د. سعاد الفقي أديبة تونسية
الحاجّة دوجة تجاوزت السبعين بقليل. هيّ امرأة رأس مالها جمالها أو ما تبقى منه، وكذلك طيبتها التي تبلغ درجة السّذاجة.
قضتْ حياتها شديدة الحرص على المحافظة على صورتها الناصعة في ذهن كلّ من يعرفها. تعبت وأتعبت. ولكن كلّه يهون أمام رجع الصدى الذي يرضي رغبتها ويُنسيها تعبها وتضحياتها. يهمّها كثيرا ما يقوله الناس عنها فتقرأ له ألف حساب…
تحرص الحاجّة دوجة على ألاّ يعرف عنها أهلها وجيرانها الاّ ما يجعلها مصدر إعجابهم وتقديرهم…
في شبابها كانت تنهض باكرا والناس نيام تغسل ما وسّخ أبناؤها من ملابس وتنشرها حتّى إذا استيقظ الأجوار ونفضوا عنهم النعاس شاهدوا غسيلها يرفرف فوق الحبال على السطح. تشعرُ بنشوة عندما تصبّح عليها جارُتها من النافذة وتقول لها:
ـــ شاطرة يا دوجة…
تملأ نفسها الفرحة ُوتنسى تعبها.
أبناؤها دائما في أجمل صورة وأنظفها عندما يغادرون الى مدارسهم.
ـــ ارجع امشط شعرك قبل الخروج… شيقولو علينا الناس؟
هي نفسها تحرص على أناقتها ونظافة بيتها خاصة قبل مغادرته فتراها تتفقّد كلّ شيء وتضعه في مكانه، خاصّة وسائد قاعة الجلوس التي يلعب بها الأطفال. فكانت تقول للحاج عندما يحثّها على الخروج ويتعجّلها:
ـــ اش يقولوا عليّ الناسُ لو يقدّر الله ويصيبني حادث أو أسقط في الطريق يقولون دارها مفرعسة؟
يجيبها مغلوبا على أمره:
ـــ هيّا اخرجي ولا تتفوّلي علينا.
تستعدّ الحاجة دوجة لكلّ الأحداث الهامّة في حياتها حتّى تظهر بالوجه الذي يُرضيها ويجعلها تتلقّى عبارات الإعجاب والرضى. حفلات ختان أبنائها وزواجهم تبقى مضرب الأمثال وحديث الأهل والجيران. ويرتفع في نفسها منسوب الفخر والاعتزاز فتهون تضحياتُها وإتعابها مادامت حقّقت ما يرضيها ويرضي الناس خاصّة:
فستان العروس من أفضل طراز ولبسة أولى…
المرطبات من صنع أحسن وأشهر حلوانية…
لباسها هي يجب أن يكون لا عين رأت ولا أذن سمعت. أليست أم العروس أو العريس؟
قبل أن تحجّ هي وزوجها رتّبتْ كلّ شيء وأوصت بأن توزع الحلويات وتعدّ مأدبة ويدعى اليها جميع من قدم لتوديعهما.
ـــ ردّوا بالكم لتخليونا حشمة قدّام الناس…
هكذا كانت توصي الى آخر لحظة قبل المغادرة للمطار.
كانت كالجوهرة اللامعة في قفطانها السكّري المطرز بإتقان الى جانب الحاجّ في جبّة السكروتة.
تحرص دائما على أن تكون ملابسهما متناسقة حتّى تثير كلام الناس وتعمل ألف حساب لما يقولونه. وتريد دائما أن يكون كلامهم لصالحها ولإرضاء نفسيتها وربما غرورها.
حفظت الحاجة دوجة العديد من الأمثال اتخذتها قدوة ودستورا لحياتها:
ـــ ما تفخرش عليّ بعيشك وأتعدى عليّ بريشك.
جيرانُها ويحبونها ويغذّون فيها هذا الطبع. كثيرا ما يُطرونها عن مجاملة أو شفقة في كثير من الأحيان لأنّ الأمر متعب ورضاء الناس غاية لا تدرك…
الحاجّة دوجة راضية على حياتها الماضية فقد توفقتْ الى تحقيق ما أرادت وهي الآن ترجو حسن الختام. ما يشغلها هي مراسم خروجها الى العالم الآخر عندما تحضرها المنيّة.
يقول لها الحاج محمد مازحا:
ـــ لا عليك موتي وسنقوم بالواجب. سأعدّ لك جنازة يتحدث بها الناس طويلا…
ـــ أريد خيمة في مدخل الحديقة والكراسي تكون مغلّفة وحذار أن يعطيكم أغلفة وسخة أو غير مكويّة. خُذوها من فلان وليس من فلان الغشاش حتّى إن كانت أثمانه أغلى…
أطعموا الناس احضروا طباخا بمواعينه… افعلوا كذا وكذا…
ـــ أنت توكّلي قبلي واطمئنّي سأقوم بالواجب أنت تحكّمت في حياتنا فدعينا نقوم معك بالواجب الذي يرضيك. انصرفي مع السلامة وكوني هانئة. سأحرص على أن تكون لك جنازة تبدأ من بيتنا حتّى المسجد… يقول لها هذا ليرضيها ثم يضيف ستعيشين بعدي طويلا أنتن النساء أعماركن طويلة… على كل أنا لا يهمني شيء عندما أخرج من هذه الدنيا.
وتشاء الأقدار أن تموت الحاجّة دوجة في زمن الكورونا أثناء الحجر الصحي. لم تصبها الكرونا. ولكنّ الخوف والذعر من الكرونا قتلها.
وجدها الحاج محمد جثّة هامدة في فراشها عندما استبطأ نهوضها لصلاة الفجر على غير عادتها.
ماتت دون أن يلتفّ حولها أبناؤها وجيرانها… دون أن يشهّدوا لها… دون أن يُبلّ ريقها… دون أن يقرأ عليها القرآن وحزب اللطيف… ماتتْ وحيدة.
لو كانت حيّة لخجلت وقالت: “ماذا يقول الناس عنّي؟”
تطوعت جارة فغسلتها وكفّنتها.
وحضر عاملان صحيان سخرتهما البلدية فحملا نعشها الى المقبرة. لم يمش أحد في جنازتها لم يحضر أبناؤها بسبب الحظر الصحي ومنع الجولان بين المدن. ودّعها جيرانُها بعين باكية من وراء الأبواب والنوافذ أو من فوق السطوح بسبب الكرونا.