الدكتور: محمد محضار / المغرب
الفصل الربع
كانت أختي نادية فتاة خفيفة الظل ، تتميز بروحها المرحة وظلها الخفيف.، اشتغلت في بداية حياتها العملية، بضواحي المدينة ، لكن والدي استطاع أن يتدخل عن طريق بعض معارفه،وتم نقلها إلى داخل المدينة،ومنذ ذلك الحين أصبح موضوع زواجها واستقرارها يقض مضجع والدتي ،فهو تثيره أحيانا تصريحا ، وأحيانا أخرى تلميحا ، وكانت أختي تكتفي بالابتسام وترديد قولها المعتاد :” عندما يأتي النصيب نقول باسم الله وندخل القفص دون تردد” وكان والدي يعلق على الموضوع ضاحكا “أتمنى ألا تتزوجي رجل شرطة لأنك لن ترتاحي معه، لأن حياته كلها متاعب ومشاكل “.
ولأن علاقتي بنادية كانت قوية وعميقة، لم أتردد في قبول اللقاء مع الرجل الذي تتمناه شريكا لحياتها؛ رافقتها للقائه أحد مقاصف المدينة ..
كان فتى أختي شابا رقيق العود، متوسط الطول، أكرث الرأس، لا تخلو تقاسيم وجهه من وسامة. ما أن وقع بصره علينا أنا وأختي متجهين نحو مكانه في المقصف حتى قام مسرعا وتقدم صوبنا مستبشرا. مدّ نحوي يدا نحيفة وهو يبتسم، وأسرعت أختي تقوم بواجب التعريف:
-عبد الحق، أخي.. الطاهر..
ردّ هو بصوت متلعثم:
-تشرفنا…
قلت الكلمة نفسَها.. وجلسنا جميعا حول إحدى منضدات المقصف. جاء النادل، فطلبنا عصيرا. قال الطاهر، برنة يختلط فيها الخجل بالاضطراب، موجها حديثه إليّ:
-لا بد أن الآنسة حليمة حدثتكم عن رغبتي..
وقاطعته أختي ضاحكة:
-وقلت له إنك تريد أن تتزوجني..
قال هو:
-ما رأيكم، إذن؟
ابتسمتُ وقلتُ:
-الرأي رأيكما، ما دمتما متفاهمين؛ فأنا، شخصيا، أدعو لكما بالسعادة.
ردّ بصوت ينمّ عن الشعور بالغبطة:
-بالمناسبة، أرجو أن تفاتح السيد الوالد في الموضوع وتهيئ لنا جو الزيارة، أنا ووالدتي.
-لا مانع عندي في هذا.. سأقوم به على الرأس والعين.
جاء النادل بكؤوس العصير، فارتشفنا منها، واندفع الطاهر يحدّثني عن نفسه بأسلوب مرتبك، تحت نظرات أختي المركزة عليه وابتسامتها لا تفارق شفتيها. قال إنه موظف في وزارة الفلاحة ويسكن صحبة والديه وأخته الأرملة. قال، أيضا، إن أصدقاءه في العمل يحسدونه على حسن سلوكه وجدّيته في العمل وعلى حسن علاقته برئيس المصلحة.. استمر على هذا المنوال، حتى بعث كلامه الملل في نفسي. لمستُ عن قرب ضعف شخصيته، وقلت لنفسي: “لا بد أن هذه الصفة هي التي جعلت أختي تختاره دون غيره؛ فالمعروف عن بنات حواء أنهن يهمن بحب الامتلاك، وزوج من هذا النوع كفيل بأن يرضي غرورهن ويمنحهنّ فرصا متكررة لاستعراض عضلاتهنّ”.
قاطعتْه أختي، من جديد، وهو منصرف إلى الحديث قائلة:
-أظنك ستجد فرصا أخرى، يا عزيزي، لتقص على أخي فصول حياتك.
رد مبتسما:
-طبعا.. لقد أصبحنا عائلة.
تركتُ أختي مع فارس أحلامها ومضيت، أنقر بخطوي الشارد صدر الرصيف الجامد. وفجأة، انتابني توتر شديد، وبدت لي كل الأشياء باهتة.. لم أعد قادرا على التركيز، وفقدتُ السيطرة على نفسي، وانطلقتْ داخلي صرخاتُ الوحش الجائع، وراحتْ تعلو وترتفع، وانحدرت حتى لامست الحضيض، وإذا بي عارٍ تماما من مسوح التكلف، وإذا بخلجات شبقية تتردد في أعماقي: ماذا حدث؟ لا أدري.. فكرتُ: ما أجمل جسد سامية الصارخ بالحياة، إنه شهيّ ولذيذ.. ولكنْ أين هي سامية الآن، في هذه اللحظة المتأزمة؟
تحسستُ بأناملي مفتاح شقة صديقي حميد في جيب بنطلوني. مضت مدة لم تطأ قدماي هذه الشقة صحبة فتاة، ما الذي يمنع من هذا اليوم؟ راحتِ الفكرة تكبر وتكبر حتى ملكت عليّ عقلي، ومرّ شريطٌ من اللقطات الجنسية التي خبرتُها من قبل بذهني. أدركتُ أن تصريف توتري لن يتأتى إلا عن طريق “الممارسة الفعلية”، وقلت لنفسي: “لأبحث عن امرأة أو فتاة تمتص جذوة رغبتي الثائرة وتجمد ثورة بركاني”.
