وحيد اللجمي أستاذ الجماليات و فلسفة الفن السيميولوجية بالجامعة التونسية
يرن جرس هاتفه المحمول، يقطع الرنين الحاد تأمّلاته لتلك الأحداث المثيرة، في هدوء الجلبة التي تنتشر في أرجاء المقبرة تصبح الحركة هادئة متجانسة، الباحثون عن القبور يتجوّلون وهم يتهادون، حاملو الفؤوس والمعاول يتربّصون في خشوع، البعض منهم في أحد الزوايا يتسلّم أجرته بيدين مرتعشتين، على وجهه علامات الامتعاض، يعتقد أنه قد أتم مهمته على أحسن حال، يكاد يلتهم ما تبقى من أوراق مالية بين يدي مؤجره.
بعض الأطفال في صمت يتسابقون، يتلاحقون في خفّة الطيور، يتجمّع البعض الآخر حول أحدهم، يضحكون بأصوات مرتفعة، يطلقون قهقهاتهم الصاخبة، يتبادلون الأحاديث، يتلاعبون بالكلمات، يكثرون من النكات والغمزات، يروون قصة الميت الذي صحا من موتته وهو يركض بالمقبرة مع الراكضين والناس من حوله مرتعبون، ترتفع ضحكاتهم من جديد على إيقاع ما تلفّظ به أحدهم من كلام بذيء، تنتشر قهقهاتهم بين القبور، تصطدم بالصخور والكثبان والحفر، تخلّف صدى نغمات غريبة كالظلال، يصل مداها أطراف المقبرة، تمزق جلبتهم الهدوء الذي كاد أن يخيّم على المكان.
يقترب الشيخ القصير الهوينة من المكان الذي كان فيه وقد بدا منزعجا، ينظر إلى الصبية بعينين جاحظتين غاضبتين وهو يردد كلمات مبهمة، يضع على أنفه قطعة كبيرة من القماش، يمسكها بيده ليمنع عنه الروائح الخانقة التي لم تبرح أرجاء المقبرة، يجرّ رجليه جرا وكأن ألما قد أصاب إحدى قدميه، يبحث عن عمامته وكتابه وسبحته بين الركام، حيرة تعلو وجهه وقد انفضّ كل من كان حوله، يعتلي إحدى الرّبى المرتفعة، يتأمل الاتجاهات ويقدّر المسافات لعله يجد ضالته، يبعد الخرقة عن أنفه، يتحسّس الهواء بحذر شديد، يعيدها على أنفه وفمه وقد ارتعدت أوصاله، ينظر حينا بين الصخور والحفر وعلى وجهه يأس كبير، وينظر حينا آخر إلى الحائط الأبيض المنتصب أمامه وقد أصبح على قاب قوسين منه أو أدنى، تتبدل سرائره وتبرز على وجهه بقع مختلفة الألوان كالفطر، يتبدّد اليأس الذي كان مخيما عليه، يأخذ نفسا عميقا وقد انشرح صدره وتيسّر أمره وحلّت عقدة من لسانه الذي كان وهو يرتّل مرتعشا، وطفق يردّد وهو يتمتم :
– سبحانك الله.. سبحانك الله .. إنك على كل شيء قدير.. إنك على كل شيء قدير..
