أ د أحمد بقار ورقلة الجزائر
إنه تساؤل العصر ، إنه إشكال كبير في زمن تداخلت فيه الأجناس الأدبية بحيث لم يعد يفصل ما بينها فاصل ، و انتفى نقاء الجنس ، و تحولت الرواية بعمقها إلى ما يشبه النظرية ، فصارت تنعت بنظرية الرواية ،إذ امتصت من كل فن أجمل ما فيه ، فأرادت أن تستوعب الكل ، يرى الكاتب محمد القاسم أن ” ألف ليلة و ليلة أكدت أن الإنسان كائن شهرياري يحب الحكاية بخاصة الطويلة ” ، و يقر الكاتب عبد الستار البلشي قائلا : ” ظني أن الرواية هي أكثر الفنون قدرة على البقاء ؛ لقدرتها على التعبير عن كل ما يدور في عقل و وجدان الإنسان أفضل من باقي الفنون ، فضلاً عن قدرتها على حمل جماليات لا حصر لها سواء عن طريق البناء أو الحكي أو اللغة ، و كل ذلك يتم بدرجة عالية من المتعة ” .
الشعر ديوان العرب ، كان التنافس في ميدانه كبيرا ، و التباري في ملاعبه ضاريا ، و ظل ذلك كذلك أزمنة مديدة ، و أعواما عديدة ، إذ كان يوزن معيار الكلمات و الجمل و الإيقاع بميزان الذهب ؛ لأنه بالنهاية صناعة ، و صانع الحرفة لا بد أن يكون متقنا جادا في حرفته ، فالتنافس في هذه الحرفة لا يهدأ و يتساقط في ميدانها المدعون.
إذا ما جئنا نتتبع بهدوء ما وصل إليه حال الشعر اليوم ، فإننا سنجد أن هذا المآل كائن و إن الشعر صائر إليه سواء طال الزمن أو قصر ، فشكل الشعر العمودي بشطريه و بالصورة التي هو عليها ولدته ظروف زمنية و حياتية و طبيعة معمارية وليدة تلك البيئة و ذلك الزمن ، و الشاعر مثل الصائغي يجتهد أن يصب المعنى في حدود ذلك القالب لا يتجاوزه ، و لا يتعداه إلى غيره ، كما الخيمة حينذاك ، كل فرد حدوده عند خيمته ، فلما بدأت الأمة العربية تلامس الجديد و الحديث في حياتها ، و التغير في طرزها المعمارية ، و احتكاكهم بثقافة الغرب ، جاء التغير في القالب الشعري ، و لأن الزمن زمن الفكرة صار الشاعر ملزما على إكمال فكرته فوجد أن البيت العمودي لا يسعفه إلى ذلك في الكثير من الأحيان ، فرحل إلى الشعر الحر ؛ لأن الشاعر يجد الحرية في السفر عبر السطور من أجل إعطاء فكرته حقها و مستحقها و لا يحس بذلك القيد الذي يكبله في نهاية كل بيت . فتأتي القصيدة الشعرية أطول مما كان معهودها في الشعر العمودي .
و مع التقدم الزمني و تعقد الحياة لاحظ البعض أن الشعر و إن كان حرا ما يزال يقيده الوزن و لا يفسح له تلك الحرية الكافية للتعبير عن فكرته كما ينبغي أن يعبر عنها ، فتوجهوا نحو قصيدة النثر فلعلها تمنحهم تلك الطمأنينة في الفكر و الاسترسال في التعبير . ثم تساقط الشعراء – على الرغم من هذا – رويدا رويدا نحو الرواية التي أصبحت ديوان العرب اليوم ؛ لأنها أكثر حرية و فسحة و عمقا ، فأصبح هذا الزمن ينعت أنه زمنٌ أنثى ، زمن الرواية ، الرواية ديوان العرب هكذا أصبحوا يقولون ، بعد أن كان الشعر ديوان العرب .
صار الشعر و الشعراء قلة في زمن سطوة الرواية ، الشعر قفز في رحاب العمق و الغموض ما جعل المتلقي ينفر منه ، و جعل الشاعر في حد ذاته يزهد فيه ، فراحت القصائد و الدواوين عندهم يتراجع عدادها و يزداد كم المجموعات القصصية الروايات تصاعدا . و ما زادهم زهدا أن الشعر لا يلقى رواجا أيضا في سوق الثقافة بيعا و شراء ، إن عند المتلقي النوعي أو العادي ، و عزوف البحوث الأكاديمية المتخصصة عن دراسة الشعر ، و الهروب القسري نحو الرواية ، و قد وجدت الأغلبية – من باب التجربة – يعزفون عنه لصعوبته و غموضه و عمقه ، كما ظهرت موضة جديدة ؛ موضة كتابة الرواية من الكل ، و هي في الحقيقة ظاهرة صحية تحتاج إلى قلم ناقد و موجه بصير ليَسَّاقَطَ من غربالها الدخلاء ، و يشتد عود الأصلاء أصحاب المواهب الصادقة .
و في الختام و على الرغم من سطوة الرواية و قد ملأت الدنيا و شغلت الناس ، سيضيء الشعر و ينتعش ؛ لأنه خطاب الروح ، و قد غزت المادية المتوحشة حياة الناس ، نجد في بعض كلام النقاد القدامى ما يشبه الوحي لا يأتيه الباطل من بين يديه و من خلفه : ” لا تدعُ العربُ الشّعرَ حتّى تدعَ الإبلُ الحنين” .