شارع مولاي يوسف يضيق بالمارة، المندفعين من الأزقة الفرعية، أو المتجمهرين حول واجهات المحلات التجارية أو بائعي السلع المعروضة على الرصيف.. والسيارات تمرّ وسط الطريق بصعوبة، والشرطيّ يرفع يديه في مختلف الاتجاهات، وصفارته تدوي باستمرار. قطعتُ إلى الرصيف الثاني عبر علامات المرور الخاصة بالراجلين. انحدرتُ عبر زقاق مولاي إدريس، المختنق بالسابلة. قادتني قدماي إلى “قيسارية الشرادي”. كان روادها كُثرا، وأغلبهم من النساء. غرقتُ بين طوابير متحركة، وسمحتُ لعيني بتتبع الحسناوات المتجولات. غازلتُ إحداهن، فرمقتني بنظرات نارية. تركتُ القيسارية وعدتُ، من جديد، إلى زقاق مولاي إدريس، ثم إلى شارع مولاي إسماعيل.. دخلتُ إلى قيسارية أخرى
في هذا الشّارع. صعدتُ إلى طابقها الفوقي. غازلتُ امرأة ناضجة؛ قالت لي: “اسمح لي، يا سيدي، راني مْزوجة”.. ومضت إلى حال سبيلها. نزلتُ إلى الأسفل، ثم خرجتُ إلى إفريز الشارع مرة أخرى. مشيتُ بخطو متثاقل. “أحسست باليباب القاتل يتسلل إلى كياني، يقتل الابتسامة على شفتي، يسرق النضارة من محياي ويغرز إبر الكآبة في مسام جلدي”..
تناهى إلى سمعي، فجأة، وقع خطو نسائيّ خلفي؛ فأسرعت ألتفت. التقت نظراتنا، فخففتُ من سرعتي حتى تحاذينا وقلتُ بصوت مضطرب:
-مساء الخير..
ردتّ عليّ بصوت تخالطه بحة لذيذة:
-مساء الخير، يا سيدي..
مرّت لحظة صمت قصير، ونحن نمشي؛ قلتُ بعدها:
-هل أستطيع محادثتك؟
-تفضل، أنا أسمعك.
قلتُ، وأنا أشير إلى الحقيبة الصغيرة التي تحمل:
-يبدو أنّكِ كنتِ على سفر.
-تماما.. أنا لستُ من هذه المدينة، وقد نزلتُ لتوّي من الحافلة.
-لا بد أنك جئتِ لزيارة قريب لك.
ابتسمت وقالت:
-نعم، جئت لزيارة أختي، هل هناك من أسئلة أخرى؟
اضطربتُ.. لكنني تداركتُ الموقف، وقلتُ:
-في الواقع.. أريد أن أحدثك؛ لكنْ لا أعرف كيف أبدأ؟ ما رأيك لو نجلس في مقصف أو مقهى؟
ردّت:
-لا أستطيع.. أنت تعلم أن المدينة صغيرة، وألسنة الناس طويلة.. ربما يراني بصحبتك زوج أختي.
قلت بجرأة، وأنا أعلم أنني أرمي بآخر سهم في جعبتي:
-ما رأيك لو تأتين معي إلى الشقة؟
-الشقة!
-نعم.. هناك لن يضايقنا أحد.
-وأين تقع؟
-قريبة.. وإذا شئت ركبنا “تاكسي”.
ظلّت صامتة لحظة، خلتها دهرا. ثم قالت:
-لا مانع عندي..
وركبنا سيارة أجرة إلى حيّ النهضة. وطيلة المسافة التي قطعنا، لم نتكلم.. وحين ترجّلنا، قلت:
-من الأحسن أن أسبقك واتبعيني من الخلف، حتى لا نثير الشبهات.
-كما تريد.
سرتُ وسارت خلفي حتى وصلنا باب العمارة. صعدتُ ثم صعدت. أدخلت المفتاح في قفل الشقة رقم 4، ودفعتُ الباب ودلفنا إلى الداخل. كانت الشقة غير مأهولة ولا يزورها صديقي إلا نادرا، وقد اكتراها فقط من أجل جلساته الخاصة.
سألتني الفتاة:
-هل تسكن وحدك؟
قلتُ:
-لا، أسكن صحبة والدَيّ.
تابعتُ، وأنا أشير إلى فضاء الشقة:
-هذه شقة صديقي الخاصة.
