وحيد اللجمي أستاذ الجماليات و فلسفة الفن السيميولوجية بالجامعة التونسية
أمست الحركة خفيفة داخل المقبرة، يميل كل شيء إلى أن يكون هادئا، سكون رهيب يخيم على كل شيء، يقف وقد خيّل إليه أنه قد أصبح وحيدا، كمن يقف وسط قفر مخيف، ترتسم على وجهه علامات مبهمة، محت آلامه كل معانيها، فقدت الأمكنة من حوله كل اتجاهاتها وفقد الزمان في إحساسه كل مقاديره، لم يعد للزمان من معنى، ولم يعد للمكان من حدود، لا يعني له الداخل والخارج أي شيء، لا الموت ولا الحياة، ولا أي اتجاه يؤدي إلى أي طريق، وجود معلّق بعدم حزين، تختلط عليه الأحاسيس ويشعر أن الحين من الدهر الذي قضاه بالمقبرة وهو ينتظر قدوم الحفّارين تجاوز الأزل، هؤلاء الحفارون كحفاري الكنوز، لا يرون تحت الحجارة المتداعية وداخل الغرف المظلمة القابعة في قاع الأرض سوى ما سيجمعونه من دنانير، في كل قطعة من العظام البالية يستخرجونها من مرقدها نصيب من المال، صم بكم عمي، لا يرون سوى ما سيحصدونه من مال وفير، ولا يسمعون سوى رنين الدنانير وهي تقرع أكفّهم، ولا ينطقون سوى لطلب المزيد من المال، هم لا يعلمون كم عانت تلك العظام من آلام وأحزان قبل أن تصبح رميما، ولا ينظرون كم سارت على الأرض هائمة، وكم زهت خطواتها وهي تكاد تطير، كم عانقت جيد الحياة وبكت بدموع الأسى من ألم دفين.
شعر وهو ينغمس في تلك الأفكار الحزينة بألم يعتصر الفؤاد، يتصبب جبينه عرقا، يتعرّق كامل جسده، وتتعرّق ملابسه وما في جيبه من أوراق، تراخيص نقل والديه إلى مقبرة أخرى كدفاتر صفراء بالية تحفظ تاريخا يسقط في كل مرة من المعلوم إلى المجهول، تحمّل الكثير من المشاق لإتمام جميع الإجراءات، لم يكن الحصول على تلك التراخيص التي تعني له الكثير بالأمر الهيّن، إنها سرّ الخلود.
لم تكن الشمس في ذلك اليوم حارقة بقدر ما كان يشعر بأن جسده قد أمسى بركانا يلفظ ما بداخله من حمم من نار وغيوم من دخان، بات يعتقد أن كل عمره قد قضّاه وهو ينتظر تلك الحظة المدمّرة، شعر أنه قد كبر عشرات السنين وهو لم يبارح ذلك المكان الغريب، دخله منذ زمن بعيد وهو طفل يافع ولازمه وهو شاب غضّ، مرت السنوات سريعة خاطفة ليجد نفسه كهلا أمام قبري والده ووالدته، يتجاوران كما كانا بالبيت، لا يترك أحدهما الآخر.
يمرّ بالقبور وقد خطفت أشكالها الغريبة المبعثرة وألوانها الباهتة نظراته الحالمة لتحوّلها إلى نظرات حائرة تائهة، كثيرا ما يشعر بأنه أصبح هو ذاته مشهدا من بين المشاهد المنتصبة والملازمة لذلك المكان، لطالما أنهكت قواه تلك المشاهد وأتعبته الأمكنة، وأتعبته صورته وهي تكاد تصبح جزءا من ذلك المكان الغريب.
يعيش ذلك الواقع الحزين في كل مرة بتفاصيله الدقيقة، أضناه الشقاء وهو يسترجع شريط ذكرياته الماضية بحلوها ومرّها، في كثير من الأحيان كان يهيء له وكأنه بين حلم وخيال، لا واقع ولا حقيقة فيهما، يغمض عينيه ليهرب من تلك المشاهد المتكررة، تنشط ذاكرته لتأتي بمشاهد وصور كان يعتقد أنه قد طواها النسيان، به رغبة جامحة في الابتعاد عن كل شيء، عن الزمان وعن المكان، يمرّر يده على جيبه ليتأكد من سلامة الوثائق التي يحملها معه منذ مدة بعد أن أحسّ أن العرق قد أصبح ينهمر كالأنهار، تلك الأوراق، إنها الطريق الوحيد للمحافظة على والديه على قيد الوجود، نقلهما من تلك المقبرة إلى مقبرة أخرى سيجعلهما باقيين على ذلك الوجود وإلى الأبد، ذلك هو العزاء الوحيد الذي يخفف عليه ذلك الفراق الأبدي.
لم يستطع ولو ليوم واحد نسيان حادثة مقبرة الحي حيث دفنت جدته، بقي ذلك المشهد الفظيع عالقا بذهنه منذ ذلك الزمن البعيد، بين عشية وضحاها تلاشت المقبرة بما فيها من قبور ومن حجارة قديمة بنيت بأيدي كادحة وأخرى حزينة، اندثرت جدّته واندثر الأموات، ورحلت القصص والذكريات، تبخّر المكان وكل ما فيه كخيط من دخان، بقي لسنوات وهو يراقب مقبرة والديه خوفا من أن تلاقي نفس مصير تلك المقبرة الغابرة.
يجهد نفسه ليغمض عينيه ويريحهما من كل تلك الصور المتراكمة، ولكن الصور تأبى فراقه، تستحيل من جديد إلى ذكريات، مرّت بذاكرته صور قديمة متجدّدة، صور تسكن ذاكرته لا تبارحها ولو لوهلة واحدة، مشاهد أخرى ضبابيّة لا طعم لها ولا رائحة، فقدت كل ألوانها وتبعثرت كل أشكالها، لم يعد يدرك للبعض زمانها، تائهة حائرة بين الأمكنة، وما برح الزمان للبعض صورها، الشيخ يوسف، الزاوية القرآنية القديمة، مدرسته ومعلّموه، كتبه وكراساته، الفتاة الجميلة الشقراء، مقبرة الحي بقبورها القديمة، الحافلة المتّسخة، السوق المزدحمة، الحذاء الأسود القديم، القفّة المحشوّة بالغلال والخضار، آلته الموسيقية، أيّام العيد ولعبه الصغيرة التي يحتفظ بها والده له ولأخته الصغرى في خزانته الخشبية الصغيرة حتى صباح العيد، مستشفى المدينة الموحش ببناياته القديمة المتهاوية وجدرانه المطليّة بألوان ترابية باهتة، الموت كالنّار الموقدة المتوهّجة وهي تلتهم كل شيء، أصوات وأصوات، متداخلة مختلطة، ضاحكة حينا باكية حينا آخر، مرحة مرة حزينة مرات، وجوه ووجوه متباينة، ناضرة باسرة، تمرّ أمام عينيه صورة البائع المتجوّل وهو يرتطم بالمارة، يتعثر في كل شيء، صدى صوته الحاد كقرع أجراس الكنائس القديمة، يتردد على مسامعه في كل مرة بذات النغمات الحادة المنفّرة : ” فلايات.. فلايات.. آباري بابور.. أباري بابور..” ألحان فيروز وهي تنطلق من مذياع والده كل فجر كإكسير للحياة، تتغنى بالجمال وتهدي النفوس المتأهبة سرّ الخلود، يطأطئ رأسه وقد أثقلته الصور، يغمض عينيه فيتقد سمعه ويهرع للزمن البعيد، يتردد في أذنيه صوت فيروز وكأنه ينبعث من أعماق صدره، يركن كل شيء إلى سكون جميل، وتعلو تلك الكلمات العجيبة الجميلة المنبعثة بألحانها الرقيقة وكأنها تنزل من السماء بصوت ملائكي رصين :
“أنا عندي حنين ما بعرف لمين..
