قراءة : الأديبة زينب الحسيني – لبنان
النص : إبحارٌ في شاطىء الذكريات .
بحركة رشيقة ازاحت شعرها الليلكي الطويل إلى الوراء , ثم سحبت خصلة متمردة بدلال , لتنسدل على صدرها, نثرت نظراتها بغنج على الحاضرين الذين جاؤوا ليحتفلوا بشاعرهم, وبصوت أودعته كل أنوثتها قالت:
_ بعد أن نلنا شرف الإحتفال بشاعرنا الكبير, شاعر الحب والرومنسية بمناسبة صدور ديوانه السادس الذي يحمل , كم عودنا الشاعر , ثمانين قصيدة حب..
قاطعها المعجبون , خصوصاً المعجبات منهم, بتصفيق حار.
اعتدل الشاعر الستيني المتأنق في جلسته, وألقى نظرة زهوٍ وانتشاء على زوجته التي تجاهلته كاتمة غيظها وذكرياتها عن مغامراته, التي ما يزال يؤرشفها أشعاراً, تصل حد البوح بادق التفاصيل..
_ والآ، ضيوفي الكرام.. واصلت ذات الشعر الذي سرق من الليل حلكته.. سأطلب من شاعرنا المتألق أن يتفضل إلى
المنصة لنحلِّق معه إلى النجوم..
بحركة لا تزال تحمل شيئاً من رشاقته التي استنفدتها السنون, حيَّأ الحاضرين ببسمة عذبة وانحناءة رأس رشيقة,
اعتلى خشبة المسرح, هدوء عميق ساد قاعة الاحتفال , واشرأبت أعناق مراهقاتٍ صغيرات, متلهفةً تنتظر همسات الحب والاحتراق عشقاً , انطلق صوته يحمل رنيناً يأخذ الألباب, يغمض عينيه, يحلق بأجنحة أشعاره, عريفة الحفل تحلق معه
منتشية … حين توقف سحبت نفساً عميقاً وصوبت نظراتها الناعسة إليه.
_ ليطلب , لو سمحت , شاعرنا المتألق .. يبتسم متلذذاً بانوثتها الطاغية تسكبها عسلاً في صوتها الساحر..
_كل طلباتك مستجابة.. يضحك الحاضرون, ويعلو تصفيقهم من جديد.
_ حبذا لو تشنف آذاننا ببعض من قصائدك القديمة في الحب, تلك التي كتبتها لحبيبتك الأولى, التي خلدتها فيها.
طافت نظرة حزينة في عينيه, تداركها بابتسامة واهنة حين استشعر غيظ زوجته وهي ترميه بسياط نظراتها الملتهبة..
_آسفة إ، كان الأمر يسبب لك حرجاً..
قاطعها مسرعاً _ أبداً .. مقتطفات من تلك القصائد سألقيها.
صوته اكتسى نغمة دافئة جديدة , كزقزقة العصافير همساته تنساب بدفق عذب, يشوبه الألم :
” لو شفتاي الآن تسكران على شواطيك , لو كل أغصان كرومي عرشت فيك وأترعت كاسك بالحنان… ”
علت بعض التنهدات , وساد جو القاعة هدوء قدسي.. حين انساب صوت عريفة الحفل, حالماً هو الآخر,
قاطعاً ذلك التواصل السرمدي..
_ والآ، حضورنا الكرام, لي مفاجأ’ لشاعرنا, ولكم أيضاً .
علت همهمات مستفهمة, ومد الشاعر عنقه حتى وصلت أنفاسه متسائلة إلى أذني الشابة الحسناء, عريفة الحفل ,.
معنا اليوم ملهمة شاعرنا الأولى , التي قلد جيدها بأجمل قصائد الحب, ففغر الشاعر فاه , ارتجفت شفتاه , أمسك بحافَّة المنضدة مستعيناً كي يضبط إيقاع جسده.
تبعثرت نظراته على وجوه الحاضرين, تبحث عن إشراقة وجهها, تلك التي هام فيها عشقاً, وكتب فيها مئات القصائد على مدار سنوات, حتى أصبحا أشهر عاشقين في الجامعة.
_ أستاذة ناهدة, هل تتفضلين معنا هنا..؟
كانت تجلس مع زوجها في الصف الأول , ارتبكت, اكتسى وجهها بشحوب موتى, نظرت إلى زوجها مستنجدة, رغم وقع المفاجأة عليه , ضغط على يدها وساعدها في النهوض, اشرابت الاعناق مستطلعة, وانطلقت همهمات من هنا وهناك,
عدلت نظارتها الطبية , وبحركة لاإرادية راحت تسوي خصلات شعرها المتبقية بعد أن أجهز عليها العلاج الكيماوي , نحيلة أصبحت حد التقشف , لوحت بيدها محيِّية , وابتسامة منهكة ترتجف فوق شفتيها…
مبتهجة لتسديد هدفها في المرمى , ابتسمت الشابة المرحة وهي تنظر بثبات في عيني الشاعر اللتين اغرورقتا بالدموع..