النسوة الملتحفات هناك، بجانب الحائط الأبيض المتداعي، يشكلن حلقة من البتلات الناعمات، تتوسطهن السيدة الجميلة ذات البياض الناصع بفستانها القرمزي القصير، تحمل بين يديها ما بقي من سفساريها الممزق، ترتّب بأصابعها شعرها الأسود الناعم المنساب على كتفيها، لا تملّ الرياح من مراقصته، تغدق عليه الشمس بريقا عجيبا، يكاد يخطف الأبصار، نور على نور، تكشف إحداهن على رأسها لتظهر خصلات شعرها الملون، تترك لحافها لينسدل على كتفيها، تحدّق في المرأة ذات الفستان القرمزي، تكشف نظراتها الحالمة عمّا بداخلها من هواجس ورغبات، تتمنى لو أن سفساريها قد تمزق مثل رفيقتها الحسناء، تسقط أخرى لحافها من فوق كتفيها العاريتين، يبقى معلقا في خصرها الممتلئ، تعلو ضحكاتها وتزهو وقد خالت بأن الدهر يبتسم، تداعب النسائم همساتهن المتخفيّة، تطير ضحكاتهن فوق القبور والحفر، تتمايل بين الكثبان والصخور، تحملها نحو أطراف المقبرة حيث تتبادل طائفة قصة الموت والحياة وبقيت طائفة أخرى شاخصة لا تدرك من الأمر شيئا، ترقص قهقهات الصبية التي ما برحت المكان على أنغام تلك الضحكات الناعمات وصدى أصوات النسوة المجتمعات، تبتسم العيون وتنشرح الوجوه وترتسم على الشفاه الحزينة الإبتسامات .
يلملم الشيخ ما بداخله من مشاعر متضاربة، يعود لينظر بين الصخور البارزة والحفر الغائرة لعله يجد ضالته المفقودة وهو يردد بصوت لا يكاد يسمع :
– قل أعوذ برب الفلق.. من شر ما خلق.. قل أعوذ برب الفلق..
ينقطع عن تمتماته كي تتحوّل بسرعة إلى نغمات مترنّحة، يلقي بنظرة ثاقبة نحو النسوة المجتمعات، ثم يعود من جديد ليغمغم بصوت غلبت عليه نغمات نشاز :
– كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران.. كالذي استهوته ..
يتلاشى صوته وسط الأصوات المختلفة القادمة من كل مكان، تأخذه عيناه إلى حيث يريد وتحمله ساقاه إلى حيث لا يريد.
يتابع تحركات الشيخ القصير وهو يبتعد، لم تزل شفتاه تردد كلماته الغامضة، ينتبه إلى أن هاتفه لا يزال يطلق رنينه الحاد، يرن كما الغارق في هوة دون قرار، صدى الرنين كالسراب الهارب نحو المجهول، يفتح الخط بيد مرتعشة ليقطع صوت الأنين القادم من عدم حزين، لقد أخذ منه التعب كل مأخذ، هي أخته الكبرى تخاطبه وقد وصل نحيبها إلى سمعه دون مقدمات، تتكلم ولكنه لا يقدر على تمييز كلماتها الغامضة المتداخلة، تخيّم حشرجتها على عباراتها فتغدو هباء منثورا، يهدّئ من روعها وقد ألغزت عليه تلك الوضعية الحزينة والتي لم يكن ليتوقّعها، يأخد وقتا طويلا لم يقدر على تحديده حتى استطاع أن يفهم بعض من كلماتها، أحس بأنها تجهد نفسها لتحبس دموعها وتدرك عباراتها الهاربة، يحاول أن يفهم من جديد ما تريده، تردد بصوت متهدج كلمات معدودات دون غيرها :
– أرجوك.. أرجوك.. اجعلهما في مكان واحد.. أرجوك… ادفنهما في قبر واحد..
فهم في تلك اللحظة ما يدور بخلدها، أدرك أنها كانت تتابع الأحداث أولا بأول عن طريق أحد الحاضرين معه في المقبرة، لقد اقترح عليه أخاه سابقا بأن يقع جمعهما في قبر واحد إكراما للحياة الطويلة التي قضياها معا.
