة المستفحلة في الأرجاء، زد على ذلك محادة حجرته لمقبرة كبيرة جنبا الى جنب.
ومن غير المستبعد أن تكون جثث مثناثرة مدسوسة تحت مجلسنا هذا. إني أرى من مجلسي هذا في كل زواية بلطة معلقة!! وسكاكين ملقاة في كل مرتع دون ترتيب!! وجماعات منظمة من الذباب تتحرك وتحوم حولنا بحرية وسعادة. كيف لم يخطر ببالي شيء وانا أدخل وأخرج كالبهيمة؟ وكيف لم أفكر بأن الأمر يتجاوز المألوف هنا؟
ثم، ألم تحذرنا ((الخالة عائشة)) من عشاق الكنوز!! أه…أي غباء أصابني!! ومن غير البعيد أن أكون الضحية التالية!! ذلك فعلا ما يُنتظر من عجوز لا يخلو طعامه من لحوم الكلاب والحمير! وما يبعث على الحيرة حقا، إلتصاقه المريع بالأموات !! إحتمالات غير جازم بها دارت بسرعة في دائرة التأمل والإستنباط في خلد الصبي.
وقرر أردم في قرارة نفسه أن لا رجعة له الى هذا المكان، ولا حتى محادته ولا حتى التفكير فيه، طبعا إن لم يتحول إلى وجبة دسمة لهذا الشيطان!! وحاول التفكير في وسيلة قد تكون أكثر نجاعة للنجاة بروحه .أه.. كيف لم يخطر لي ذلك… نعم، الفرار هو المَنفذ الوحيد الذي قد ينقد حياته من الهلاك. أي.. نعم. فكرة ممتازة. لكن باطنه غير مقتنع البتة بهذه المغامرة. على فرَض أني حاولت الهرب….قد يكون له مساعدين في مكان ما هنا، وهكذا قد أضطر إلى تجرع آلام بشكل مضاعف!!
إنكشف إنصرافه عن الإصغاء لشيخه الهَرم. حدجه بنظرة حادة كأنها السهم. أحس منها أردم بقرب موعد الوداع. وشعر أن هذا العجوز الحقير بدأ ينفذ إلى طويته، ويعلم ما يدور في خلده. همَّ أردم بالوقوف في حركة خارجة عن الإرادة دون وعي.
لم يكلف الشيخ عناء النظر إليه. سأله وعلى محياه الدابل إبتسامة ماكرة :
_إلى أين يا سيد أردم؟
لعن أردم اليوم الذي شاء فيه القدر أن يتعرف إلى هذا الكهل. لم تعد له رغبة في العلم. إصفر وجهه بشكل كاشف وواضح، أججت كلمة “سيد” التي لم ينادى بها قبل ذلك من خوفه ورفعت حجاب الشك عن صحة افكاره. إختلطت عليه الذكريات التي مرت في وجدانه كالبرق. المدينةو الموت والقطة والأطفال والمعلم…!! حتى أبوه الذي تركه وهو إبن أشهر تذكره هناك. أقسم في سره لحظتها بأنه سيصارح أمه بأمر الحشرات. فقد إحساسه بقدميه، تلاشت الآمال ولم يبقى لها حديث. ولاحت في ذاكرته لحظة إرتشافه الماء ساعة الوصول، وتيقن أن العجوز تآمر على حياته بتسميمه. وقد يكون كل ذلك محض خيال إستجابت له روح الطفولة العاجزة.
إنعقد لسانه لثوان. لم يستطع الإجابة عن سؤال الشيخ. طوقه الخوف من كل جانب، وأدرك أنه ميت ميت لا محالة ورد بثلعثم وثبعتر واضح :
_إلى… كيف؟… أنا بريئ!!
_ألا ترى يا سيد أردم أنك إرتكبت ذنبا!! وإخترقت الأصول !!
أدرك أردم بعدها أن هذه حجة منه ليبرأ ذمته، وأكبر الظن أن يحاول إرضاء الضمير. وقال في إستسلام :
_إذن ما حكمك؟
لم يعر العجوز جوبا. لزم السكوت كالميت، كأنه يتلذذ بتعذيب قلب هذا الصبي. ويحس بنشوة تجتاحه عندما تئن فرائسه. إستولى صمت ثقيل على الأجواء. ظل الشيخ مستغرقا في كتبه النثنة التي تفوح منها روائح الموت. أما بالنسبة للصبي بدأت تنفلت منه عبرات ساخنة بسخونة الجو، منتظرا حكم الموت الذي لا تبديل عنه. عاد شريط التعارف بينه وشيخه يلوح أمام عينيه.الصدفة هي الفيصل دائما في تكوين علاقات قد تكلل بالنجاح أو قد تكون وبالا على أحد طرفيها. يوم من أيام الصيف جمعت المصادفة بين أردم والشيخ. لم يشعر به أردم تلك الظهيرة وهو منكب على تقليب الصخور بحثا عن أطفاله؛ حتى لفظ الشيخ!! فزع أثناءها الصبي ونشأ رابطا يديه وراء ظهره حماية لسرية العمل. وسأله عما ينقب عنه. وتردد أردم في بداية الأمر عن مكاشفته. لكنه ما فتئ يصارحه أخيرا وكشف له عن علة بحثه عن الحشرات والغاية منه. وتبين من صفحة وجه العجوز أنه لم يقتنع أبدا بما قاله الصبي. ولا يهمه الأمر لا من قريب ولا من بعيد.