دخلنا إلى الصالون. وضعتْ حقيبتها على المنضدة، ثم خلعتْ جلبابها وعلّقته في المشجب. لاحتْ كسوتها مطرزة من حول العنق بـ”الدانتيل”، ومنفتحة على الصدر. ظهر ساعداها الغضان الطريان. جلستْ على الكنبة، ووضعت ساقا على ساق، فانحسر ثوب كسوتها وانكشف جزء من فخذيها. أكلت جسدها لحظة بأنظاري الجائعة، وقلتُ:
-سأنزل لأحضر مشروبا.
وهرولتُ مسرعا إلى الأسفل. ابتعتُ من البقال زجاجة “ليمونادة”، وعدتُ على أعقابي وقدماي ترتعدان. وضعتُ الزجاجة أمامها، وجلبتُ من المطبخ كأسين وجلستُ قربها. شربنا معا. قالت وهي تنظر إليّ بوجه مشرق وعينين دعجاوين:
– نظراتك تبدو شرهة.. هل أعجبتُك؟
قلتُ:
-إنك مثيرة..
قالت:
-حقا!؟
قلتُ:
-حقا.. ما اسمك؟
ابتسمتْ وقالت:
-السعدية.
-وأنا اسمي عبد الحق.
اقتربتُ منها، وتلامس جسدانا، وأسندتُ رأسي إلى كتفها. لم تعترض، فطبعتُ قُبلة على خدها، وطوقتها بذراعيّ
برقّة تفيض بالحنان، رحتُ أضمّها إلى صدري، وغابتْ أناملي تحت ثنايا ثوبها تتحسس جلدها الناعم. تسللتْ أطراف أصابعها إلى قفاي، تداعبُ شعيرات رأسي الخلفية. لفحتْ وجهي حرارة أنفاسها العابقة بالشذى، ثم انصهرتْ شفاهنا في قبلة محمومة.. إنها لحظة الرغبة، والحب طليق حر بيننا.. إنها لحظة التوحد والخلود الإنساني. قمتُ وقلتُ، وأنا أمد لها يدي:
-تعالي معي.
قامت، خاصرتُها وخاصرتني.. اتّجهت بها نحو غرفة النوم. جلستُ على حافة السرير؛ جالت بنظراتها في فضاء الغرفة ثم قالت:
– الأثاث رفيع القيمة.
قلتُ وأنا أبتسم:
-طبعا، فصاحبه مهندس في الفوسفاط وله إمكانات ضخمة.
ثم ضغطتُ على جهاز “الريكوردر”؛ فانساب لحنٌ دافئٌ. قامت الفتاة، فخلعتْ ثوبها، ثم اندسّت تحت غطاء الفراش، ونظرتْ نحوي كأنما تدعوني إلى الاقتداء بها. ولم أتوان عن تلبية ندائها الصامت. بعد حين، أصبحت بالقرب منها، ثم التحمنا، وانصهرنا في بوثقة واحدة، ولم أعد أذكر شيئا.. نسيتُ مشاكلي، بطالتي، سامية وطبقتها.. أصابني ما يشبه الخدر، وبدأتُ أشعر باللامبالاة نحو صروف الدهر. تبددتْ قسوة الحياة من حولي، وإذا بشمس الحقيقة تشرف في ذاتي.. “إنني أحيى وأعانق الوجود؛ أستوعب مفهوم الحياة وأنعتق من أغلال العدم؛ إيروس العظيم يزرع شرنقة الحب في ذاكرتي”..
تقطّع من الزمن ردح ونحن غارقان في نشوتنا. وعندما انتبهنا إلى نفسينا كان الظلام قد نشر عباءته واحتوى المدينة. قمتُ إلى الصالون وتركتها، ثم نزلتُ. ذهبتُ إلى سوق الخضر والفواكه، فاشتريتُ بعض ما تيسر، ثم مررتُ على الجزار فاشتريت ربع كيلوغرام من اللحم المفروم؛ ولم أنس الخباز وقفلتُ عائدا
إلى الشقة. وضعت المشتريات في المطبخ، وقصدتُ الصالون. وجدتُها ترجّل شعرها.. سألتها:
-هل أخذت دوشا.
ردّت:
-نعم.. أنا أعشق النظافة.
كانت أمامها على المنضدة أدوات زينتها التي أخرجتها من حقيبتها. جلست بمواجهتها، أتأملها وهي تتزين. كانت بحق امرأة ناضجة الأنوثة وفائقة الجمال. عندما انتهتْ، دعوتُها إلى المطبخ، ومضينا نعدّ طعام العشاء.
تعشينا في الصالون، وأكلنا تفاحا، بعد ذلك، ثم شربنا الشاي. دخنتُ سيجارة، أما هي فقالت إنها لا تدخن. سألتني، وعيناها تومضان ببريق لذيذ:
-حدّثني قليلا عن نفسك.
قلتُ:
-ماذا تريدين أن تعرفي عني؟
-ما لا تستطيع أن تخبئه وتبقيه سرا.
مضيتُ أحكي لها عن نفسي، ومشاكلي، وبطالتي؛ حتى إذا فرغت، قلتُ وأنا أبتسم:
-والآن، جاء دورك، حدثيني عن نفسك..