بقي ينصت إليها طويلا دون أن ينطق ولو بكلمة واحدة، تمر كلماتها الغامضة المتعثّرة بسرعة دون أن يفهم منها الشيء الكثير، بكاؤها وأنينها يذكّرانه بالدفن الأول منذ سنوات خلت، ينظر إلي القبرين المتجاورين بعينين مرهقتين وهو لايزال يحمل الهاتف منصتا إلى كلماتها المتقطعة، يشعر بتعب غريب يسري في كامل جسده النحيف، تنتابه رغبة شديدة في الغثيان، جفاف حاد بحلقه يقطع أنفاسه، لقد مرت ساعات وساعات وفعلت الشمس الحارقة برأسه ما تفعله النار بالهشيم، لم يحن دور قبري والديه بعد للكشف عنهما ونقلهما إلى مثواهما بعد الأخير، الحفّارون منشغلون بالبحث عن القبور، وحفّارون آخرون في الظلال منهمكون في عدّ ما كسبوه من المال الوفير وقد ارتسمت على وجوههم سعادة وحبور.
يستحيل صوت أخته شيئا فشيئا إلى سراب، متقطّع، منقطع، لم يعد يسمع منه سوى حشرجة ونحيب فاترين، بعيدين.
يقترب من قبر أبيه، يجثو على ركبتيه، يرغب لو أنه يترك الهاتف والمقبرة والحفارين والحفر والأطفال والنسوة والزحام والنسائم والشجر، يضع يده ليتلمس الحجارة البالية، يتمسّك بها حتى يحافظ على توازن جسده المنهك المترنح، ينظر مليا إلى القبرين المتجاورين وقد ارتسمت في ذاكرته صور وأحداث حزينة غارقة في القدم، لا يدري كم لبث وهو مطأطأ الرأس جاثيا، قد يكون بعدد السنين التي عاشها قبل أن يأتي إلى ذلك المكان، ما كاد يرفع رأسه لينظر أمامه حتى اختفى تماما صوت أخته ونحيبها من أذنيه، واختفت معه كل أشكال وملامح الحياة بالمقبرة، ينظر أمامه، يلتفت يمينا وشمالا، لا وجود من حوله سوى للقفر، فقط هي الحجارة المنتصبة والمبعثرة والقبور المكشوفة والكثبان المتراكمة هنا وهناك، لا تترك أمكنتها، ذهب الجميع، لم يعد بالمقبرة من زائر، يزداد المكان حزنا وكآبة، وتغرق كل الصور في شيء من الخوف، جال ببصره الحائر باحثا عن أخيه وابن أخته وأخته الصغرى، لا أثر لهم في المكان، لا وجود للشيخ القصير، ولا للحفّارين، ولا للنسوة المتلحفات، لا أثر للمرأة الجميلة ذات الفستان القرمزي ولا لنسائمها العطرة ولا لشعرها المجنون، لا أطفال في المكان، لا حركة للأشجار، لا أصوات للطيور، لا همس سوى لصفير بعض النسائم الباهتة، سكون غريب حزين ينتشر في كامل أرجاء المقبرة، هبوب النسائم الخفيف تنشر أنينا غريبا حزينا كأنين المتوجعين.
يتأمل المكان من جديد، هنا، هناك، لعله قد أخطأ التقدير أو لعله يتوهم الفراغ، يذهب ببصره بعيدا عند الحائط الأبيض، عند الأفق البعيد، في أطراف المقبرة، لا شيء يشير إلى الحياة، لا شيء يتحرك سوى أغصان الأشجار الفارعة تداعبها الرياح الهادئة، تنشر همساتها صوتا غريبا كعويل المتوجعين، يعود من جديد ليتأمل القبرين وقد ضاق صدره واختلطت عليه أحاسيسه وزاغ بصره.