وبعدو هل الحنين من خلف الحنين..
بالدمع يغرقني بأسامي المنسيين..”
تهزّ الرياح بقوة أغصان الأشجار الفارعة البعيدة، تختلط الأصوات التي بداخله وأصوات تأتيه من كل الأمكنة، تنكسر تلك الكلمات العذبة في ذاكرته وقد حملته إلى عوالم بعيدة لا يدرك من أزمنتها إلا القليل، تقرع أذنيه أصوات غربان مذعورة، نعيق قوي قريب، يختلط صياحها وخفقان أجنحتها المضطربة الهاربة من الأشجار المهتزة بصوت الأوراق المتكسّرة المتدحرجة في رقصة الموت الأخير وصوت البائع الحاد الذي عاد ليجول بخاطره من جديد، ثم تخفت كل الأصوت المضطربة ويبقى نعيق الغربان، تفتر النغمات الحادة النشاز لصوت البائع شيئا فشيئا إلى أن تختقي، يرتفع صوت فيروز الملائكي وقد عاد لينساب من جديد داخل صدره كأنهار من معين في جنات عدن ملؤها السماوات والأرض.
يعود نعيق الغربان من جديد، تسقط المعاني عن كل الكلمات، وتستحيل الألحان العذبة إلى سراب، يتحول النعيق إلى نواح حزين، تداخلت عنده الصور والأصوات، واضطربت بداخله المشاعر والذكريات وقد هزّه الحنين، يفتح عينيه بعناء شديد، يرفع رأسه إلى السماء، تحلّق الغربان عاليا فوق الرؤوس بعد أن كانت قد غادرت، لم تبرح بعض الغرانيق الفضاء الشاسع، بقيت تحوم بأجنحتها الكبيرة، متموّجة مع الرياح، تعلقت عيناه بذلك المشهد العجيب، بقي يراقب حركاتها الدائرية الهادئة المتناغمة وهي تملأ السماء أشكالا وأصواتا غريبة، ينظر إليها بتمعن وهو ما فتئ يتساءل ككل مرة عن سرّ ذلك التواجد الغريب للغرانيق في ذلك المكان البعيد.
يقترب أحد الحفارين منه ومن القبرين، لكنه بقي يراقب السماء، لا رغبة لديه ليهتّم بالمقترب، شعر بالفأس وهو يتحرك فوق الحجارة، صدى قرعاته البطيئة حينا والمتسارعة حينا آخر تأتيه من بعيد كأصداء قاسية فظّة، تقطع أنفاسه، تغرقه في خيالات مرعبة، بقي يستمع إلى صدى تهشّم الحجارة الأخيرة وأنين الحصى تحت وقع الفؤوس القاسية، ينظر إلى السماء لا تفارقها عيناه وسمعه بالأرض لا يفوته سكون الفأس بين الحجارة والحجارة، وكأنه يأخذ نصيبا من الراحة ليكون أكثر قوة وقسوة، يصغي إلى ذلك الصمت وكأنه كتل من أوجاع ومن أنين، تتفتت الحجارة البالية لتصبح ركاما من رمال، تأخذ الرياح حبّاتها، تنشرها على بقية المضاجع، تنبئها بما سيكون من أمرها وبالنبإ العظيم، تتيه أفكاره بين ذلك الأنين الحزين وبين رمس الرمال وزحمة الأحداث وبين الذكريات المتراكمة وعبق الحنين.
تخشى أفكاره الأحداث المقبلة وتخاف عيونه الصور القادمة، يمرّ الوقت فاقدا لكل معانيه، تهبّ نسائم خفيفة بعد أن كانت رياحا عاصفة، جافة محملّة بحرارة خانقة تنتشر في كامل أرجاء المقبرة، تتنبّه حواسه بعد أن أخذته أفكاره في غياهب الزمان وفي أحداث المكان، يشعر بجفاف حاد في حلقه وآلام في كامل رأسه، تتفتح رئتاه على رائحة خفيفة غامضة، إنها نفس الرائحة التي خلّفتها المرأة الغريبة الأطوار في سيارته بعد أن نزلت وهي تحمل في حقيبتها السوداء ما تبقى من عظام أمّها البالية، لقد كانت غريبة تلك الرائحة في ذلك الوقت، ولكنها بدت في هذه المرة وهي تلاحقه عذبة خفيفة ناعمة، لا يذكر أنه صادفها طوال حياته ما عدى في تلك الحادثة الفريدة.
بقي يتحسّس تلك الرائحة الغريبة ويفكر في مصدرها، يتفطن فجأة بأن الحفّار قد كشف عن القبر، وعرف مصدر تلك الرائحة، إنها رائحة الموت تستيقظ من سباتها الأبدي، وتكشف عن وجهها القبيح، تنكسف الشمس في عينيه، وتتحوّل دقات قلبه إلى ما يشبه صوت تفتت الحصى إلى رمال تتقاذفها الرياح، عزيف حزين ينتشر في داخله وفي كل مكان، ينظر متحاملا على نفسه إلى الحفرة الموحشة، رمال متكدسة، حجارة مبعثرة، أوراق الأشجار المتيبّسة المتكسّرة تغطي المكان بلحافها الأصفر البني، تعصف به الذكريات كما عصفت به الرياح العاتية في تلك المقبرة مرارا وتكرارا، عابثة بكل ما يعترضها من أشياء ومن ذكريات، تسقط الأحداث الماضية وتتبعثر أزمنتها، يصور له حاضره الحزين مشهدا مريعا من مشاهد يوم البعث، ينتشر سكون غريب قاتل في كامل المقبرة يبعثر كل ما بداخله، تتوقف كل الحركات، ويستكين السكون، حتى أوراق الأشجار اليابسة المتكسرة والتي لم تعرف الخمود قط، مالت إلى زواياها المنعزلة، منغلقة على نفسها، تلفظ أنفاسها الأخيرة.
شعر وكأنها النفخة الأخيرة، ترتجّ الأرض تحت قدميه، تنفطر السماء، وتختفي الشمس في أعماق العدم، تستحيل الأرض إلى دخان مبين، وإذ بالأموات كأحياء منتشرين، وبالأحياء يمشون على وجوههم هائمين، تتشتت بداخله الأفكار والأحاسيس، تتبعثر الكلمات وترحل اللغة نحو عالمها المجهول، تتجمد كل قطرة دم تسيل في عروقه وهو يتابع المشهد الأخير، يتساءل في قرارة نفسه ولا يكاد يعرف معنى السؤال :
كيف سيجدهما يا ترى..؟ وكيف سيتحمّل هذا اللقاء..؟ إنه دهر طويل من الموت والفراق..