قالت، وهي تسرح بنظرها نحو النافذة المشرعة على مصراعيها:
-أنا من مدينة تادلة، متزوجة منذ ثلاث سنوات.
قاطعتُها باندهاش:
-متزوجة!؟
-ماذا؟ هل تراك ندمت على كل ما جرى بيننا؟!
-لا أدري.. لا أدري.
قالت وهي تأخذ يدي بين راحتيها:
-زوجي يشتغل في فرنسا، وقد مرّت الآن سنة وثلاثة شهور على غيابه.. وأنت تعلم أن هذه المدة طويلة.. فكيف لامرأة شابة مثلي، حديثة العهد بالزواج، أن تصبر.. كل هذه المدة؟
سألتها:
-هل هذه هي المرة الأولى التي تضاجعين فيها رجلا غير زوجك؟
ابتسمت وقالت:
-وهل يهمك أن تعرف؟
-إذا لم يكن هناك حرج؟
-الواقع أنها ثاني مرة.. فمنذ ستة أشهر خلت، قضيت ليلة ممتعة مع رجل في الأربعين هنا في هذه المدينة تحديدا.. فأنا لا أستطيع أن أحرّك الساكن في تادلة، لأنني أقيم صحبة أم زوجي.
-إذن، فزيارتك لأختك اليوم لم تكن إلا ذريعة لإشباع رغبتك!؟
ضحكت وقالت:
-أنا أضرب عصفورين بحجر واحد، على كل حال.
فكرت: “الجنس، أحيانا، يصبح غلا يطوق عنق الإنسان ويجرفه إلى الهاوية”.
اقتربت مني حتى حاذتني ووضعت شفتها على رقبتي، ثم أحاطتني بذراعيها وهمست بحنو:
-فيم تفكر؟
لثمتُ جبينها المضيء، وأجبتُ بصوت رقيق:
-لا أفكر في شيء..
-اسمع يا عبد الحق.. لا أريدك أن تندم على شيء.. وتذكر أنني سلّمتك نفسي برغبتي، لأنك تستحق.
ودرج الوقت هادئا. بدا الشارع عبر النافذة ساكنا، ما عدا من مواء بعض القطط الشاردة، الذي كان يسمع من حين إلى آخر. علقت بجو الغرفة شذرات من عبق عطر السعدية، ذي المفعول السحري على الخياشيم، ولاح محياها يومض بلمحات من سحر قوي. قلتُ، وأناملي تعبث بخصلات شعرها المنسدل على كتفيها:
-الليلة ليلتنا.. فلنعشها كيفما كانت الظروف.
ثم قمنا وأنا أطوّق خصرها اللدن، ومشينا نحو غرفة النوم، وتمطّتْ على السرير بغنج مثير. ضغطتُ على زر الأباجورة الصغيرة التي تعلو المنضدة المجاورة للسرير وأطفأتُ نور مصباح الغرفة العادي فانساب ضوء أحمر خافت يضاهي لون الشفق، وانسكبتْ ظلاله البهية على جسدها الرخو. تمددتُ إلى جانبها، ثم أخذتُها بين أحضاني وغرقنا في بحر الشهوة الحمراء.
تسربلتِ الأشياء أمام أنظاري بلون ورديّ فاتن. أخذتني نشوةُ أحلام جامحة، واختلجت في داخلي رعشات دافئة. اشتعل لهبُ من الشبق واللذة في أحشائي، وانحسرت براقع الزمان عن زخرف من الأماني الناطقة، وصبّت كؤوس المدام على موائد السحر الشائق. عانقتُ في جسدها الغضّ النابض بالحياة حرارة الوجود، وتجرعتُ من شفتيها التامرتين جرعات من العسل الصافي. قلتُ لنفسي: “ليذهب الضمير إلى الجحيم، ولتسقط القيم في قبو النّسيان.. ما الحياة إلا عبث، ولا داعيَ إلى التشبث بالمثاليات في عالم لا يعترف بها.. وعلى كل حال، لو لم أكن أنا الذي ضاجعتُ السعدية لكان غيري”..
مضى الوقت يقطع مشواره، وحلّ الفجر بأنسامه العذبة. تسرّبت إلينا من فجوة دفتي النافذة برودة لذيذة. أحسستُ بجفني يثقلان عليّ، فأسلمتُ نفسي لسلطان النوم وأنا أطوّق وسطها بذراعي..
فتحتُ عيني على أشعة الشمس تتسرب من النافذة، وتنعكس مباشرة على الفراش. كانت السعدية قد أفاقت، هي الأخرى، من النوم وألقيتُ نظرة سريعة على المنبه النابض فوق المنضدة. كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة. عندما أردتُ القيام، أمسكتِ السعدية بيدي وسلّمتني شفتيها، ودخلنا من جديد مضمار الفعل.
استحممنا معا، ثم أفطرنا. ارتدتِ السعدية جلبابها وحملت حقيبتها، ولما همّت بالخروج دسستُ في يدها بعض الوريقات المالية؛ لكنها انتفضت وعلت أساريرَ وجهها مسحة من الغضب وهتفت بي:
-إنك تهينني بهذا.. أنا لست عاهرة حتى أقبض الثمن!