صوت رقيق ناعم ينبعث فجأة بمقربة منه، يشده للبقاء في الوضع الذي هو عليه، يتسمّر في مكانه لا يحرّك ساكنا، شعر بأن الزمان يمرّ متسارعا في حركة غريبة لا تناظم بها، يهوي به في ماض سحيق، ربيع حزين فشتاء كئيب فخريف فصيف، تختلط كل الفصول وكل الأزمنة، تتشتت كل الأمكنة، وتغدو النسائم برائحة الموت، يرفع رأسه وقد تثاقلت حركته وثقلت كل الدنيا من حوله، أمسى جسده ككتل متراصة من الصخور، ينظر أمامه فإذا هي أمّه تجلس عند قبر أبيه بسفساريها الحريري الناصع الجميل، تتداخل صورتها مع كتل من ضياء الشمس الناصع التي تحيطها من كل جانب، فلا يترك من جسمها جسم ولا يبقي من شكلها شكل، كل ما حولها فراغ، تضع يدها على ذات الحجارة التي كان يتلمسها بيده، تمرّر يدها عليها مرارا وتكرارا وكأنها تمسّد جسدا عليلا، تردّد ذات الكلمات، ذات الابتهالات، ذات العبارات اليائسة التي كانت ترددها كلما زارت ذلك المكان الحزين، تقول وقد ناح الحزن لنواحها وبكت النسائم والأشجار والرمال لدموعها :
– يا الله .. يا الله.. لتأخذني إليك.. أدعوك ليلا نهارا أن تفعل ذلك.. فهل أنت بفاعل..؟ لتأتي بي هنا بجانب الحبيب.. في هذا المكان.. فكن لي ولدعواتي قريبا مجيبا..
تحوّل يدها من الحجارة إلى مكان عند رأسه، تمرّرها على التراب والحصى المبعثر، ينظر إليها مليا كما هي عادته، يقول لها وقد خنقته العبرة واعتصر قلبه حسرة وكمدا :
– ولمن تتركيننا يا أماه..؟ من سيعتني بنا أنا وأختي الصغرى.. ؟ نحن نريدك معنا.. ليرحل الجميع ولتبقي أنت معنا.. نحن لا يمكننا أن نعيش من دونك..
تمرّر يدها من جديد على تلك الحجارة البالية، لا ترفع عينيها عن القبر، لا تسمع رجاءه الصغير، لا تسمع كلماته الحزينة، لا تلمح البؤس في عينيه، تتبخّر عباراته، يلفها النسيان، ينخفض صوتها الرقيق وهي تردّد :
– وهل يستوي البحران..؟
تكتفي بذلك القول المباح وفي صدرها كلم كثير لا يكشف ولا يقال.
يلزم الصمت، يشعر بأن العبارات قد جفَت لسانه، وهاجرت الحروف والكلمات إلى سرابها الحزين، يكتفي بالنظر إليها طويلا وإلى الفراغ الكئيب الذي يحيطهما من كل مكان، سكون رهيب يلفّهما من كل جانب، يخال أنهما يرحلان وقد ضاق بهما المكان، يرتفعان إلى السماء، يغدوان كدخان مبين، يتأملها بإمعان، تترقرق عيناها بالدموع، تنزل على خديها في صمت وخشوع، يكاد يسمع أنين جروحها الغارقة في صدرها المكلوم، تضع يدها على خدّها وتغمض عينيها وكأنها تحلم بالرحيل، يجهد نفسه ليأخذ نفسا عميقا وقد شعر بأن صدره قد ضاق، أصبح يدرك أن أمه قد رامت الفراق، لم يعد يمنعها عن رغبتها الجامحة تلك أي شيء، حتى وإن كان ذلك حبّها الكبير لأطفالها الصغار، يبحث عن عبارة أو كلمة لعله يستطيع بها إقناعها بأن في الحياة أشياء جميلة، ناعمة كنعومة طفل صغير لا يقوى على فراق أمه، أشياء تشدّ النفوس التائهة إلى الحياة رغم الآلام والأحزان، شعر وكأنه قادر على إقناعها بذلك وهو طفلها المدلل، لابد لها من أن تقلع عن التفكير في الفراق، اقترب منها قليلا وقد اصطنع الابتسامة وقال لها :
– إن أختي الصغرى تريد أن تدخل إلى مدرسة خاصة لتتعلم الحلاقة والتجميل.. ألا تركتها لتفعل ذلك يا أمي.. إنها لاتزال صغيرة.. وقد تكون قادرة على النجاح في هذه المهنة التي تتمسك في تعلمّها بكل قوة..