_مرحبا استاذ..
تسلل صوت ملاك الأمس, ضعيفاً مرتجفاً, إلى مسامعه, نظراته ملتاعةً مزقت ما تبقَّى من مقاومتها, انحنى لها محيِّياً بابتسامة تحتضر.. صفق الحاضرون بحرارة وهم يتابعون هذا المشهد الحزين, وهوى رأس الزوج بين كتفيه..
تحشرج صوت الشاعر, محاولاً أن يشكر الشابة التي عادت تبتسم له بانتشاءٍ, حين عاد إلى مجلسه, مبتلعاً صدمته ونظرات زوجته الشامتة؛ التفت يبحث عنها, لم يجد غير ديوان شعره الأخير ملقىً على كرسيها الفارغ …
مقدمة :
الصورة السردية الموسعة:
تعد الصورة السردية الموسعة , وسيلة للتعبير الفني والجمالي عن قضايا إنسانية خالدة , مثل الحياة والموت, الحب الكراهية , السلم والحرب , ومن ثم فهي طريقة للتشكيل والتصوير والوصف , موادها البلاغة واللغة , ورؤيتها إنسانية محضة .
الصورة السردية التي قد تحضر في القصة القصيرة, ليست صورة حسية فقط, بل هي صورة تخييلية إبداعية إنسانية ,
تتجاوز الواقع إلى عوالم خارقة محتملة وممكنة .
و أهم مافي الصورة, هو طبيعتها اللغوية والفنية والجمالية الخاصة , كما أن لها آليات تعبيرية, نثرية وسردية ودرامية تجعل من مبحث الصورة, عالماً منفتحاً وخصباً .
وتحتل الصورة البلاغية مكانة مهمة في الدراسات الأدبية والنقدية , لأن الصورة هي جوهر الأدب بل هي جوهر مجموعة من الأجناس الأدبية والفنية, كالرواية والقصة القصيرة والققج. والمسرح والسينما.. إلخ …وهي أيضاً بؤرة فنية وجمالية ..
البناء الفني للصورة السردية, يقتضي دراسة الصورة ضمن جنسها النوعي , و ضمن مكوناتها الفنية والبنائية,
كدراسة الحدث والشخصية والفضاء , والوصف والمنظور السردي , ودراسة اللغة والأسلوب .
المرجع :
مقاربة سيميو – بلاغية للصورة
د. جميل حمداوي .
البناء الفني للنص :
العتبة الأولى / العنوان: إبحار في شاطىء الذكريات . جملة اسمية تبدأ ب “إبحار ” ذات تداعيات ثرية تتركنا نتخيل فضاء شاطيء لازوردي , وأمواج بحر تتلاطم أو تتلاقى ما بين جزر ومد.. يعلوه الزبد حيناً , وتتشعب تياراته وتتوالد أحياناً .
.
الذكريات , عالم عجيب يسكننا , يخزن مواجعنا وأفراحنا , خيباتنا وأسرارنا ومكبوتاتنا في اللاوعي الذي ينطلق من عقاله كلما خلدنا إلى أعماق ذواتنا وعدنا إلى مرابع طفولتنا وشبابنا وأعز ايامنا .
هذه العتبة مصاغة مجازياً , ومفتوحة على التأويل والتخيلات .
عتبة الاستهلال: يتركز فيها التعريف عن زمن القصة , وعن المكان والمناسبة وهي احتفالية بالديوان السادس لشاعر ستيني مشهور, ومحبوب من قبل الفتيات المراهقات .
تبدأ القاصة العالمة بالسرد, بتعريفنا على عريفة الحفل بأنها صبية جميلة مغناج ” نثرت نظراتها بغنج على الحاضرين” , أودعت صوتها كل أنوثتها , وبدأت تعرف الجمهور على الشاعر” شاعرنا الكبير, شاعر الحب والرومنسية ”
كما أن الشاعر ” ألقى نظرة زهو وانتشاء على زوجته ” ” التي تجاهلته كاتمة غيظها وذكرياتها عن مغامراته ,
نلاحظ تكثيفاً لغوياً في السرد وجمالية في التعبير , فقد عرفنا بشكل موجز أن زوجة الشاعر غاضبة من علاقاته السابقة وتتجاهله وكانها تسخر من ماضيه .
