الشاعرة: هدى كريد
خارج أسوار هذا الوطن الّذي يحتضن الموت لا طاقة لي للعيش أو الكتابة أو الحبّ )حسين السياب(
صوت شعريّ آت بثبات من مدينة السلّّم، يرفّ حياله حمام يبذرّ عطر آل السّياب دون صلة قرابة الاّ الوجع، قدر العراق منذ عصور. قعقعة سنابك الحروف وملحمة العشق والغضب تجددّ أوراقها في أتون حرب، تعكّر منابع الصّفاء وتخلق حكاية عراقيّة مضرّجة بالدمّاء.
أناشيد الفرح مؤجلة أناشيد الحزن تسود
بغداد الطاهرة التي يتوضّأ زائرها بالمحبّة والجمال كما نتوضّا في محراب حرفها المقدسّ داخل شعر حسين السياب العاشق لها، مدينة تيه ودلال وأدب وصمود ورحم ساخن للمحنة.
كم حدثنّي عنها بوله سرى فيه حتىّ اعداني.
كلّ النّوافذ عنده مشرعة على القلب منذ سنّ مواقيت الحبّ في مجموعته الشّعريّة الأولى. غزّال بدرجة الصّدق وغلواء ال تطّرّ ف المشروع عند العشّاق. لم يوال إلّا الأنثنيبن المرأة وبغداد، يعفّر وجهه بتراب الوطن مثل صلّة يقيمها بين النّهدين مكبرّا داخل الثغّر. صلّة شكر للّّ الذي يبتسم مرتين مرة للأرض وأخرى الحبيبة ويقيم في عينيها ماداّ هباته من يديها إلى المساكين.
تلك هي أقانيم الثاّلوث المقدسّ في سفر القصائد.
يطوف في قبلة الوطن مستقرّ الأوجاع والحرمان، حيث لا إثبات للهويّة والحبّ سوى بالموت المنساب بنعومة أفعى بين ثنايا الحياة اليوميّة، إذ يقبل العراقيّ الموت ويهادنه، يتهيّأ له عريس قبر، يرجمه فيهلّل له ويكسر شوكته فيلهج بحمده يحبّه قدر حبّه له. يصعد إلى مشنقته باسما، ويلفّ الحبل على العنق منتظرا ببساطة موعد التنّفيذ يقول في نبرة وجع ساخر
وأنت تمارس حياتك اليوميةّ
عليك أن تكون يقظا من كاتم الصوت أو عبوة لاصقة تثبت في مؤخرة سيارتك لتحولك إلى أشلاء متناثر ة لتمنح بعدها لقب الشهيد السعّيد
يصعب أن تثبت عراقيّتك دون أن تغتال أوتعتقل. ذاك هو العرس العراقيّ، قدّ الشّاعر قميص القصيد من قبل ومن دبر وقطّع يديه لتكون حروفه مواكب أشواق وأوجاع، اختراقا للسّلّم واحتراقا في أتون الاستسلّم أو عزما على المضيّ قدما ذبيحا، نصف يهتف باسمها ونصف يرقص طربا لها. صوته ترنيمة ناي خرس داخل مراثي الحياة الحزينة، حيث تستعيد قافلة سميّه أمجادها ،ضياع يعتور كيانا جمعيّا. فتكون كتابته بالجراحات، تلتقط تغريبة العراقي فينحصر الحرف بين وجع أكبر من جغرافيّة المآسي ودمع فاض عن مساحة الأجفان. الفيء جمر، ملّذ مستجير من الرّمضاء بالنّار، يستوي عنده الموت بالحياة لتولد سمفونيّة موت صال تيها وعربد. صيغ جموع هي حشود الموتى والمودعّين والنّائحات والدرّوايش وشاعرنا الهاذي بأكثر من هويّة والمختبر للموت أكثر من مرّة، لأنّ الكفن أوساع بغداد. يسرح في ايماءات إلى صور يتلّقفها الحلك والضّياء بعيدا. هناك السّماء وإن عزّ منالها والله والملّئكة ،
العالم العلوي بسنخه الصّافي. وحين يهندس الشّاعر إيقاع النّثيرة بصريّا ينحسر المداد لحظة المعراج ويلفع سواده ما يرسم المحنة الطّاحنة. فما سما كلمة واحدة مثلّ نائحات على وطن يبكيه الّل وترثيه الملائكة
وأحيانا يكون قانون المدّ والجزر وفق أهواء النّفس واندفاعاتها والرؤيا ومقتضياتها. يشبه نفسه وان أنكر ويشدّ خيوط النّور في عالم الديّجور، تنساب كلماته إلينا بلّ جواز سفر، عميقة في بساطة، تشقّ طرائقها تفريدا دون تعقيد
هو الواقع وهشاشة الإنسان ورهان الوضوح في البيان. لا ينسرب إلى اللغّة موروث يتكلّفه، إذ تتلوّن بطابعها الذاّتي، وتكتنفها رموزها الخاصّة.