يتوقف عن الكلام، ينظر إليها من جديد بإمعان، ينتظر كلمة أو إيماءة منها، لكنها لا تجيب، يميل بجسمه إليها دون أن يبارح مكانه وهو يمني نفسه بأن يقنعها لتتحدث معه عن أي شيء :
– ألا سمعتني يا أمي..؟ هل تتركينها لتتعلّم تلك المهنة..؟ أم أنك مازلت متمسكة بتعلميها الخياطة..؟
ترفع رأسها لتنظر إلى مكان ما، هناك، يتّبع خطى نظراتها، لا يشعر أنها تنظر إلى شيء ما، لا مكان، لا شيء، إنه العدم، لا تقدر على فتح عينيها الذابلتين الغارقتين في بحر من الدموع، تعود إلى وضعها الأول دون أن تبالي بكلماته، يحاول من جديد لعله ينجح في شدّ انتباهها، يناديها مرارا وتكرارا :
– أمي هل تسمعينني..؟ أمي..؟ أمي ..؟ هل تسمعينني..؟
صمتها الغريب يهزّ كيانه هزا، يشعر بأن صوته يخفت ويتلاشى وهو يردّد تلك العبارات، يتيه بين النسائم وقد بدأت تتحرك قوية ثم عاتية، أصوات مبهمة مختلطة ترتفع فجأة هنا وهناك، تنتشر بسرعة خاطفة في كل المكان، تتداخل الألوان، تتبدّل الأضواء، تتلاحق الصور أمام عينيه، مرتمية بعضها فوق بعض، ضبابية حينا، ساطعة حينا آخر.
يهتزّ جسده اهتزازا عنيفا وقد عاد صوت أخته ليقرع أذنيه بقوّة، يسمع حشرجتها ونحيبها بكل وضوح وقد تسارعت أنفاسها وهي تردد بصوت متهدج حزين :
– أخي هل تسمعني..؟ أخي..؟ أخي ..؟ هل تسمعني..؟
أدرك أنه لايزال يتحدث مع أخته، لم تزل يده المرتعشة تمسك بالهاتف، ينظر من حوله وقد شعر بألم كبير في رأسه وعينيه، لا وجود لأمه ولا لسفساريها الحريري الجميل، تتلاشى صورتها داخل الأضواء المتراكمة الناصعة، ويختفي صوتها الخافت وكلماتها المعدودات داخل الأصوات الصاخبة التي اقتحمت المكان، تتهاطل عليه الصور من كل صوب، تغرقه في كتل من الفوضى العارمة، الحفّارون في حركتهم الدؤوبة لا يستكينون، الأطفال يتنقّلون بين أكوام الحجارة والحفر، النساء الملتحفات في ذلك الركن عند الحائط الأبيض، يتبادلن الهمسات، تترك المرأة الجميلة ذات الفستان القرمزي لشعرها المجنون العنان ليحلق في السماء، يرقص مع الرياح ويطير مع الطيور، الشيخ القصير يسير الهوينة لا تفارق عيناه الأرض حينا والحائط الأبيض حينا آخر، ضحكات باهتات تحملها الرياح من هنا لتلقي بها هناك، تكبيرات متفرقات تعلو في خشوع هنا وتنخفض في فتور هناك، يقف ابن أخته صحبة أخته الصغرى في مكان قريب لا يباليان بشيء، يتبادلان النظرات في سكون موحش وصمت غريب، يلمح أخاه عند أطراف المقبرة وهو يتحدث بهاتفه على انفراد، لا تهدأ حركته جيئة وذهابا، يعود لينظر إلى قبر أبيه وإلى المكان الذي كانت أمه تجلس فيه، ينظر إلى قبرها وقد غادر طيفها المكان، يمد يده إليه ليتلمّسه وكأنه يبحث عنها أو عن أي أثر لها، يتفطن من جديد أن صوت أخته ما يزال يبحث عن مجيب، ودون أن يسمع مزيدا من عباراتها الحزينة التائهة يقول لها وقد بدت كلماته حبيسة حلقه الجاف :
– سيكون لك ما تريدين يا أختاه.. سأجمعهما في قبر واحد..