فعلا، عدم إقتناعه كان عين الحقيقة. لقد كذب أردم وهذه ليست المرة الأولى. كذب في تبيان حقيقة الهدف من وراء جمع الحشرات. أخبره فقط أنه ككل الأطفال يحبون مداعبة هذه الأشياء والإستئناس بها، ودعم حجته هذه، بإنقطاع المدرسة عنه ، ولم يجد ما يملأ عليه الفراغ، فارتأى بعدها التنقيب عن الحشرات. ومن هنا نشأت علاقة الأستاذ والمعلم بينه وبين الشيخ. نعم…صحيح !! طفل يؤمن على أسراره. وما الغريب في الأمر؟ أردم ليس طفلا عاديا كما يظهر للعيان. لم يكن الهدف حبا في اللعب وإضاعة الوقت بل شيئا أعمق من ذلك، لكن الصبي أبى أن يكشف للجميع عن ذلك.
والغريب أن الشيخ لم يستفسره عن إسمه أول اللقاء، بل درايته باسمه سابق للمقابلة، كان ذلك عن سابق ترصد. وأضيفت هذه الآية إلى حجج الصبي التي لم يستنبطها إلا في جحيم العجوز. وتيقن بأن هذا العجوز جزء من حقيقة مظلمة، زعيم لنفر من الجن أو ما شابه ذلك.
يردد هذا العجوز في اللقاءات الأولى البريئة على مسامعه في كل حصة كلمات يستفتح بها الدرس : العلم والصبر شقيقان، وصلت بهم الوشيجة مبلغ الإئتلاف والإندماج بحيث لا سبيل إلى التفرقة بينها أبدا.
وكان يقول له : ان إختلجت في نفسك نية الحكم، فكان حتما لزاما عليك أن تجند نفسك عقلا وقلبا وإحساسا، بأن تتسم بكل ما ينطوي في النفس البشرية بشره وخيره، وتجند الضمير لكي لا يتأثر بما أصبت من الشر.
ويرد أردم على حث الشيخ له بأن يلقى آماله وأحلامه على مقاليد الحكم والسلطة:
_لا أرى إلا غاية أُمعن وأجهد في إدراكها، ان أغدوا معلما ألقن أطفال القرية بعضا من الحروف وشيئا من القرءاة.
وقد يكون هذا طموح قيل في مهد الطفولة، ولا يقصد به أن يتحقق واقعا. وأيا كان موقع الطفل في النبوغ والسبق إلى سبر غائلة الأشياء؛ يبقى مسلوب التمييز في رمي الهدف حيث ينبغي له أن يرمى، ويراعى في ذلك الأقدار وموازين الحياة. وقد يأتي عليه حين من الدهر مصحوبا بنفحات الإدراك والوعي، يمنح طموحه لونا جديدا تبعا لخولج الميولات ومعالم الشخصية.
ظل أردم واقفا واجما غظّا لبصره منتظرا النهاية. أما العجوز فتمادى في صمت مجحف وإفتعل إنشغاله بالكتب، لعلها خطة مبتكرة لتجريد الصبي من قواه، وإستنفاد طاقته. دفعت الإنفعالات الخارجة عن الإرادة أردم إلى تحريك إصبع قدمه بعفوية ، وبدأ إبهامه يغرق في التراب رويدا رويدا، ولما أحس أردم بشيء خارج عن طوق العادة، وسّع من مجال حركة الإبهام. مرة يصادف شيئا صلبا في موضع معين. ليس بالحجارة حسب ظنه. ومرة أخرى يحس بشيء لازج غاية في الليونة في موضع آخر. هناك لاحظ أردم عند رفعه إصبع قدمه دودة صغيرة تتمايل بحرية فوق قدمه. ولعن أردم نفسه في تلك الساعة.حتى الدعاء الذي تعلمه من أمه بخصوص المواقف الصعبة طار من مخيلته. وعلى حين غرة أغلق العجوز دفتي الكتاب بقوة مقصودة، وأطلق ضحكة صاخبة مستفزة وهو يهتز من مكانه. سارت قشعريرة في جسم أردم كأنها التيار. وشعر بشلل يجتاح ذاته، نعم… رأى الموت يلوح له من قريب.