الشاعر والناقد أ. لطفي عبد الواحد
لم أجد والحق يقال سببا مقنعا يدفع شخصا ما الى نقل كتاب مكتوب باللغة العربية الفصحى والتي نص دستورنا في الفصل الاول منه على انها اللغة الرسمية لبلادنا إلى اللهجة العامية والحال أننا لم تكن لنا ولن تكون لنا ان شاء الله مشكلة معها ولا مع اللهجة التونسية التي نتعامل ونتواصل بها يوميا بكل اعتزاز بل نحرص على استدامتها والارتقاء بها حتى لا تصاب بالنفور منها والابتذال. جرني الى طرح هذا الموضوع اقدام مؤلف تونسي على نقل مذكرات الشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي إلى اللهجة العامية او الدارجة والحال أن الشابي لو اراد في حياته أن يدون مذكراته بالعامية لفعل ولكان بليغا في كتابتها بما انه تونسي ويتعامل في محيطه بالدارجة التونسية وبلهجة اصدقائنا واخواننا في الشابية وتوزر والجنوب بأكمله.
ان الامر ليبدو غريبا في تقديري ولا اجد دوافع مقنعة لنقل هذا النص من العربية الفصحى الى الدارجة وكاننا بهذا الصنيع ننقل نصا كتبه صاحبه من لغة أجنبية الى لغة أجنبية اخرى فهل ان القارئ التونسي قد اصبح رغم اقرارنا بالضعف اللغوي وعدم امتلاك العربية جيدا لاسباب ليس المجال لذكرها عاجزا عن فهم نص عادي كتبه الشابي بلغة عربية سهلة مختلفة عن اللغة التي كتب بها أشعاره وهل ان المؤلف لم ترقه كثيرا لغة الشابي فاستبدلها بالدارجة لايصال المذكرات الى المتقبل وكانه يستشرف نهاية اللغة الفصحى في تونس التي توهم قبله اخرون في داخل البلاد وخارجها بتراجعها وتحول الدارجة الى لغة بديلة للدرس والتدريس وهذا طبعا ينسجم مع توجهات من يسعون عن قصد او عن غير قصد الى اضعاف اللغة الفصحى في تونس والحد من استعمالها وفرض لغة أجنبية مازال اهلها يحلمون بعودتها وتثبيت مكانتها في مؤسسات الدولة والمجتمع رغم اننا في تونس من أنصار التعددية اللغوية ومن الدعاة الى تعليم اللغات الأجنبية والمحافظة على استعمال اللغة الفرنسية التى ورثنا استعمالها عن آبائنا دون عقد باعتبارها اللغة الثانية والمتداولة في جهاتنا. ثم انني شخصيا لاستغرب جدا نقل المؤلف لمذكرات الشابي إلى الدارجةمع تقديري الكبير لشخصه وحرية اختياره. وعدم التفكير مثلا في نقل اوترجمة هذه المذكرات الى لغات اخرى كالفرنسية والانقليزية بما يساهم اكثر في التعريف بالشابي وآثاره او نقلها الى اللغة الاسبانية على غرار ماقام به الدكتور والشاعر الصديق رضا مامي الذي ترجم باعتباره متخصصا في الادب الاسباني شعر الشابي إلى الاسبانية وقد لقيت هذه الترجمة كل الاعجاب والتقدير خارج الوطن وفي اسبانيا ودول عديدة.. ولعل ما يزعجني اكثر ليس الكتابة بالدارجة والدليل انني ساندت من اختار الدارجة لكتابة نصوص ادبية لها طعمها وخصوصيتها بل هو هذا التوجه الى نشر نصوص ووثائق حررت بالعربية الفصحى اوكان من المفروض ان تكتب بهذه اللغة العريقة والحية والمتجددة بالعامية فقبل ترجمة مذكرات الشابي الى العامية اونقلها ان صح التعبير وجدنا وثائق توجيهية ونصوصا ومعلقات تكتب بالدارجة بل اننا وجدنا وثيقة الدستور الجديد للبلاد التونسية نفسها تصدر كذلك بالدارجة في طبعة خاصة رغم التنصيص الذي اشرت اليه في مقدمة الدستور على اعتبار العربية اللغة الرسمية التي يجب احترامها والتعامل بها.
لذا ارى من واجبي التنبيه الى هذه الظاهرة التي بدأت تنتشر في السنوات الاخيرة وتحديدا بعد تاريخ الانتفاضة السياسية والمتمثلة في استبدال العربية بالدارجة والخشية من أن تكون هذه الظاهرة غير بريئة وتهدف اويهدف اصحابها محتجين بصعوبة اللغة العربية ومتعللين بالحاجة الى التبسيط والتوضيح الى اضعاف حضور الفصحى وتقليص استعمالها وهذا في تقديري أمر مرفوض ويسئ بلا شك الى هويتنا وخصوصيتنا اللتين نعتز بهما ونرى من واجبنا الحرص على التعلق بهما والمحافظة عليهما حاضرا ومستقبلا..