تواترت عليه أسئلة مشتتة متعثرة، تداخلت في رأسه أفكار غريبة ملغزة، تعطّلت حروفه المترنّحة، يتماهى الصمت الذي حلّ بالمقبرة وصمت الأموات، والسكون القابع في أعماق أعماقه، تمتد الأيادي القاسية وقد ألقت بمعاولها وفؤوسها ولفّت سواعدها المتّسخة المتعرّقة لتنزع ما تبقى من الأجساد البالية من أرضها وتزعزع ما تبقى من الأكوان الصامدة.
يكشف الكاشف عن وجه أبيه وهو يحمل الجمجمة بين يديه، أحسّ بأن الأزمنة كلها تتوقف عند تلك اللحظة الصادمة، يتوقّف الوجود على عتبات الموت، وتسقط كل أقنعة الحياة، تتسارع الأنفاس في صدره حتى خال أنه يلهث ويختنق، يرفع الرافع رأس والده ليمدّه إليه، تتوقف حركة الكون في كيانه، وتتوقف أمام عينيه الصورة على الحالة التي هي عليها، يتجمّد من حوله كل شيء، لا يدري كم لبث من الزمان، وفي لمح البصر تعود الصورة لتتحرك من جديد، تتكرر الصورة متسارعة وكأنها شريط مشروخ، مرات ومرات، تخترق الصورة كل الأزمنة، وكل الحواجز الممكنة.
يضع الحفّار الجمجمة في قطعة من القماش الأبيض الناصع على حافة القبر المفتوح، تخمد الأنوار والأضواء في عينيه حتى تكاد تنطفئ، تنكسف الشمس من جديد لتغدو الظلال مجرد وهم وسراب، تتحول زرقة السماء إلى رمادية سوداء، تغدو كل الصور والألوان باهتة لا صورة لها، لا شكل لها، لا هيئة لها، تتسارع الأشكال المركّبة لتتمزق ثم لتتشكل من جديد في تراتب عبثي.
بالكاد يفتح عينيه ليرى الرأس عاريا، لا حياة فيه، لاشفاه فيه، لا ابتسامة رقيقة فيه، لا نظرة حالمة فيه، لم يبق من كل الذي كان أي شيء، أغمض عينيه من جديد وكأنه يطلب استغاثة من هول ما يرى، يتيه وسط ذكريات ضبابية باهتة، تتحرك مشاعره داخله مضطربة، يستحيل كل شيء إلى سراب، يحاول أن يفتح عينيه أكثر فأكثر، ببطئ شديد، تؤلمه أضواء الشمس المنكسفة والتي تحولت إلى باهتة تحت غيمة كبيرة رمادية بيضاء، تنعكس الأشعة الباهتة المؤلمة على القبور وعلى سطح الجمجمة العارية، يمسح بيده عينيه المرهقتين، يمررها بفتور على جبينه المتعرّق ثم على كامل رأسه، يجهد نفسه لينظر من جديد إلى مشهد اليوم الأخير، ينظر إلى الجمجمة بعيون ذابلة، متعبة مرهقة، يحاول أن يسترجع ما تبقى من قواه المتجمدة.
بدا اللحم وكأنه يكسو العظام من جديد، والجلد يغطي اللحم بإتقان فريد، وتظهر له صورة أبيه شيئا فشيئا كما كان يعرفها في طفولته، ناعما وجميلا، مبتسما كما كان منذ زمن بعيد.
خرّت ساقاه، لم يعد قادرا على الوقوف، يجثو على ركبتيه عند حافة الهوة السحيقة وقد لفّه النسيان من كل مكان، نسي كل من كان حوله، نسي الموضع الذي يقف فيه، نسي كل الأزمنة التي قضّاها وهو يستعد لتلك اللحظة الجارحة، تحمله الذكريات المنهكة إلى الزمن البعيد، يغمض عينيه الذابلتين من جديد، يجذب إلى صدره بصعوبة فائقة نفسا جارحا متقطعا، يهتزّ كل شئ تحت قدميه، يضع يده على ما تبقى من الحجارة المبعثرة، يتمسّك بها وقد شعر أنه يترنح يمينا وشمالا، يفتر كل شيء حوله، يجذبه سراب غريب جذبا وكأنه يسقط في قرار مكين، مظلم لا قاع فيه، أحسّ بيد تمتد إليه بهدوء، تمسك بيده بقوة وكأنها تمنعه من السقوط، ينظر إلى يده وقد اقشعر كامل جسده، إنها يد أبيه القوية الناعمة، تقبض على يده مثلما كان يفعل عندما كان طفلا صغيرا، لا يتركها أبدا وهما يتجولان، يعبران الطريق من المنزل إلى شاطئ البحر عشيّة من عشايا الربيع المخضرم، يهرولان خيفة السيارات القليلة المسرعة التي تقطع الطريق جيئا وذهابا، يكاد يضمّه إلى صدره ويخفيه بين ضلوعه، لا تفارق يد أبيه يده إلا عندما يجلسان على حافة البحر جنبا إلى جنب، يتبادلان الحديث، يسردان القصص والرويات، يروي له مغامراته الطفولية البريئة اليافعة، لا تفارق عيناه وجه أبيه المبتسم، تدفع أمواج البحر الهادئة النسائم القابعة في أعماق المكان، عند خيط الأفق الرقيق، تلقي بها أمامهما على كثبان من الرمال الذهبية وهي تتوسد زبد البحر، ينتعش المكان وتتحرك النسائم العليلة، ويفوح الكلام بعبق النسيم، وترسم النوارس صورها الأنيقة، وتتعطر الأرض والسماء وكل شيء برائحة البحر.
تغرب شمس ذلك اليوم الجميل كبقية الأيام الجميلة ومثيلاتها، يختفي قرص الشمس بلون أحمر قان وبشكله العملاق وراء الخيط البعيد الرقيق، ملتحفا بسحب خفيفة متفرّقة، رمادية بيضاء، ينغمس ذلك القرص الأنيق بتوهجه العنيف مترنحا في مياه البحر الباردة المتلوّنة اللامعة، تخاله نيزكا من نار سيملأ الدنيا دخانا بمجرد أن يلامس جسمه الناري سطح المياه الباردة، يختفي دون ضجيج، يمر الوقت الطويل قصيرا، وتدرك كل القصص والروايات منتهاها، يمسكه من جديد من يده الصغيرة الناعمة، يسيران نحو المنزل وقد رقصت العبارات والكلمات والحروف على إيقاع قطرات المطر الخفيف، تحلّق النوارس متباطئة مترنحة، ويغدو صوت خفقان أجنحتها كلحن حزين، تطير هنا وهناك باحثة عن خلاّنها وأعشاشها، يتعلق بيد أبيه القوية لا يفارقها وإن كان ذلك لحين، تتسارع الخطوات وترتسم على الشفاه الابتسامات، وتعلو من الحناجر الضحكات.