-لم أقصد، لكنْ…
-أنا لست محتاجة.. زوجي يكفل لي عيشة مثالية.
قلت لنفسي، وعيناي متبثتان عليها: “ومع ذلك، تخونينه”! استطردت، محدّثا نفسي دائما: “ولكنْ من يدريك، يا جميلتي.. لعله غارق اللحظة في أحضان شقراء فرنسية.. فنحن الرجال لا نزهد في النساء إلا ونحن على حافة القبر”..
خرجتْ بعد أن اعتذرت لها، واسترجعتُ منها تلك الوريقات المالية. عدتُ إلى البيت متعبا مكدودا، فصعدتُ إلى غرفتي ونمتُ نوما عميقا.
الفصل الخامس
قمتُ من مكاني في المقهى، وأسرعتُ أستحث الخطى نحو البيت؛ فاليوم كان يوم خطوبة أختي، وقد يكون الضيوف بدؤوا يتقاطرون على البيت، وربما جاء حتى العدلان، فقد قرّ قرار الأسرتين على كتابة العقد يومه، على أن تكون الدخلة في الصيف.
كان الجو دافئا، وريح طيبة تهب في خفة ناعمة، والمدينة تبتسم في غنج، وقد أسلمت جسدها إلى أشعة الشمس الأرجوانية، تضمد جراحها..
عندما اقتربت من بيتنا، تهادت إلى أسماعي نقرات الدفوف، وأصوات نسوية تلهج بالغناء.. وقلت لنفسي وأنا أدلف داخلا: “الحياة عجيبة يوم رقص وغناء، ويوم حزن وبكاء”..
واستقبلتني أمي في الردهة التي كانت مكتظة بالنساء، والفتيات يرقصن ويغنين في فرح، وقالت:
– أين تأخرت؟ الرجال في الصالون.. هيا ادخل، لقد حضر العدلان.
دخلت إلى الصالون، كانت أسرّته تضيق بالجالسين.. وجلست قرب أبي، دون أن أنبس بكلمة. وقرأ الجميع الفاتحة وكتب العدلان العقد، وجاءت أختي وقالت إنها موافقة ووقعت، ثم خرجت وهي تكاد تذوب خجلا.
ونادت عليّ أمي، وأخبرتني بأن سامية وأمها وأختها حضرن، وأنهن في الصالون الصغير مع أختي، فذهبت إليهن، وألقيت عليهن التحية، وتبادلنا الحديث لحظة، وقالت أمّ سامية:
– العقبة لك، يا عبد الحق.
وقلت:
– شكرا، يا سيدتي.
وجاءت أمّي وقدّمت لنا الحلوى وكؤوس الشاي، وقالت سامية وهي تنظر إليّ بوجهها الساجي:
– أريد أن أرى قصائدك التي حدثني عنها قبل يوم.
ورددت وعيناي ترتويان من ماء محياها الدافق:
– سأصعد لأحضرها من غرفتي.
وقالت وهي ترد خصلة تدلت على جبينها إلى الخلف.
– بل سنصعد معا.. أريد أن أرى غرفتك..
ونظرت إلى أمها مبتسمة، وردت هذه الأخيرة بابتسامة مماثلة. وصعدنا إلى غرفتي.. فتحت النافدة، وتسربت أشعة ذهبية إلى داخلها. وقالت سامية وهي تجلس إلى مكتبي الصغير:
– تبدو غرفتك آية في النظام.
ورددت:
– إنني أعشق النظام..
ثم أشرعت “دفتي” خزانتي الخشبية القديمة، وسحبت رزمة من الأوراق وقصاصات الصحف، وقدّمتها لها:
– هذه بعض أشعاري يمكنك أن تقرئي منها ما تريدين.
وراحت أناملها تعبث بمحتوى الرزمة، وعيناها تلتهم سطور هذه الورقة وتلك القصاصة. وجلست أنا على حافة السرير، أنظر إليها كطفل صغير يشتهي حلوى لذيذة، ورفعت رأسها نحوي بعد حين قالت:
– أشعارك تذكرني ببودلير ورامبو.. لا شك في أنك قرأت لهما .
– طبعا، قرأت لهما.. لكنني لم أتأثر بهما تماما ..
– بكل صراحة، وبالرغم من قلة قراءتي للشعر بالعربية؛ أستطيع أن أقول لك إن قصائدك جميلة وشفافة.. وعالمك الشعريّ رحب يتحقق فيه الجمال المثاليّ والفن الرفيع.
وأصابني فرح طاغ، وكلماتها تنكسب في أذني، وحرّكتُ رأسي علامة على الرضا. وتابعت قولها وعيناها متبثان على وجهي:
– تجربتك تبدو عميقة. ومعاناتك واضحة الملامح عبر سطور شعرك. وران صمتٌ خفيفٌ حطمته بصوتها العذب وهي تقول:
– أرجو أن تمنحني نسخا لبعض قصائدك ..
