أ. الكاتبة سعاد فقي بوصرصار/تونس
محاكمة الكورونا 2 أ
بعد أن استمعتْ المحكمةُ الى شكوى الصناعة وتقرير لسان الدفاع رُفعت الجلسة.
الجلسة الثانية
نُودي على المدّعي الثاني:
ـــ السيّدة ملاحة تفضّلي نستمع الى شكواك.
سيدة ممتلئة في تناسق ذات قسمات حادّة تخفّفها نظارات طبيّة ذات مقبض مذهّب. تقدّمت بخطوات ثابتة وقالت:
ـــ شكرا سيدّي الرئيس.
أنا الملاحة. أنقل البشر في ربوع الكون. أفتح لهم الطرق والمسالك. وأمكّنهم من السفر والوصول الى أقصى الأماكن للتنعّم بما فيها من مباهج والاطّلاع على ما فيه من كنوز وخيرات. أحملهم الى حيث أحلامهم وأنقلهم في يُسر على ظهري برّا وجوّا وبحرا في لمح البصر بلا عناء. كما أنشّط التّجارة إذ أجلب البضائع من أبعد الأماكن وأحملها الى من يطلبها. لا تثنيني المسافات ولا العراقيل الطبيعيّة أو البشريّة…
أنا سيّدي الرئيس هزمتني الكورونا بالضربة القاضية.
تحشرج صوتُها قليلا فابتلعت ريقها وأضافت:
أضحتْ مطاراتِي مقابر لطائراتي. فقد خمد دويُّ محرّكاتها الذي كان لا يهدأ ليلا نهارا وهي تجوب المسالك الجويّة محمّلة بالبشر والبضائع والسلع وتصل الى أبعد نقطة حاملة الغذاء والسلاح والدّواء.
وفي المواني ربضت السّفن والبوارج واليخوت حزينة يُهدهدها الماء ويدعوها الى الانطلاق نحو الآفاق والأعماق، وتشدّها الحبال وسلاسل الحديد وتمنعها المراسي الملقاة في القاع…
أمّا شوارع المدن فقد أصبحت مسالك للأشباح بعد أن توقّفت وسائل النقل التي كانت تبعث فيها الحياة والبهجة. فلا سيّارات ولا حافلات ولا شاحنات… كلّها باتت ساكنة هامدة في المرابض وتحت العمارات وفي المستودعات تبكي زمنا كانت فيه ملكات على الطريق.
تحت الأرض تتساءل متروات الأنفاق عن سبب هذا الصمت القاتل الذي أوقف هديرها وكبح جماحها وقد كانت تتبخْتر وتتلوّى في مسالكها حاملة المئات من البشر تودعهم بلطف حيث يريدون. تقرّب البعيد وتبعد القريب… مجمل القول سيدي الرئيس أنا اتّهم الكورونا
فقد حبستْ الناس في ديارهم فألحقت بي أضرارا جسيمة…
ـــ شكرا سيّدة ملاحة نستمع الآن الى لسان الدفاع.
تقدم أحد محامي الكورونا وقال بصوت جهوريّ:
ـــ سيدي الرئيس حضرات المستشارين،
منوّبتي لم تسجن أحدا سجنهم الخوفُ من الرحيل… الخوف من السفر… الخوف من الرحلة الأخيرة… الموت.
توقّف المحامي قليلا وهو يحملق في السامعين ويراقب ردّة فعل كلامه في القاعة فقامت همهمات بين الحضور… رفع صوتة مجدّدا وقال ليخمدها:
سيّدة ملاحة، حاسبي نفسك وانظري الى عدد الأموات الذين تصرعُهم أساطيلُك برّا وبحرا وجوّا.
هذا الانسان الذي اختبأ في بيته فارّا من الكورونا لم يفرّ من حوادث الطرقات التي تقتله بالمئات يوميا، ولا من سقوط الطائرات وتهشّمِها وإجهازها على من فيها، وهم مئات. ولم يفرّ من غرق السفن والبوارج في عميق البحار وعليها مئات بل ألاف من البشر.
من غريب الأقدار أنّهم لم يفرّوا من خطر ظاهر وتحدّوه بالعقل والشجاعة، وفرّوا من خطر لا يرونه مع أن نسبة الموت التي يحقّقها تقلّ عن الخسائر التي تحققينها بتهاونك أو بانعدام الصيانة أو الاكتظاظ والرغبة في تكديس الأرباح.
هذا بالإضافة الى عدد الموتى الذين يموتون ببطء جرّاء استنشاق الغازات السامّة التي تنفثها وسائلك بكلّ قسوة وإجرام. فلوّثتْ المحيط، وقضتْ على الزرع والشّجر أصناف من الحيوانات والطيور والأسماك… والذين لا يصيبهم الموتُ تصيبهم الأمراض التي تنغّص حياتهم…
سيّدي الرئيس حضرات المستشارين.
إنّ ما فعلته منوّبتي هو أنّها فتحت عين الانسان على حقيقة كان ساه عنها. لو اهتمت السيّدة ملاحة بالبيئة واحترمتها وحافظت عليها فأنفقت على تنقية المحيط وسلامته ونظافته جزء ضئيلا مما أنفقته لمقاومة منوبتي لكان العالم اليوم أخضر تحلو فيه الحياة بعيدا عن الأمراض والمنغّصات…
لذلك أنا أطالب بعدم سماع الدعوى وشكرا…
ثم رفعت الجلسة
يتبع…