ينتفض من صوره الشبحيّة تلك، وتختفي فجأة يد أبيه من يده، يمرر يده على الحجارة المتصقّعة وكأنه يبحث عن قبضة يد أبيه الضائعة، يجهد نفسه لفتح عينيه، فتأبى الضياء المؤلمة، وتنزوي الصور المرهقة، تضيق الأنفاس في صدره، يكاد لا يدرك شيئا سوى تلك الحجارة الباردة، يتلمّس الحصى المبعثر من حولها، وتسقط يده في يد والده من جديد، كانت يده في هذه المرة حائرة تائهة، وبقوّة فاترة وهزال عنيد، يمسك يده الصغيرة الناعمة وهو يتلمسها بيد أنهكها الألم وأتعبتها الأسقام، باحثا عن راحة يطلبها وهو في فراشه الأخير وقد أنهكه المرض، يتبادلان الأنين، حروفا ضائعة، كلمات حائرة، وقليلا من العبارات التائهة، يتحسّس يده المرهقة ككل مرة، يتحامل على نفسه ليخفي آلامه حتى يشعره بأنه بالبيت وليس بالمستشفى، يستشعر الأب الأمان ويعود من جديد لينام دون أن ينام، وقد تداخلت في رأسه الأمكنة والأزمنة ولم يعد يفرق بين البيت والمستشفى.
ينتبه لصدى صوت الحفّار، يتردد في أذنيه وقد وضع يده على كتفه يهزّه برفق وهو يقول :
– هل أنت بخير يا ولدي..؟ أتريد قليلا من الماء ..؟
يرفع رأسه المتثاقل نحو الحفّار، يكاد لا يستطيع أن يفتح عينيه، يحجب نور الشمس جزءا كبيرا من جسد الرجل، لا يتبقى أمام ناظريه سوى جزء بسيط من الكتفين ورأس يكاد يصبح نقطة سوداء داخل هالة كبيرة من النور الأبيض المتوهج، يعود الرجل ليسأله من جديد :
– سنتوقف عن استخراج العظام إن أردت .. هل تريد ذلك..؟
ينظر إلى وجهه الغارق في تلك الهالة العملاقة من الضياء، يحاول أن يقرأ ملامحه الضائعة، أن يدرك ما على تقاسيم وجهه من تعابير، لم يعد يفهم ما يسمع ولا يجد من معنى لكلماته المبعثرة، تدور الكلمات مرتبكة في فمه، يظن أنه قد فقد القدرة على النطق، مرارة المشهد تسري في كامل جسده، تذوب كل الكلمات وكل الحروف داخل وجع به عميق، شعر بأن لغته تنتحر عند ذلك الوجع الدفين، ينظر من جديد إلى الجمجمة العارية، يتأمّل موقع يده وقد خال أنه يتمسك بالحجارة البالية، تفطن أنه كان يضع يده على ما تبقى من عظام يد أبيه، يتأمّل ذلك المشهد الغريب، دون أن يحرك ساكنا، شعر وكأن الزمان والمكان يتوقفان عند تلك الصورة الصادمة، تلتقي الأيدي بعد فراق دام لعشارات السنين، طويلة تلك السنين، مرّت وكأنها القرون، غيّرت الحياة من شكل يده فدبّت فيها التجاعيد ورسمت عليها لكل مآسي الدنيا شكلا وصورة حزينة تناسبها، وغيرت الموت من شكل يد والده فنزعت عنها الجلد واللحم ولم تبق من مآسي الدنيا شيئا، محا الموت كل العلامات ولم يترك أي صورة من صور الدنيا بحلوها ومرها، التقيا بعد زمان يعد بالسنين، إنه اللقاء الأخير.
يحرك يده المرتجفة ببطئ شديد، يخرج منديلا من جيبه، يمسح جبينه وعينيه، ينظر حوله وكأنه يبحث عن مهرب له من ذلك المكان، يقف أخوه الأكبر عند رأسه صحبة ابن أخته وهو يحاول أن يمسك بكتفه، يلقي بنظرة حزينة على جمجمة والده وقد وضعها الحفّار في لحافها وبجانبها عظام أخرى بدت له وكأنها ليدين ورجلين وأخرى مختلفة الأشكال والأحجام.
يخيمّ عليه صمت مطبق مخيف، خيل إليه أنه غارق في عتمة لا نور فيها، زفزفة الرياح تمزق ذلك الصمت في هدوء غريب، أصداء بعيدة لأشباه أصوات مترنحة تأتي من المجهول، تحملها الرياح بين أجنحتها وتنشرها حوله كأشلاء متكسّرة، لا يدرك منها شيئا ولا يقدر على تحديدها، تقترب وتبتعد، ترتفع وتنخفض، لا تشبه أصوات الأنس ولا هي من الجان، تملأ المكان كآبة وحزنا عميقين، يحاول أن يلملم أفكاره الضائعة، ويبحث عن كلماته التائهة، لا يدرك من الكلمات علاماتها ولا من العلامات معانيها.
يرفع له الحفار رأس أمّه بين يديه، ترتجف الدنيا من جديد تحت قدميه، يوشك أن ينس من يكون أو هو قد نسي كل الوجود بما فيه وكل ما كان وما سيكون، ينغمس في صمته العميق، لا يدرك ممن حوله سوى أشباح تتراقص على صوت حشرجة أنفاسه المتقطّة، يحاول أن يلقي التحية، كثيرا ما كان يدرك أن التحية في حضرة أمه صلاة، ولكنه أحس أنه لم يعد للتحية ولا للسلام من معنى، ولا للكلمات والحروف من مستقر، تتلاشى في فمه كل العبارات لتصبح مجرد أشباح للغة مهجورة ميتة، انحنى أمامها، يقترب منها، وتبعده الأزمنة والأمكنة، يجهد نفسه ليقول أو ليفعل أي شيء، ولكن لسانه الثقيل يأبى أن يتحرك ولو بحرف واحد، يجد نفسه يصدر من صدره تأوهات وتأوهات، ثم بدا وكأنه يهمس همسا كئيبا كما النحيب :
– آه يا أمي.. آه.. ماذا فعل بك الموت يا أماه ..؟ وماذا فعل بك هذا المكان الموحش الحزين..؟
ينقطع همسه فجأة، تتصاعد أنفاسه بصعوبة حتى خيّل إليه أنها الأنفاس الأخيرة التي لن تعود، ضباب كثيف يحجب المشاهد التي أمام عينيه، وتستمر مناجاته متخفية داخل همسات كئيبة يائسة، يتبلل جبينه عرقا ويشحب وجهه حتى كاد أن يكون كوجه الأموات، يجهد نفسه من جديد لعله يقدر على النطق، ينعقد لسانه وتتحوّل كلماته إلى مجرد نواح وهمسات كتومة ضائعة :
– لقد فعل بك الموت يا أمّاه ما لا أقدر على رأيته ولا على تحمّله.. لقد أصبح طفلك المدلل كبيرا يا أمي.. ورغم كبره.. ورغم ما فعل القبر بك.. فأنت في عينيه أكبر..