لم ينتظر إجابة منها ولا تعليقا، قطع الاتصال، ووضع هاتفه في جيبه وهمّ بالوقوف وقد سرت في جسده المرهق رعشة أربكت حركته وأرهقت نفسه الحائرة.
يقترب أخاه منه وهو يقول وقد ارتسمت على وجههه علامات الانشراح :
– لقد وجدت الحل المناسب لرضيع أختك.. لن يبق في هذا المكان المهجور.. سنتمكن أخيرا من نقله، ولكن يجب أن نشتري له قبرا في المقبرة الجديدة..
شعر بالارتياح وهو يسمع هذا الخبر رغم ما فيه من أحزان، ولكن كان متأكدا بأن آلام أخته الصغرى لن تتضاعف، نظر حوله وهو يبحث عنها بعينيه وقال لأخيه وقد غلب على صوته التعب والفتور:
– لا أعتقد أن هنالك أي مشكل في ذلك.. فقبر الرضيع جاهز.. سنجمع أبي وأمي في قبر واحد.. سيكون القبر المتبقي للرضيع..
ابتسم الأخ وبدا سعيدا وهو يقول له :
– هذا أمر جيد.. هذا ما أردته منك.. وهذا ما طلبته منك منذ البدابة.. أشكرك كثيرا على هذا القرار الصائب..
لم يكن مقتنعا بهذا الجمع بين أمه وأبيه في قبر واحد لولا ذلك الاتصال الهاتفي، ولولا ما يشعر به وما عايشه طويلا من تعلّق أمه بأبيه ورغبتها الغريبة في الالتحاق به وملازمته بروحها التائهة منذ أن فارقها، رغم أنه يؤمن بالاستقلالية والهوية وإدارة كل واحد منهما لشؤونه بمفرده أكان ذلك في حياتهما أو في مماتهما أيضا إلا أن زيارة طيفها له منذ حين حددّت مصير خلودهما معا وإلى الأبد.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة واقترب من أخيه وهو يحدّث نفسه عن تلك المسألة، ثم قال له :
– كيف للأموات إدارة شؤون أنفسهم..؟ وهل من الممكن لهياكل عظميّة أن تؤدي شؤونها بعد أن شبعت موتا..؟
ينظر أخاه إليه متعجبا من تلك الكلمات وهو يقول :
– لا أعتقد أن لديهما شؤون.. بل قد يكونان في جنة الخلد جزاء بما كانا يعملان.. من المؤكّد أن في ذلك المكان خدم يسهرون على تلبية حاجياتهما وطلباتهما.. ألم تقرأ أو تسمع بجنة نعيم تجري من تحتها الأنهار..؟
– بلى.. قرأت ذلك منذ نعومة أظفاري.. لقد قيل لنا بأن الأموات ليسوا هم إلا أحياء، يتعذبون في مكان ما أو هم ينعمون في جنات الخلد.. لهم خدم وحشم وأمور يقضونها وأمور أخرى تقضى لهم وفي بعض الأحيان منشغلون.. خدم وحشم في خدمتهم أيضا..
ينقطع عن الكلام برهة وكأنه يفكر في ما كان يقول ثم يتابع كلامه :
– ألا يمكن لهما أن يكونا مثل غيرهم.. جاؤوا من حيث لا يعلمون ويعودون إلى المكان ذاته.. إلى ذات المكان..
– لا أعتقد ذلك..