نتابع تسارع الحدث بشغف , لنعرف المزيد, فما أن يعتلي الشاعر خشبة المسرح “بزهو الشباب” حتى “تشرئب أعناق مراهقات صغيرات, تنتظرن همسا ت الحب والاحتراق عشقاً ”
هنا يقفز إلى ذهننا تخيل الشاعر الكبير ” نزار قباني ”
الذي كان معبود الفتيات الصغيرات ومعظم النساء , ولا نغالي لوقلنا أنه كان محبوباً من الرجال , يحفظون أشعاره ويلقونها كلمات معطرة لحبيباتهم ..
نتابع الحدث ,وتعاود عريفة الحفل غنجها وتلذذها بجمالها , ثم تطلب من الشاعر قصائد قديمة , وتلح على أول قصائد نظمها لحبيبته وملهمته الأولى ,
هنا تعود القاصة بنا بلباقة فورية ودون عناء, إلى زمن مضى ما زال مختزناً في ذاكرة الشاعر , الذي
” اكتسى صوته نغمة دافئةجديدة,كزقزقة العصافير, همساته تنساب بدفء عذب يشوبه الألم ”
تعبر القاصة هنا بلغة شاعرية دافئة وتوصيف دقيق لحالة الشاعر النفسية , وصوته الذي يشبه “زقزقة العصافير”
يعود ب”ذكرياته” إلى احلى أيام قضاها في الجامعة , عاش خلالها سنوات أربع حبيباً ل”ملهمته الأولى ” التي ما زالت زوجته تغار منها ومن كل اللواتي ألهمنه الشعر .
الحدث يستمر تصاعداً ويبلغ ذروة التأزم بقول عريفة الحفل ” معنا اليوم ملهمة شاعرنا الأولى , التي قلد جيدها بأجمل قصائد الحب ”
عندها يقشعر جسد الشاعر من هول المفاجأة ومن وجه زوجته ” الشامتة” ” يفغر فاه , ترتجف شفتاه.. ” يبحث في وجوه الحاضرين عن ” إشراقة وجهها”
وكأن ” الذاكرة تعود شابة , لأول لقاء بينه وبين حبيبته الأولى” يوم أصبحا أشهر عاشقين في الجامعة.
يتأزم المشهد , وترتبك الحبيبة ” ناهدة” ” اكتسى وجهها بشحوب موتى”
تتابع القاصة التوصيف الدرامي بالقول ” راحت تسوي خصلات شعرها المتبقية ” بعد العلاج الكيمياوي ..بابتسامة
“منهكة, ترتجف فوق شفتيها ”
نحس وكاننا نشهد الإحتفالية بأم العين , ونكاد أن نذرف الدمع للحال التي وصلت إليها ” ناهدة ”
وهنا تاتي القفلة المحزنة الصادمة ” تحشرج صوت الشاعر , التفت يبحث عنها , لم يجد غير ديوانه الأخير , ملقىً على كرسيه الفارغ ”
وكانت زوجته لا تزال تحدجه بنظرات شامتة ساخرة .. وكأن لغز النص تجمع كله في هذه الخاتمة المأساوية :!
امرأة تهرب من صورة ماضٍ , كانت فيه محط أنظار الجميع تفيض شباباً وحيوية, تحس كأنها تحولت بقدرة ساحر , إلى حطام امرأة حطمها المرض وبراها السقام ..
_ تيمة النص :
النص ذو سمة اجتماعية , تركز على ” صيرورة ” الوجود الإنساني ومآله من حال إلى حال , إلى حيث لا يتبقى سوى “أسمال ذكريات” تستدعيها المخيِّلة, وتستنطقها , لتسترجع وهج ” البدايات ” وأحلام الشباب .
القصة مدهشة بكل تفاصيلها , نجحت الكاتبة / الساردة , أن تنقلها لنا ممسرحة بواقعية متخيلة , لغة ثرية الصور والاستعارات
شفيفة الأحاسيس الإنسانية المرهفة ..
وقد وظفت اللغة للدلالة والتعبير عن الحدث بحبكة ذكية محكمة البناء , شدتنا منذ العتبة لنتابع بشغف كل الحكاية, وصولاً إلى لحظة التنوير والقفلة المدهشة. , بل جوهر
وقد نجحت أيما نجاح ومن خلال الصورة الحركية , بتوصيف الحالة النفسية للشخصيات الرئيسية في القصة وتشويق الحدث وصولاً للذروة , مع تلاعب بالزمن السردي ما بين الحاضر و الماضي صعوداً وهبوطاً .
للنص إسقاطات واقعية وجودية, تضعنا أمام مصيرنا المحتوم , المحكوم بحتمية التحول والصيرورة والفناء ..
حيث لا يتبقى من الوجود المادي للإنسان سوى الأنقاض / الذكريات ..
التي تشي بأنه ذات يوم , كان..
سلمت الأنامل ودام الإبداع غاليتي القاصة المتألقة أ. ليلى المراني .
الأديبة ليلى مراني