تعالت التكبيرات قريبة منه باًصوات خشنة كقرع الحديد، وتهليلات بعيدة عنه كهمز شديد، يرفع عينيه إلى السماء وكأنه يرتجي ملاذا يهرب إليه، أصبحت الغربان وكأنها تنعق من داخل صدره، وأصبح همسه نحيبا وأنينا، يقلّب وجهه يمينا ويسارا لعله يجد ذلك الملاذ، كل الصور أمامه ضباب، وكل الاتجاهات من حوله سراب، تقع عيناه على قطعة الرخام البالية وقد تشققّت وتدحرجت من مكانها وكانت قد لبثث فيه سنين عددا، لم يتغير اسم أمّه المحفور داخل الصخر سوى لونه الذي أصبح أصفرا ذابلا بعد أن كان شديد السواد، بقي يتأمّل تلك الحروف والكلمات والأرقام المنحوتة بإتقان شديد، لم يكن يستوعب في الكثير من الأحيان أن ذلك الإسم المحفور في الصخر هو اسمه أمّه، ولم يكن يصدق أن تلك الأرقام إنما تذكره بتاريخ ولادتها وتاريخ فنائها، بقي ينظر مليا إلى اسمها وكأنه يناجيه ويرتجيه لينسلخ من الصخرة ويخرج من جديد إلى الحياة.
غابت الكلمات والأرقام وأصبحت الصورة أمام عينيه باهتة شاحبة، يغرق كل شيء في ذلك الضباب الكثيف، يغمض عينيه لعله يتخلّص من ذلك الضباب الذي بات يلاحق عينيه أينما نظرتا، يأتيه صوت أمه وهي تناديه بصوتها العذب الذي تعوّده منذ أن كان في طفولة النهد :
– أسرع يا بني.. تعالى وانظر.. انظر.. انظر ما كتبت على ورقتي.. أليس جميلا هذا الخط.. أخيرا أصبحت قادرة على كتابة اسمي..
تبتسم بملئ وجهها وهي تمدّ له قطعة الورق الصغيرة، يمسك الورقة بيده، ينظر إليها مليا ثم يقول لها مبتسما :
– هذا أجمل خط رأيته في حياتي يا أمي.. سوف لن تتعلمين الكتابة فقط بل والقراءة أيضا في وقت قصير جدا أيتها التلميذة المجتهدة..
تنظر إليه وقد طربت لسماع كلماته الأنيقة، يطلق ضحكة عالية وهو يرجع لها الورقة وهو يقول :
– إذا واصلت هذا الإجتهاد.. فسوف تلحقين بي يا أمي وسنجتاز إمتحان الباكالوريا معا.. هذا ما أنا متأكد منه..
تعلو ضحكاتهما لتملأ المكان مرحا، ثم تتلاشى ولا يبقى منها سوى ابتسامة حزينة مرسومة على شفتيها الرقيقتين وهي تقول :
– رحمه الله وسامحه.. لو أدخلني إلى المدرسة لما كنت على هذه الحال من جهلي بالكتابة والقراءة.. إنه لأمر فظيع ألا يعرف أحدنا القراءة والكتابة.. إنه لأمر فظيع..
يطأطئ رأسه وهو يستمع إلى تلك الكلمات الحزينة الجارحة، كان يشعر بالخجل عندما يستمع إليها وهي تتحدث في كل مرة عن ذلك الأمل الذي كانت ترتجيه، عن حلم امرأة رغبت في الالتحاق بالمدرسة والتعلم مثل الرجال، كثيرا ما يشعر أنه هو المسؤول عن حرمان أمّه من التعليم لمجرد انتمائه إلى جنس الرجال، لقد طلب منها مرارا بأن تلتحق بمدارس تعليم الكبار ولكنها كانت ترد عليه بأن زمانها قد ولى ولن تأخذ مكان غيرها من نساء أصغر منها بكثير ومن فتياة وقعن تحت سطوة وعنجهية الرجال وحرمن من أبسط حقوقهن في الإلتحاق بالمدرسة.
لم يكن يتخيل رغم ما حملته كلماته من مزاح في لحظة من لحظات المرح مع أمّه أنه سيأتي اليوم الذي سيجتاز فيه إمتحان الباكالوريا وسيكون هو نفسه ذلك اليوم الأول من رحيلها، رحلت وتركته ليجتاز اختباراته بمفرده، ولتختبره الدنيا بعد ذلك مرارا وتكرارا حتى تنهكه وتقطع أنفاسه وتبعثر ما تبقى من أنفاس عبثت بها الأيام وأتعبتها السنين.
يستفيق من غفوته تلك على صوت كالأنين، ليس هو نداء ولا مناجاة، حشرجات باهتات تطفو على السطح فجأة وكأنها تخرج من واد سحيق، يرفع رأسه وقد شدّه ذلك الصوت المتوجّع الكئيب ، إنه يعرف هذا الصوت، لقد سمعه في لحظة ما، يدقق السمع وقد كلّت عيناه الصور، هو الشيخ العجوز صاحب العصى الخشبية المعوجّة الذي ظهر سابقا بذات المكان، يتأمله بعينيه الذابلتين وفي داخله رغبة في ترك كل الصور، لا زال يجرّ ساقيه جرا عائدا من حيث ابتلعه الغياب عندما ظهر آخر مرة، لا يقوى على حمل جسده النحيف فيلقي به على عصاه حتى أنها تكاد تنشطر إلى نصفين، وجهه الشاحب ازداد شحوبا وتجعدا، ملابسه الرثة ازدادت اتساخا، أضاع حذاءه البالي الذي لم يكن ليغطي كامل قدميه وقد كانتا عاريتين مسودّتين متّسختين، انغرست بهما أشواك وتعلقّت على جنباتهما بعض من الحصى الصغيرة الحادة، دماء قديمة متجمّدة ترسم أشكالا غريبة بلون بني أسود داكن، قطرات من الدماء بلون أحمر قان بدأت ترسم أشكالا جديدة حذو الأشكال القديمة المتحنّطة، يسير الهوينة متمايلا يمينا ويسارا وكأنه لم يعد بقادر على تحمّل ما بقدميه من آلام وأوجاع، بدا وجهه ذّابلا نحيفا لا يكاد يظهر من تحت لحيتة الكثّة المبعثرة وقد ابيضّت عيناه من الحزن والألم فهو كظيم، بصوت خافت أجش، يجهد نفسه ليرتّل كلماته الموزونة المنمقّة، تنشر في المكان شعورا عميقا بالحزن والأسى :
– ” لا بد للإنسان.. لا بد للإنسان.. ”
– ” لا بد للإنسان.. من ضجعه .. ”
– ” لا تقلب المضجع عن جنبه.. ”
يعيد تلك الكلمات مرارا وتكرارا، يرتلها حينا ويتغنى بها حينا آخر، ينقطع عن مناجاته تلك وقد شرد بصره وخمدت أنفاسه وتوقّفت حركته، يبقى لبرهة وهو في ذلك الشرود، ترى عينيه تفيض من الدمع، هائمة تبحث عن شيء لا وجود له، لا مكان له، لا زمان يحدّه، يعلو صدره وينخفض بسرعة غريبة وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، تتعثّر العبارات بين شفتيه المتشققتين وهو يردد :
– ” نحن بنو الموتى فما بالنا.. ”
– ” نعاف ما لا بد من شربه..”
ما كاد يسمع تلك الكلمات الغارقة في سواد من الألم والأنين حتى غاب طيفه كلمح البصر بين الرمال المتكدّسة والأشجار الفارعة وأكوام الأعشاب الشوكية العملاقة، ينظر إلى من حوله لعله يجد صدى لما رأى وسمع، لا أحد يهتم لأمر الشيخ ولا لكلماته، لا لحضوره ولا لغيابه، وكأن شيئا لم يكن، تلاحقه نظراته بين الأحراش حيث اختفى، ولكنه لا يفلح في رؤية طيفه من جديد، بقي صوته المنهك يتردد كرجع الصدى بواد سحيق، وبقيت كلماته الساحرة ترنّ في أذنيه كرنين الأجراس، تحرّكت شفتاه وبدا وكأنه يعيد آخر ما سمع من الكلمات البينات :
– “نحن بنو الموتى فما بالنا.. ”
– “نعاف ما لا بد من شربه..”