وداخل التسّريد يوجد المعنى والضّديد. قد ينزوي في قوقعة الذاّت تعاليا أ و قرفا أ و فرقا، وقد يحترق في شقوق المكان الموبوءة، جاعلّ من شعره حبلّ سريّا بين أقطار الأوجاع. يستفيق ملء المعاناة من بغداد إلى…
ما رغب في عدهّ دون أن يحصيه وسط كمّ هائل من الأشلّء في المرثاة الحزينة. وتبقى بغداد الآن والأمس والهنا والهناك.
فمن لم يؤمن بالعراق الأوحد مات كافرا.
أجمل حروف اللّغة هي كلمات العشّاق وما دون ذلك ثرثرة ولغو لا معنى لها.**
طريق الحبّ، مجاهدة، تصوّف، سفر دائب إلى اللّّ مكان. حركة مفرغة من الزّمان توّاقة إلى المطلق. ولا أروع منه مقصلة لا تفلت أعناقها بغير معجزة. أقام صلّة شكر لله اعترافا بجميل الحبّ. حبيبة كلمّا رآها ذهل عمّا عداها. بها، بأسمائها ينسى ولو إلى حين محارق الوطن.
وبالجسد ينسى الجغرافيّة المنكوبة في أرض اليباب. فيكوّر العالم قدر استدارة نهد ويعقد اللّقاء في مفترق الحاجبين. تلك الحبيبة أوساع الخصوبة، تجعل من شعرة جنونا لذيذا وتمرّدا وحركة انقلّبيّة تمارسها مجنونة تدسّ في قلمه كلمات الحبّ والغزل وتكتبه كما تريد.
** مقتطفات من قصائد المجموعة.
تكثر في رحابها الترّنّمات الرومانسيّة الحالمة. يلهج لسانه بآلائها على ضفاف القمر حيث النّجوم تقرئ العاشق السّلّم. بغير حدود الأرض، كتب على سحابة حيّ على الحبّ، فانشرحت أسارير السّماء. لئن حمله حبّ بغداد إلى المحارق فإنّ حبهّا يقيه عائلة الحريق. خطّ الوطن التزام، أمّا مسار الحبيبة فانفلّت، دروب الظّفر عبر بوّابات الاستحالة.
يا أّيتها المرأة الياسمين ينمو فوق شفتيك أين أجدك في هذا البلد المظلم حّدّ الموت.
ومادام طريق النّسيان اتقّادا للذاّكرة على الدوّام كان السّالك إليها
إذن لا طريق للّنسيان في هذه الحياة المتجسدّة بهيئة امرأة ترتدي جلباب الّشّعر وتقوم بتنقيط حروف القصيدة بدم العاشق الولهان
صيرّه عشقها وليّا من أولياء اللّّ. فكان الدرّب قناديل مضيئة. يقتات الشّوق من روحه، يذوب كشمعة حين تشعله وتمضي في سلّم ولا شكّ هي روح فينس وشعلة من قبس ابولون تمنحه ما به الشّعر يكون. بل هي الحياة تمشي على قدمين تختزن سرّ الوجود، تناقضاته وخاصّة وجهه البهيج.
في الليلة الثانية كنت أتنفسك عن بعد وفي الصباح كان قلبي يلتهم الطريق إليك مسرعا يحثّ الخطى
يبحث عن جنة سكنت راحة يديك
وكلمّا تكثفّ حضورها تعالت الصّور الشّعرية على أنظمة المعقوليّة بأكثر من انزياح يشقّ طريق التفّريد
وتقف في فكري وفي يدها قطعة حلوى حمراء داكنة تراقص فمها الملوّن بأزرق الّشّفاه
وحبست أنفاسي في صدرك لأكون معصوما من الموت
ليل المتيمّ
جنون وفنون وكلمات من ثلج ونار وما بينهما
روح ترقص مذبوحة على
إيقاع موسيقى سمفونيةّ الجحيم
وبعمق الصّورة المنفلته عن غبار الاستعمال البلّغي تكون الحبيبة في تج لّيات، الأمّ، الأرض ، حبيبتي أحببتك
بقلب أمّ
وعقل طفل وروح أب ودم شهيد
لغة الغزّال واحدة إذا ما خاطب بغداد أ و الحبيبة، يسقط الحدّ الرّهيف متيّم بهما مذ ولدته أمّه إلى يوم يبعثون.