– لنفترض أنهما كما تقول.. فكيف تكون مشاعرهما وأحاسيسهما بعد الموت..؟
كثيرا ما نقف عاجزين نحن الأحياء على معرفة ذلك السر الغامض.. علينا أن نبحث عن طريق لندرك ذلك الإحساس بالموت.. مثلا أن يجرّب أحدهم الموت ثم يعود ليروي لنا نحن الأحياء عن ذلك الإحساس..؟
يطأطئ أخاه رأسه ثم يأخذ نفسا قويا وهو يقول وفي نبراته مرارة اليأس.
– لا.. لا.. هذا محال..
– إذن فالإحساس بالحالات المتشابهة هي التي قد تجعلنا نفهم جيدا الإحساس بما بعد الموت..
– ما معنى ذلك..؟
– إذا سلمنا بأن في الموت شيئا من العدم.. فقد نجد أوضاعا فيها ما يشبه ذلك.. تماما مثل إحساسنا بما قبل الولادة.. فعندما نحاول أن نشعر بوجودنا قبل أن نولد أي قبل وجودنا الفعلي في هذه الدنيا فإننا سنشعر حتما بالعدم.. ذلك هو ذاته الإحساس بالموت وبعدم الوجود..
– لم أفهم قصدك تمام الفهم..
– إنه لأمر جلي.. إننا نسقط دائما في عدمية غريبة غامضة عندما نحاول أن ندرك إحساسنا قبل أن نولد.. ذلك هو نفسه الإحساس بالموت..
ينظر أخاه إلى وجهه مليا، كأنه يتفحص شيئا ما، يقلّب عينيه في كل أرجاء المقبرة ثم يقول له وقد بدا عليه القلق والتعب :
– ماذا تقصد من كلامك هذا..؟
– أعتقد بأن سر الموت يكمن حتما في ذلك الوجود الذي لا نفقهه قبل أن نولد..
– هذا ما لا يمكن اختباره..
– لندع هذه المسألة جانبا.. ألم أسألك عن مشاعرهما وأحاسيسهما بعد الموت..؟
– بلى.. لقد سألتني..
– وهل تعلم كم كان والدانا طيّبين وخيّرين..؟
– نعم.. كلّنا ندرك ذلك.. الأقرباء.. الجيران.. وحتى آخرون لا نعرفهم يقرّون بذلك..
– فهل سيجازيهما الله على ما فعلاه من خير كبير..؟
– هذا ممّا لا شك فيه..
– وهل ترى أن الله سيهدي لوالدنا في جنة الخلد حدائق وأعنابا وكواعب أترابا كأنهن ياقوت ومرجان.. وكأسا دهاقا مزيجها زنجبيلا وكافورا ..؟
– نعم.. هذا أكيد.. كذلك هم يقولون..
– وإن صح ذلك.. فما مصير والدتنا وهي تكتشف أن زوجها الذي لحقت به عاد ليعيش خالدا في ذلك المكان المغري وهي التي كانت خيّرة مثله أو أكثر منه..؟ هل يعني ذلك أن الله قام بمعاقبتها أم مجازاتها بما قدّم لزوجها في تلك الجنة من مغريات وخاصة تلك الحوريات اللاتي يفقنها حسنا وجمالا..؟ هل ستندم على دعواتها في الدنيا لتلتحق به أم أن في الأمر سرّا نجهله..؟
ينتفض أخوه وقد بدا وكأنه يبحث عن أحد ما، ينظر إلى الحائط الأبيض وهو يقول :
– الشيء الجميل هو أننا وجدنا لأختك حلا لنقل رضيعها إلى مقبرة أخرى.. إنه لأمر مهم جدا بالنسبة لها.. إن أحزانها ستتضاعف لو أنها تترك رضيعها في هذا الخراب..
أدرك في تلك اللحظة أن أخاه قد سئم ذلك الحوار وأراد أن يتخلص من ذلك الكلام، أما بالنسبة له فقد كان يشعر برغبة جامحة في معرفة ذلك السر الدفين الذي تحمله الموت بين جنباتها دون أن تبوح به لأي كان، نظر إلى أخيه وهو يغمغم بصوت يكاد يكون مسموعا :
– أنا أظن أن أمي ستندم على دعواتها لتلتحق به.. لا أعتقد أنه من العدل أن يجازيه الله بحوريات حسان ويجازيها الله بمشاهدتها لزوجها وهو يخلد في تلك الجنة وما فيها من حوريات وغلمان ..