– نعاف ما لا بد من شربه..”
يتوقف فجأة وتنفتح عيناه وهو يكرّر تلك الكلمات الأخيرة وكأن الحياة تدب من جديد لأوصاله المرهقة، يهمس وقد عاد إليه صوته وكأنه قد فقده منذ زمن بعيد :
– أليس هذا الكلام للمتنبي..؟ نعم هو من قال ذلك.. هو بعينه.. من أين لهذا الشيخ المسكين بهذا الكلام..؟ من أين له ذلك..؟
ينظر من جديد بين الأحراش الكثيفة، لاشيء يظهر له سوى ظلال أغصان الأشجار والأعشاب العملاقة وهي تتحرك كأشباح، يطأطئ رأسه وقد بدت عليه الحيرة وتفاقم حزنه، ينظر إلى جمجمة أمه وقد وضعت على قطعة من القماش الأبيض بجانب القبر المبعثر، عظام بالية مختلفة الأشكال والأحجام مرصوفة على اللحاف الممدد، يقترب وقد عاد صوته ليخفت وحركته لتفتر وعيناه لتذبل، وبدا وكأنه يتأوه وهو يردد قائلا :
– ” تبخل أيدينا بأرواحنا.. على زمان هي من كسبه..”
يخيم صمت رهيب على المكان، تتوقف حركة كل شيء حتى خال أن قلبه يتوقف عن الخفقان، ينظر مليا إلى جمجمة أمه والعظام المكدسة من حولها، يقترب منها أكثر فأكثر حتى تداخلت في صدره أنفاسه ورائحة الموت القوية، فلا هو من الأحياء ولا هو من الأموات، يقبل جبينها العاري ويهمس إليها في حزن عميق :
– لقد اشتقت إليك يا أمي.. اشتقت إليك كما لم أعرف الاشتياق قط.. اشتقت إلى ذلك الزمان الذي أطلعك.. وكرهت هذا الزمان الذي أبعدك.. نسيت الزمان وكل الأمكنة.. ولكني لم أنس ذلك الزمان الذي أخذك.. أتى بك الزمان وطواك الزمان.. وغدا سيفعل بي الزمان ما فعل بك..
ما لبث أن أتم كلماته حتى لفت الأكياس القماشية البيضاء واختفت العظام داخلها، سار متعثرا نحو سيارته وقد احتضن الكيسين بين يديه، يلفه الصمت والخشوع، تتصاعد أنفاسه وتنزل بصعوبة شديدة، تخترق الشمش الحارقة جميع أعضاءه لتزيد من اختناقه، يعلو صفير الرياح وتعود الأوراق الصفراء المتيبّسة لترقص من جديد رقصتها المعهودة وكأنها تودع في هذه المرة ساكنيها الذين تعودت عليهم لعشرات السنين، تحلق الغربان في صمت غريب وأعينها تراقب مشهد الخروج الأخير.
ينطلق بسيارته نحو المقبرة الجديدة، ازدحمت في ذاكرته الأحداث، متراكمة منتظمة حينا، مبعثرة حينا آخر، أصوات مختلفة متنوعة تأتيه من هنا وهناك، من زمن قريب وأزمنة تاهت في غياهب الزمان، تتجمع الصور متفرقة وتتفرق مجتمعة وينشر الحنين في ذاكرته ما تبقى من الصور الجميلة الناعمة، يشحب وجهه حينا وترتسم على شفتيه ابتسامة رقيقة حينا آخر، يمسح جبينه وقد تصبب عرقا، بدا الطريق خاليا من كل شيء سوى من بعض الأشجار الفارعة الطول على جانبي الطريق، كانت تسرع في الاتجاه المعاكس هاربة وكأنها تحمل ما سقط من ذكرياته إلى العالم المجهول، تغوص به في نفق طويل غريب، كلما تعمّق به كلما بات وكأنه يلهث وراء سراب، تضيع الصور أمامه وتخفت الأضواء وتتكسر الخطوط والأشكال، تحدثه نفسه بأن يغير طريقه، ليعود إلى البيت ومعه أمه وأبوه، ماذا سيحدث لو فعل ذلك وما سيكون؟ سيجعلهما يقيمان عنده إلى الأبد، لن يشعرا بالملل عنده، لن يشعرا بالوجع ولا بالألم، لن يشعرا بالجوع ولا بالعطش ولا بالتعب، سيوفر لهما كل ما يريدان وكل ما يحتاجان، فقد يكونان سعيدين بالعودة إلى الحياة بعد كل هذه السنوات من الموت والفراق.
يمرر يده على عينيه لينزع عنهما غشاوة رقيقة كانت تمنع عليه رؤية الطريق بوضوح، ينظر أمامه وقد فترت الصور وتبعثرت ألوانها، تسارعت الأزمنة وتلاحقت الأمكنة ليجد نفسه بالمقبرة الجديدة، تتوقف السيّارة وتتوقف أحلامه في الهروب بهما إلى حيث يريد ولا يريد، يترجّل الجميع نحو المصير الأخير، تمرّ ساعات لا يدرك منها سوى القليل، قبلات على جبين أمه وأبيه وعناق أخير، عناق بطعم الصقيع الذي عرفه سابقا وتجرّع مرارته بماء من حميم، التصق جسمه النحيف بعظام أمه وهي في لحافها الأبيض الجديد، صقيع عظامها تتحول إلى جسده وتجعل منه صفيحا من جليد، لقد عرف ذاك الصقيع في أيّام قد خلت، تتجمّد كل الأحاسيس والمشاعر لديه، أغمض عينيه وكأنه ينام النوم الأخير، تجذبه تلك الأيام المنقضية وشعر بأنه يفارق المكان والزمان ويترك العالم بما فيه، لم يبقى من إحساسه بما يحيط به سوى بذلك الصقيع، ينخر جسده ويحمل روحه إلى ذلك اليوم الأخير، عندما تسلل خلسة إلى غرفة مظلمة أو تكاد، نور خافت متكسّر يدخل من بعض الثقوب الصغيرة في النافذة الخشبية القديمة، لقد منعه الحاضرون من الدخول إلى تلك الغرفة خوفا عليه من هول المشهد، الكل يعلم مدى تعلّقه بأمه وحبّه الشديد لها، الخوف عليه من صدمة اللقاء مع أمه وهي على تلك الحال، دفع أخاه ليغلق الغرفة بإحكام، استطاع عبور كل الحواجز والموانع، وجد نفسه وجها لوجه في ذلك اللقاء الأخير، يضع رأسه على صدر أمه وقد لفّها الكفن من كل مكان، صقيع غريب يمر من جسدها المسجى إلى جسده الذابل الحزين، يعانقها العناق الأخير، يقبل جبينها القبلة الأخيرة، ويهمس لها الهمس الأخير، يملأ عينيه بملامح وجهها الهادئ الذي بدا له نقيا جميلا، يشع منه نور كنور في وجه صبيّة في مقتبل العمر، يعود من جديد ليضع رأسه على صدرها المتصقّع، يمرّ الصقيع إلى جسده من جديد ليفقده كل إحساس بالوجود، يمر الوقت وهو على تلك الحال، لا يدرك من تفاصيله الشيء الكثير، يسمع أحدهم يناديه من خارج الغرفة، تتعالى المنادات وتكثر في الخارح الجلبة وينشط البحث عنه، لا أحد يعتقد أنه بالداخل وقد أغلق أحدهم الباب بالمفتاح دون أن يعلم بوجوده هناك، خشي من أن يجيب أو أن يقوم بأي حركة من داخل الغرفة المغلقة قد تربك الجميع وتدخل عليهم شيء من الرهبة والخوف، بقي يستمع إلى مناديه وهو ينادي مرارا وتكرارا إلى أن بات المنادي قريبا منه حتى أنه وضع يده على كتفه، يستيقظ مرتعبا وكأنه كان ينام نومة أهل الكهف ليعود به من الماضي السحيق، فتح عينيه ليجد نفسه في مكان ليس هو المكان وفي زمان ليس هو الزمان، يعانق جمجمة أمه المتصقعة وما تبقى من عظامها المبعثر في كفنها الجديد، يعلمه أخاه أنه لابد من ترك العظام في مكانها الأخير لتستريح من مشقة ذلك اليوم الحزين ويستريح الجميع، أغلق القبر وتلاشت كل الصور وبقي مع ما تبقّى من الذكريات ذكريات أخرى قد تصبح في يوم من الأيام من الذكريات.