كل نساء الأرض حياة إّلا أنت قصيدة عشق بغداد
تتوحّد ببغداد حينا وتتمحّض لدلالتها الحقيقيّة حينا آخر، أنثى القصيد ما بين واقع ورمز. ربّما تكون مرآة الذاّت أو ظلّ اللّّ على الأرض، اصطفاها للسّموّ وقداسة الرّسال ة.
كلّ شيء سوف ينتهي إلى لا شيء حتىّ هذا اللاشّيء سينتهي**
رغم أنّ الشّاعر لم يلجأ إلى توظيف أسطوريّ صريح، يبتني عوالم الصّورة الشّعرية بالإيحاء، سيزيف يلقي بصخرته إلى اليوم ودائرة العبث المفرغة تضيّق علينا الخناق أكثر فأكثر. يذكرّنا في نفس وجودي بأنّنا الهباء والجبن والخلّء، المنتهون إلى الغياب. أ فليس الموت أعدل م ا توزّع بين البشر؟
يتدرّج الفشل المحتوم منهم، إليه، إلينا. من بغداد ينطلق السّ مّ الذي حقن به الشّاعر شرايين الوجود بأسره. صحراء مقفرة موغلة في الموت هاهنا العتمة والصمت الأبديّ
حيث لا أحزان ولا أفراح
شاعرنا مسيح جديد مخلّص البشريّة من آلامها، يرسم آمالها بعزم مجالد شرس وإن بقبق الدمّ المهدور.
يريد أن يسير عكس اتجّاه الحزن ويعيد ترتيب أوراق المربكة الفرح مؤجل والحزن معتقّ وما بينهما انتظار انكسار وموت صغير وامل يكبر كلما كبر الموت ودارت عقارب الحبّ عكس اتجّاه الحياة
يشتعل الشّاعر بكلّ الحرور وتتصاعد الزّفرات، يتقيّأ العالم ويتأمّل في خوره وخوائه الرّوحي وإفلّس الأشواق أن تحرّك داخلنا الانسان، فالنّوائب تنهش العالم، ويد الشّيطان تحكم قبضتها على كلّ شيء.
وأنا أكتب الّشّعر تشهق حروف اسمها
وتتمرّد القصيدة وتعلن ثورة وعصيانا**
بمداد التمّرّد يكتب القصيدة الهاربة مع الرّيح. الشّعر عنده حركة انقلّبيّة أ و لا يكون. وبصمة نزار تطبع الثوّرة المجنونة وكثيرا من ترانيم الغزل.
وكانت القصائد طوالا أو قصارا. وقد تختزل في جملة شعريّة ولا أدلّ على ذلك من قوله
لا طاقة لي لأرسم وجه حبيبتي على جدار الذكريات المليء بالنسيان…!
وتطالعنا بعض حبّات الهايكو تكثيفا قناديل مضيئة لحظة تأمل الّشّاعرة درب حبّ
منفى بعيد لا وطن في الأفق هي روحي كل مساء
تحت أيّ مسمّى يكون الشّعر لذيذا. لذةّ خاطفة في الجمل ما دمت عاشقا إذا أنا ولي من أولياء الّل .
ويجتاح دفق الكلمات الورق عند الغضب وفي لحظة الانعتاق الرّومانسي المشبوبة. سورة الغضب حمم بركانيّة ترجم مواثيق الخذلان وما أكثرها في تاريخ البلد الداّمي وتجرّعنا غصصا لا ينتهين. أمّا الأخيلة والأحلّم وكرنفال الألوان في الصّور فتحدث الدهّشة وعذوبة الإيحاء وغلمة الصّور لذاّت أفانينا. فالخطاب الشّعري جماع الالتزام والجمال. وربمّا ينزع لبوس الشّعر ليعرّي الواقع مباشرة.
كان الجميع يبحث عن وطن أضاعوه في متاهات السياسة
هكذا تضرب المفارقات في النّص/ الوجود كينونة متعالقة مع الحياة بكلّ تناقضاتها منسابة في روح اللغّة المتماهية مع صاحبها وإن تأ ثرّت بمفردات شعريّة غيريّة. فلّ إمكان لشعر بلّ ذاكرة. غير أنّها لغة الشّاعر المتصّلة بوجدانه، يلوذ بها من تغريبة الحقيقة فيشقى ويط وّح بنا معه في أقاصي الذاّت وما ترسّب فيها من الوجع العراقي والإنساني أ و يحملنا إلى مراتع عشقه الخصيب وتهويماته الحالمة منحصرا في محراب الجسد وفي فلسفته.
ذاك شعر السّيّاب متناقضات بين اللّذة والألم والوجود والعدم، شعر بدرجة فلسفة، وانبتات لا يحول دون تجذرّ وأهازيح حياة تلعلع داخل مدائن الحزن، قطبيّة تمنح الشّعر ما به يكون.
كل المحبة والتوفيق لكم