– آه.. طبعا، يمكنكِ أن تختاري من القصائد التي بين يديك ما يعجبك.. فأنا أملك مسوداتها.
وتمتمت بنبرة مشبعة بالامتنان .
– شكرا..
ثم عادت أناملها تعبث بمحتوى الرزمة، ثم ما لبثت أن اختارت بضع قصاصات أودعتها في حقيبة يدها وهي تبتسم، وقامت من مكانها نحو النافدة، واستندت بمرفقيها إلى حافتها، شاخصة ببصرها إلى الشارع بدت كتحفة زاخرة بالفتنة..
ما أشهاها، انثالت دفقات شبق كاسحة في أعماقي، واستويتُ واقفا واقتربتُ منها حتى حاذيتُها، ولاح جبينها العاجي، فرحة بيضاء تنثر شآبيبها في كل اتجاه، وأبصرتُ في عينيها هالة من السحر الأخاذ، وارتفعتْ دقات قلبي، وأصابني شبه غثيان، واضطرمت في نفسي نزعات من اليأس والأمل، وتعبت عيناي من التحديق وقلبي من الخفقان، وأخيرا تجرأتُ وطوقتُ خصرها الرقيق بيدي وهتفتُ قائلا:
– سامية.
والتفتت نحوي بوجه مضيء وقالت:
– ماذا؟
لم يسعفني لساني في الجواب، وأسرعتُ أضمها إلى صدري.
وسمحت لشفتيّ باقتناص قُبلة محمومة من شفتيها الطريتين وهتفتْ بي:
– دعني أرجوك..
وخطوتُ بها نحو السرير، وتهاوينا ودفنتُ وجهي في صدرها الناتئ، وشممتُ رائحة الحياة تطفح من بين نهديها، وتفجّرتْ كوامن الحرمان التي طالت فترة حبسها، وغاب عقلي في متاهات اللذة العمياء، وكانت هي مستسلمة استسلام لا مبالاة، كانت بين يدي جسما ساكنا لا يتفاعل معي وقلت لنفسي: “هذا ليس مهما.. ولأنهل من نبع العسل الصافي.. وأروي ظمأ قلبي الصادي”..
همستُ لها بصوت مضطرب:
– سامية.. أرجوك تفاعلي معي.
لم ترد عليّ بشيء.. وظلّت صامتة وعيناها مغمضتان. وتماديتُ في جرأتي ومددتُ يدي إلى تبانها فإذا بها تقفز من مكانها.. وتصرخ بي:
– أرجوك أنا عذراء.. لا تكن أحمق.
ثم استقامت واقفة، وراحت ترتب ثيابها.. وبعدها، قالت:
– هيا ننزل سيفتقدوننا، وقد يصعد أحدهم.
وحاولت تقبيلها مرة أخرى؛ لكنها صدّتني بلطف.. وأسرعت تفتح باب الغرفة ثم تندفع نازلة، وتبعتها من الخلف.. وأنا أتحسر، وأشعر بالانهيار. كان الغناء والرقص مستمرا والبهجة تكاد تقفز من عيون الجميع، ودخلنا إلى الصالون الصغير، وجلست سامية قرب أمها وهي تبدو طبيعية في كل شيء، وجلست بمحاذاة أختي، وجبيني يتفصد من العرق. شعلة من اللهب تلهب صدري، وقالت سامية وهي توجه الحديث إلى أمها:
– غرفة عبد الحق غاية في النظام..
ابتسمت الأم، وأسقطت نظراتها عليّ وتمتمت:
– سلوك عبد الحق وتصرفاته منظمة.. فكيف لا ينعكس ذلك النظام على غرفته؟!
ومرّ الوقت رتيبا، مفتقدا لكل مغزى، وشعرت بوخز إبر وهمية في كل مناطق جسدي..
قامت الحاجة زينب وابنتاها مودعات، وشايعتهن أمي حتى الخارج وهي تطلق كلمات الامتنان والشكر، ثم ركبن سيارة “فياط” ساقتها الحاجة..
تركتُ أنا البيت، وأهله لرقصهم وغنائهم، وخرجت.. لا أعرف لي اتجاها.. أحسست بغربة قاتلة تهتصرني، ولعنت نواميس المجتمع المهترئة، وجذور الطبقية المخزية.. التي جعلت سامية تقابل إقبالي عليها بلامبالاة مغالية وكأنها تقول: “أنت مرفوض.. وقبلاتُك غير مستحسنة.. فاحتفظ بها لنفسك”.. إنها، على كل حال، مأساة الكادحين في مجتمع معقد، يخضعهم لقوانين جائرة تحرمهم من حرية التعبير وممارسة فرديتهم، وتفرض عليهم أنماطا معينة من السلوك، تقضي ببقائهم حيث وجدوا، وتقبر كل طموحاتهم، وتنمي داخلهم إيديولوجيا من نوع “بعد على الزين أنت غير راجل مسكين”؛ فالأشياء الجميلة للقادرين: أو لمن يوصفون بالصفوة. ومن دونهم فيكفيهم الفتات، والأشياء الأقل جودة..