يركب سيارته وهو متثاقل، لا يقوى على التحكّم في جسده المرهق، ترقرقت عيناه بدموع فاترة، تنسكب خفيفة على خديه، عابرة وجنتين بدأت التجاعيد ترسم عليهما كتابها الأخير، تصطدم قطرات الدموع بتلك التجاعيد الخفيفة، تنكسر على طياتها الرقيقة، يتحوّل مسارها لتتوزع على كامل وجهه الشاحب الحزين، تتعمّق الذكريات كتلا كتلا داخل وجدانه المرهق، تتراقص كأشباح محلّقة، تحمله هناك إلى تلك السماء البعيدة، عند ذلك الخيط الرقيق، ذلك الأفق الهارب إلى اللامكان، إلى اللازمان.
أصوات مختلطة مبهمة غريبة تقرع أذنيه، أصوات قديمة قدم الفراق، أصوات حزينة حزن قلبه المتألم، يمسك المقود بيدين مرتعشتين، ينظر إلى المرآة العاكسة، قبور متراصة أسمنتية رمادية وسوداء، لم يجف ماءها بعد.
هناك، تركهما من جديد، في قبر واحد بعد أن بقيا مفترقين لثلاثة عقود، اجتمعا مرة أخرى بعد فراق طويل بفضل ذلك الهاتف الذي جاءه من أخته الكبرى في لحظات أخيرة مفعمة بألم دفين، دموعها الساخنة كادت أن تحرق جسده وهي تتوسّل إليه بأن يجمعهما معا في قبر واحد، لم تعد تهمه في تلك اللحظات الأخيرة معاني الهوية والإستقلالية والكينونة، تركها جميعا لتهجر تفكيره وتقطع مع جميع حواسه، لقد كانت تلك المعاني السبب في رفضه بأن يجمعهما قبر واحد، لقد خطّط وأعدّ منذ البداية لأن يكونا متجاورين كما كانا في أول دفن لهما.
يترك مرآته العاكسة ويستدير برأسه لينظر من جديد، نظرة أخيرة يلقيها على بيتهما الجديد، إنهما هناك معا، مجتمعان في تلك الهوة السحيقة المظلمة، أو يخيّل له أنها كذلك، يتمتم بصوت خافت حزين، لا يقدر لسانه على حمل كلماته الثقيلة اليائسة :
– إنه الفراق .. إنه الفراق من جديد..
كلمات كثيرة تجتمع وتفترق، تريد أن تخرج من بين شفتيه ولكنها تسقط في ضباب أفكاره المبعثرة، تذكّر تلك الزيارات التي كان يؤديها صحبة أمه إلى المقبرة، يجلسان طويلا عند قبر والده، صمت يطبق المكان، دموع أمّه تسيل على خديها دون انقطاع، حشرجة صدرها وهي تتأوه كصدى الرمال في صحراء قاحلة، تنهّداتها لا تنقطع، آلامها لا تستريح، تجهد نفسها اليائسة لتخرج بعض الكلمات الحزينة :
– لماذا تركتني هكذا ..؟ لماذا رحلت سريعا..؟ لمن تركتني وحيدة في هذه الدنيا..؟
تقول ذلك ببؤس شديد والدمع لا يفارق مقلتيها، لم يكن بقادر على تحمّل تلك الدموع اليائسة ولا تلك الكلمات الغارقة في حزنها العميق، ينظر إليها متفحصا ثم يقول لها :
– لقد تركك لنا يا أمي.. ومن لنا نحن سواك ..؟
يخيّم الصمت على المكان، تضع يدها على حجارة بجانب قبره ثم تستدرك وكأنها لم تسمع ما كان يقول :
– أدعو الله أن يكون هذا المكان الشاغر لي .. أدعو الله أن يتركه لي إلى أن ألتحق بك قريبا..
لم يستطع أن ينس تلك الكلمات الحزينة وتلك الدعوات اليائسة، لم ينس ولو ليوم واحد ما حدث بعد ذلك، تمر السنوات وتتحول كل الأمكنة الشاغرة إلى قبور، عندما فارقت الحياة والتحقت به كما أرادت، دفنت في ذلك المكان الذي رغبت أن يكون لها، كثيرا ما كان يتساءل عن سر تلك الحادثة، كيف غفل الجميع عن ذلك المكان رغم ازدحام المقبرة بالقبور؟ كيف أبقت الأقدار ذلك القبر شاغر ليكون لها؟ وأي قوة خارقة يمكن أن تستجيب لدعاء البؤساء اليائسين ولتمزق أحلام الحالمين؟
ينتظم في جلسته أمام المقود، تمتدّ يده نحو مذياع السيارة، يفتحه بأصابعه المرتعشة، تأتيه موسيقى مرتفعة ثم هادئة، متدفّقة كتدفق الأنهار، حزينة ثم ناعمة، أعادت إليه ذكرى تلك الموسيقى المنبعثة من بعيد في كل أرجاء المقبرة القديمة يوم أن التقى بتلك السيدة الغريبة، لقد كانت تلك الموسيقى تراقصه وتراقص كل من كان هناك.
أين تلك الأوراق اليابسة التي كانت تقرع بحشرجتها على صخور القبور المتصقّعة، تعانقها، تراقصها، فتوقظ كل الراقدين تحت التراب، وتغرق كل الحالمين في غياهب الزمان؟ فقط نفخ الرياح الهادئ في جنبات الفراغات الرهيبة يحرك الذكريات القريبة والبعيدة معا، صفير حزين كالأنين يملأ أرجاء المكان وكأنه بواد غير ذي زرع، لا صوت يعلو فوق ذاك الأنين، لا شيء يتحرك، لا شيء يرقص، فقط تلك الأصوات التي تعزف أنينا كأنه نحيب طفل يتيم.