يتبادلان نظرات فاترة، يترك أخاه المكان مبتعدا، يخرج هاتفه من جيبه وهو يقول :
– سوف أتصل بأختك الكبرى .. سأعلمها بأننا سندفنهما في قبر واحد .. من المؤكد أن هذا الأمر سيخفّف عليها آلامها وأحزانها..
يتجه أخاه بعيدا عند أطراف المقبرة، ينظر إليه وهو يبتعد بخطى متثاقلة، يبدو المكان كئيبا، تحرك النسائم القوية الرمال بين الصخور والانقاض، يتصاعد الغبار عاليا في حركة لولبية متفرقة هنا وعابثة هناك، يبحث بعينيه عن الرجل القصير وعن ملازميه، لا أحد منهم في المكان، وجوه كثيرة غادرت المقبرة، بعض من المتطفلين متشابهي الوجوه واللحي المصبوغة يختالون في جلابيبهم وسراويلهم القصيرة وأحذيتهم الغريبة المتعفنة وهم في حلقات صغيرة متفرقة، يروون قصصا وخرافات وأساطير الأولين، الحفّارون يتنقّلون كعادتهم بين الحجارة والرمال المتراكمة، فؤوسهم ومعاولهم على أكتافهم، يتبعهم الأطفال وقد عاد إليهم صمتهم الغريب، يحمل اثنان من الرجال الملثمين ما تبقى ممّا وجدوه داخل القبر المتعفّن، يمسكان بحذر شديد لحافا منتفخا، لم يبق من بياضه سوى أطرافه الصغيرة بين أيديهما، يتقاطر منه سائل أسود اللون يرسم خطا متواصلا وعلامات مبهمة على الأتربة والحجارة وبقايا القبور، يسيران كغريبين أصابهما الوباء في مدينة الموت، كلما مرّا بجمع إلا وتفرقوا هلعين كما الهاربين من لعنة الطاعون، تدور أعينهم الجاحظة كالذين يغشى عليهم من الموت، ترتسم الريبة على وجهيهما وينتشر الخوف في أوصالهما، يغرق المشهد المريع وجوه الهاربين في لج من هم وغم ، يأتي أحدهم وهو يسرع لاهثا نحو الرجلين، يحمل كيسا كبيرا أسود اللون، يلتقي بهما عند منتصف الطريق، يضع الرجلان بحذر شديد اللحاف المبلل المتلون بالسواد داخل الكيس، يهرع ثلاثتهم إلى خارج المقبرة وقد تسارعت خطاهم، يتبعهم البعض بحذر وهم يتهامسون، يتباعدون وقد تعثّرت خطواتهم وثقلت مشيتهم.
تعود الرياح القوية لتعصف من جديد، تتحرك أغصان الأشجار الفارعة بعنف، تسقط أوراق الأشجار بغزارة، رمادية وصفراء وبنية سوداء في مشهد مثير، تنتشر في السماء بغتة غربان وغرانيق مذعورة مرتبكة، تشكل غيمة من الأبابيل السوداء، متسارعة، مكتسحة الفضاء بعنف، متحوّلة من مكان إلى مكان، خفقان أجنحتها القوي الخاطف يملأ المكان أصواتا غريبة، تترك العيون الحائرة مشهد الرجلين والكيس الأسود المحشو بما تبقى من الجثة المتعفنة لتلاحق الغيمة السوداء التي شكلتها الغرانيق والغربان وهي تعلو وتنخفض، تميل يمينا وتنعرج يسارا، ترنو العيون لذلك المشهد العجيب وتتحرك الرؤوس على وقع تلك الرقصات العابثة.