وقادتني قدماي الواهنتان إلى حانة باريس، فدلفتُ داخلا دون شعور، كانت بي رغبة عنيفة إلى قتل وعيي، والاستسلام إلى عالم الأحلام.
اقتربتُ من الحاجز الخشبيّ، واعتليتُ إحدى “الطبوريات” وأشرتُ بيدي إلى الساقية السمينة التي كانت تقبع خلف “الكونتوار”، طالبا ست زجاجات من الجعة، فأسرعت تلبي طلبي.
واحتسيتُ الأولى ثم الثانية، وسرتْ نشوة غريبة في أوصالي وقلتُ لنفسي ليذهب المجتمع وقيوده إلى الجحيم، ثم واصلتُ الاحتساء حتى آتيتُ على الزجاجات الست، وأشعلتُ سيجارة نفثت دخانها ببطء، ورحتُ أمسح بعينيّ المتعبتين فضاء القاعة.. كانت هناك وجوه مكدودة، فضّل أصحابها ممارسة لعبة الهروب إلى الأمام، مثلي.. وكانت هناك ثرثرة وعربدة، ورؤوس تتمايل مع اللحن الشعبي المنبعث من “سلسلة الستريو”..
جاءني صوتٌ مبحوحٌ من خلف ظهري:
– هل أنت وحيد؟
والتفت نحو مصدره، فوجدتني أمام مومس ضامرة العود، قد لطخت وجهها بالأصباغ حتى صارت أشبه بمهرج سيرك.. وأجبت:
– نعم وحيد، وأفضّل أن أبقى وحيدا..
ابتعدتْ عني دون أن تعلق على كلامي، ثم طلبتُ ست زجاجات أخرى.
أقبلتُ عليها بنهم مفرط، وأحسستُ بعقدة لساني تنحل وانتابتني رغبة قوية في الكلام وقول أيّ شيء، وغابت كل المنغصات عن بالي.
والتفت نحو جاري وكان شابا أنيقا وقلتُ بصوت عال:
جوع آخر
عميق جدا وكاسر
أكثر حمرة من الموت وأكثر صخبا
الجوع لامرأة
الذي يجب أن نتعلم كيف نشبعه
برضا حقيقي صرف
أو نموت..
ليس هناك من بديل
امرأة أشبعت فيّ هذا الجوع أخيرا
ما لا تستطيع نساء كثيرات أن يمنحنه
تستطيع امرأة واحدة
وقفت قبالتي كخيرات مملوكة لي
وحتى وقتها في العتمة
كنتُ معذبا ضاريا مقيدا خجلا، ومخزيا، وشريرا.
إن الإنسان يصاب برعب كبير من الجوع العنيف
وهذا الرعب هو جذر كل القسوة.
أحبّتني ووقفتْ قبالتي،
تنظر إليّ كيف أنظر،
وأنا محموم بالجنون
واختلست نظرة جانبية
أنا محموم بجنون رغبة مفترسة…
أستطيع أن أضع وجهي بين نهديها
وأعرف أنهما قد أعطياني إلى الأبد
وأنني لن أجوع أبدا
لن أضمحل
لقد أكلت من الخبز الذي يشبع
وهدأ جسد جسدي
صار هناك سلام وثراء وتحقق.
ضحك الشاب.. وقال:
– أنت تقول شعرا.
ورددتُ:
-إنها أبيات من قصيدة “مانفستو” (manifesto)للأديب الإنجليزي لورنس.. لا شك في أنك تعرف دافيد هيربرت لورنس.. إنه كاتب رواية “نساء في الحب”
(Women in love) ورواية “عشيق الليدي شاترلي” (Lady Chatterley’s Lover)..
ردّ الشاب:
-بكل صراحة، أنا لا أعرف لورنس هذا ولا قرأتُ عنه أو له شيئا.. لكنّ كلامه، الذي قلتَ قبل قليل، يبدو جميلا. ثم قدّم لي سيجارة قبلتُها منه وشرعت في تدخينها بلذة واستمتاع.. وعبر حلقات دخانها المرتفع، تراءت لي صورة سامية وهي عارية تماما ويدها ترتفع في الهواء مشيرة إليّ..
-يا لجمال ردفيها المكورين واستقامة قدها الأهيَف.. يا لبياض نهديها الناضحين بالشهوة، وتينيك العينين الزّرقاوين، ما أروع ذلك البريق المتسرب منهما!
غمرتُ وجهي براحتَي يديّ؛ دعكتُ عيني الذابلتين، ثم ضحكتُ. انخرطتُ، بعد ذلك، في قهقهة هستيرية استرعت انتباه الجالسين قربي.
اقترب مني الشاب وهمس لي:
-من الأحسن أن تذهبَ إلى البيت..
لم أجبه، واصلتُ القهقهة. وفجأة، شعرتُ بالدموع تطفر من عيني، وإذا بي أبكي وأشهق.