يمسك رأسه بيده، يمسح جبينه العريض ثم يمررها على شعره الناعم، ينظر إلى القفر الذي يحيطه من كل جانب، تحجب الدموع في عينيه كل المشاهد التي تحاول جاهدة الانتصاب أمامه من جديد، تفقد كل الصور ألوانها وتتكسّر كل أشكالها، فراغات وبقايا من البقع المتلونة، أضواء برّاقة وأخرى فاترة.
يمرر أصابعه على عينيه يمسحها من جديد، لعله يدرك الصور الهاربة إلى اللامكان، تنبعث من بين يديه تلك الرائحة الغريبة، قوية حادة، تزكم أنفه، تنتشر داخل السيارة، تطبق عليه من كل مكان، لقد خبرها وأصبح يعرف ماهيتها، إنها رائحة الموت، لا عنوان لها ولا تستطيع حواسه ترجمتها، لا يقدر على تشبيهها بروائح الدنيا، غريبة كطعم الغياب، مؤلمة كوخز الفراق، أصبح يعرف جيدا أنه إذا ما كان للفراق رائحة فإن هذه الرائحة هي رائحته، وإن كان للغياب طعم فإن في هذه النسائم طعما له.
تعاود الموسيقى المنبعثة من مذياع السيارة لتلامس جسده الذابل وتقرع أذنيه من جديد، يأتيه صوت فيروز ناعما كصوت الملائكة وهي تنزل من السماء، تحمل كتاب الوجود الأخير، ينبعث صوتها داخل السيارة، ينتشر هنا وهناك، في كل مكان، يلامس السماء، يخترقها نحو المجهول، يشعر بسكينة وهو ينغمس في هذا الطوفان من الأحاسيس المتداخلة، أحاسيس غريبة لا لون لها، لا طعم لها.
خيّل إليه أن صوتها يمرّ بالأفق البعيد، يدرك السموات العليا، يرتدّ مسرعا ليضرب أرض المقبرة ضربا ويهزّها بركانا من الذكريات والأحلام التائهة، تتموّج الرياح مع تلك الألحان الحالمة، وتصدر صفيرها المعتاد لتتسارع وتتباطأ مع ألحانها وغنائها، تتغنى مع تلك الموسيقى القادمة من الأعماق :
– يا سنيني إلي رحت ارجعيلي..
– ارجعيلي شي مرة ارجعيلي..
– ورديلي ضحكاتي الي راحوا..
تلامس تلك الكلمات الغارقة في غياهب الوجود قلبه الحزين، ينظر هناك، إلى ذلك الأفق البعيد المستكين، هناك، في ذلك المكان الغامض من الوجود، هناك، في ذلك المكان البعيد، ذلك الرجل الوسيم يمسك بيد طفل صغير، يمشيان، تحمل الأرض خطواتهما الرشيقة، يسيران متقاربان ثم متباعدان ثم متقاربان، عيون مبتسمة، ضحكات خافتة متخفّية، تستقبلهما زرقة رمادية شاحبة في ذلك البحر المتموج الصافي.
هدوء غريب، يخيّم على تلك العشية الهادئة، صمت كئيب يلفّ ذلك المكان من كل مكان، يجلسان على البحر وكأنهما يتعبّدان، يتمتمان، يبتسمان، ينظران هنا وهناك، يتأمّلان الأفق البعيد، يطويان بأعين مرفرفة المسافات، يخترقان حدود المكان والزمان، تلامس نظراتهما مياه البحر الهادئ، ترتفعان إلى السحب الخفيفة العابرة، تحتضنان الفضاءات الشاسعة، ينغمسان في سراب مطلق غريب، هناك عند ذلك المكان الهارب من المكان، في ذلك الزمان المنكسر على عتبات الزمان، هناك ينتهي كل شيء، ويزفّ العدم كتابه الأخير.
قطرات من رذاذ تسقط بخفة ورشاقة في ذلك الفضاء، تلتصق بجسديهما كحبات من اللؤلؤ الحزين، يشعّ بريق فاتر من المكان، يقفان وهما يتمتمان، يبتسمان ابتسامات كئيبة، يمسك الرجل يد الطفل الصغير، يسيران إلى ذلك الهناك، خطوات بطيئة مترنّحة، متتابعة موزونة سائحة، يلفهما بياض الضباب، رشيق خفيف، ترسم النسائم على جسديهما خطوطا وألوانا فاترة لا هيئة لها ولا عنوان، يقطعان المسافات بهدوء غريب، يلفّهما الضباب من جديد أكثر فأكثر، ثم أكثر فأكثر، يقترب الجسدان، ينغمسان داخل كتل من ضباب، نسائم باردة ترفرف حولهما، تتبعثر الأشكال متكسّرة، وتفتر الألوان، ويعمّ المكان ضباب كثيف، تتلاشى كل الصور وكل الأشكال وكل الألوان، سكون رهيب ينتشر على تلك الأرض البعيدة الحزينة، ضوء خافت حزين لا يكاد تبصره العيون، يتلاشى الجسدان ويتلاشى كل شيء في هدوء عجيب في ذلك الفضاء البعيد.
ينتبه إلى ضوء خافت منتشر أمامه، يحاول جاهدا فتح عينيه، تسطع الأضواء وتشعّ منه ألوان برّاقة مختلفة، شاشة حاسوبه لا زالت أمامه تلمع بألوانها وأضوائها وأشكالها المتحركة الساحرة، يتأمّلها بفتور كبير، يمرر يديه على كامل وجهه وعلى عينيه المتشققتين، شعر بأن جسمه قد أرّقه السهر، ألم كبير في رأسه، ينظر مليا إلى شاشة حاسوبه، لا وجود لتلك العبارات المتكسّرة الشاحبة، ذهبت بعد أن حملته إلى عوالم غارقة في القدم وأخرى عجيبة غريبة، يرفع رأسه لينظر إلى المكان بعينين ذابلتين، لا شيء قد تغير في غرفته، لازال جالسا على أريكته والحاسوب على ركبتيه، تقع عيناه على الحائط الأبيض المنتصب أمامه ثم على نافذة غرفته وهي شبه مغلقة، النافذة المطلّة على حديقة صغيرة لبيته وقد انبلج من خلالها نور خافت، عرف أنه نور فجر ذلك اليوم الجديد، يمسك بشاشة حاسوبه بيد باردة مرتعشة، يغلقها بهدوء، ينقطع صوت الغليان المزعج الذي كان يصدر منه، يغلق عينيه لزمن لا يعلم مقداره، سكون يزيد السكون سكونا، ويضفي على المكان فراغا مفزعا، يضع رأسه على مخدة أريكته، يترك جسده ينساب في هدوء داخل الأريكة وقد بدا له ثقيلا متداعيا، ينتشر في كامل الغرفة نور خافت، تتجدد في داخله مشاعر غريبة لا يستطيع تفسيرها، اشتياق كبير للعالم المجهول، للمكان الضائع من المكان، للزمن الذي قتل الزمان، لهؤلاء الذين هناك وليسوا هم هناك، يضع يده على جيبه وكأنه يتحسّس شيئا قد فقد واندثر، ويستسلم دون أن يشعر إلى نوم عميق.