الكاتبة فوزية أوزدمير / سورية
يحتشدُ هذا العالم بشخصيّاتٍ تشبه شخصيات ( تشيخوف ) ، في الوقتِ الذي أرى أنّ الماضي ليس سوى حلقة مفرغة ؟
إنّه أنشوطة ، إنّه يستنزفنا ويجعلنا ندور مثل حيوان من فصيلة القوارض في عجلةِ متاهةٍ حصريّة ، داخل فكّر مضطرب ، ثمّ نبدأ نكرّر أنفسنا مرّات ومرّات .. لا شيء مختلف إلّا نسيم البحر والوجوه البوهيميّة المنتشرة في أماكن غير متوقعة !
لم أكن أبكي خلال حفلات الهروب من الواقع وأدوات الموت المجاني كلّها ، لم أكن أبكي لأنّ طفولتي لم تسمح لي بالخوف من الموت ، أو من العتمة ، أشعر أنّني إحدى شخصيات ( غابرييل غارسيا ) ، ثمّة شيئاً سريالياً في هذا المكان ، اللاعقلانيّة جزء لا يتجزّأ من العقلاني اليّومي
أقلبُ أفكاري بين ضلوعي المقفرة ، أقلبُ نظراتي في الغرفة المقفلة ، أخافُ المرآة ، أخافُ أنْ أرى نفسي ، أخافُ أنْ أرى المشنقة ، أخافُ أنْ تجرُّ أيامكَ ثقيلة ، كمعصيّة ، كخبزٍ مرّ يطالعك كلّ صباح ، أنْ تسرقني ذاتي إلى المقبرة ، وأنا أسمع صوتي ، فأعدم بلا مقصلة !
وذاتك تشهقُ بحشرجةٍ راقصة من حولك ، تصرخُ بعويلِ ضجيجٍ صامت من أجل الحياة !
هل أبدو تعيسة .. لا أدري ؟
تُمني نفسك بقولٍ لستَ مؤمن به أصلاً ، عندما نحبّ نفنى في الأخر ؟
مقولة قد ترميها في درج الخزانة القديمة ، ثمّ تنساها وتحولها إلى أيقونات معلّقة على جدران إحدى الكنائس ؟
الأصوات المتلاطمة كأمواجِ البحر الهادر التي أسمعها في كلّ مرّة ، ، قبل أن تدوي وترغي وتزبد ، أرجعتها إلى ذاكرتي كي تُخفّف وقع الآلام عليّ
وقفتُ أمام المرآة في غرفتي ، لا شيء ، هذه المرّة لن أبكي ثانيّةً ، سأهرب من دون بكاء ، وأقنع ذاتي بأنّني أجيد الهروب ، لأنّني أهربُ دوماً ، يقوم كلّ نجمٍ من منامهِ في مقاومة هذا الاندفاع اللغوي الغريب ، موجع إصراركِ على أنّ اللّهفة حقيقة بجنونها ، أغفر لنفسي جنونها ، ضعفها وعطرها الهيّام في كونٍ بلا عنوان !
يا اللللللللللللللله أمّي لستُ جبانة !
أنهكني نسياني المراوغ ، فقلتُ بصوتٍ مخنوقٍ :
وبعض خيوط معطفي الرماديّ اللوّن بالباب تنفلت وأنا أدفعهُ دفعاً قوياً وأفتحهُ ، أردتُ أن أحفظهُ ، أن أعيدهُ إليّ ، إلى داخلي ، لم استطع أن أواجه حقيقة خوفي وجوعي ، تصعب المواجهة
لا أفهم مدى اختلافي عن بعضهن ، ولا مدى وجهات الاختلاف ، فأنا منطويةٌ على نفسي ، الفيلسوفة ، الحالمة ، الناسكة التي تحيا في كهفٍ مُتخيّلة من صنعي !
أجدُّ في الأشياء الاعتياديّة قيمة لا تُضاهى ، والرفعة في الوحدة والجمال في كلّ حدّبٍ وصوب ، وفيما الآخرين يكرهان الناس وحظوهم السعيدة ، لم أمقتْ أحداً ، وكنتُ أنتمي إلى نفسي وحدها !
وعندما كنتُ أخلوُ إلى نفسي ، فإنّ إحساسي بالكمال ، كان يبلغَ درجةً رفيعةً ، وكان في وسعي أن أعيشَ في بطنِ حوتٍ من دون أن أتأثر قيد شعرة
اعتقدتْ أمّي في لحظةٍ من اللحظات أنّه وصلتُ إلى هذه الحالة ، لأني لم أبقّ طويلاً في رحمها ، ولم أرضع طويلاً من حليبها ، هكذا كانت تقول لها جدتي ؟
فقد كنتُ الوحيدة من بين كلّ أطفالها التي ولدتُ قبل أواني ، فكانت تتذمرّ قائلة :
لقد باتت بعيدة .. يصعب الوصول إليها !
لا أفهم لماذا الرغبة في القتل المقدّس هي قرينة الحبّ ؟
وأجدني باستمرار خارج هذا المنطق ،خارج كلّ المدارات ، أرتدي حجاباً قاتماً ،أسقط في دوامات ذلك التيه والضياع ، شيء يثير الغثيان في نفسي ، ليست إلّا أشكالاً هلاميّة ، تشتهي الموت ، ومع ذلك تنفرُ بعض حروف تنبش في ذاتي ،ترقصُ على وجعي ، تمضي في براري صمتي ، لم أكف عن التجوّال ، أتسائل يا أمّي من أين المخرج ، أريدُ كلّ الوقت ؟
يصعبُ تصديق السيناريوهات الموجعة ، انطفأت كلّ المنارات في قلبي الذي يخصب الموت فيه ، حاملة سرّيّ وقهري وبعض أوراقيّ في يدي
ربما تسرّب الخوف إلى العظم .. تسرّب إلى عمق الألم العبقري للألم ؟
الخوف نائماً في عظمِ جسمي ينتظرُ أن يخرج ؟
لستُ زجاجاً ولا خزفاً ولا كريستالاً ، بل أكثر هشاشة من كلّ هؤلاء ، أردتُ أن يدخل إلى قلبي الصغير المطر وبرتقالة الغواية وعربدة حظ متعثر أكثر من هروبٍ أتماهى فيه خوفاً أن تتقصف السماء دماراً .. لن تتقصف ، ولكنه قتل رمزي !
ليس سهلاً أن أكون أنا ، وليس سهلاً أن تغادرني ذاتي !
وجدتُ الخوف فيّ وآلمني ..
وسألتُ نفسي : أين الخلّل ؟ .