أمسك الشاب بذراعي وكرر كلامه السابق، بصوت أكثر خفوتا وفيه شيء من العطف. استويت واقفا ودفعت ثمن ما استهلكت وخرجت.
كان الليل قد انتصف وشوارع المدينة قد أقفرت إلا من بعض الحيوانات الضالة تعبث بصناديق القمامة. كان الهدوء قد عمّ الكون، وبدت النجوم متلألئة في كبد السماء. تذكرتُ كلمات نيتشه، على لسان زرادشت، للنجم العظيم، فشرعت أرددها بيني وبين نفسي: “إيه أيها النجم العظيم، آن لي الآن أن أغيب كما تغيب… طوبى للكأس التي تريد أن تطفح كما يفيض منها ماء كالذهب، حاملا في كل مكان انعكاس ابتهاجك.. انظر، إن الكأس تريد أن تفرغ من جديد”..
فجأة، انهال عليّ ضوء قويّ من الخلف؛ فالتفتّ نحو مصدره. وجدتني وجها لوجه مع “الفاركو”، التي توقفت بمحاذاة الرصيف، ونزل شرطي مديد القامة واتجه صوبي، قائلا:
-بطاقة تعريفك، لو سمحت..
دسستُ يدي في جيوبي تباعا، متظاهرا بالبحث، ثم رفعتُ رأسي نحوه وقلتُ:
-لا أحملها معي.
ضحك الشرطي، وقال:
-لا تحملها؟ هذه مخالفة خطيرة.. قل لي كيف سنعرف هويتك، إذن؟
-هل يظهر عليّ أنني مَحلّ ريبة وشك؟
تظاهر الشرطي بأنه يشم شيئا، وهتف بي:
-يبدو أنك سكران، وهذه جنحة أخرى.
ابتسمتُ وقلتُ:
-ولكنني لم أثر فوضى، ولم أخلّ بالأمن.
-آسف.. سترافقنا إلى المركز.
– أرجوك!
-ليس هذا وقت رجاء.. قلت ستذهب إلى المركز، إذن فستذهب؛ لا ترغمني على استعمال العنف.
أحسست بأن صاحبنا جِدّي في كلامه، فقررت استعمال ورقة “الجوكر”. قلتُ وأنا أنظر إليه:
-وهل يرضيك أن ينام ابن أحد أفراد الأسرة على “الضّس”..
-أحد أفراد الأسرة!
ضحكتُ وقلتُ:
-أنا ابن السي العربي، مفتش الشرطة القضائية.. لا شكّ في أنك تعرفه.
-ابن السي العربي.. وكيف أتأكد من ذلك؟
-يكفي أن تسأله.. أنا ابنه البكر.
ران علينا صمتٌ قصيرٌ، ثم قال الشرطي:
-هيا اركب.. سنوصلك إلى حيث أنت ذاهب.
ابتسمتُ، ثم ركبتُ، وسألني الشرطي:
-أين تسكن؟
ردّدت:
-في حي الحبوب.
وانطلقت بنا السيارة في صمت الليل الرهيب. ظللنا صامتين، حتى وصلنا إلى الحي. توقفت السيارة ونزلت. أشرتُ إلى الشرطيين القابعين داخلها بيدي مودعا. اندفعتُ أشق طريقي نحو البيت، حينما وصلتُه كان الضيوف قد ذهبوا والحفلُ انتهى. آويتُ إلى غرفتي مباشرة؛ خلعتُ ثيابي بسرعة، ثم اندسستُ تحت الملاءة واستسلمتُ لسلطان النوم.
مع مطلع شهر ماي، بدأتْ حمى الامتحانات تنتشر.. انكبّ معظم الطلبة على الورق، يلتهمون محتوياته، في انتظار يوم الحساب. كنتُ قد شرعتُ في الاستعداد لمباراتي الالتحاق بكلية علوم التربية والمركز التربوي الجهوي، مع استمرار إعطائي دروس التقوية لكل من سامية وحليمة، اللتين كانتا، حسب ما يبدو، مستعدتين خير استعداد لمواجهة أسئلة الامتحان.
كنتُ أحاول أن أطرد من بالي كل هموم الماضي، وأخفّف من حدة التفكير في سامية وعالمها الساحر، الذي عجزتُ عن اقتحامه بالرغم من محاولاتي السابقة، مقنعا نفسي بعدم جدوى الاستمرار في ممارسة عملية خداع الذات.
كانت سامية تقابلني بسلوك ثابت ولا مبالاة قاهرة.. كان إحساسها نحوي باردا. قلتُ لها مرة: “أريدك أن تحسي بي.. أنا أتعذب من أجلك”، فردّت علي بصوت هادئ: “إنني أحس بك كصديق، كأخ.. فلا داعي لأن تتعذب من أجلي”..
كانت عجلة الأيام تدور وتأخذني في تفاهات الحياة اليومية، والواقع يهترئ ويهتز ويعلن عن تناقضات صارخة تكبل يدي، والعالم يبتذل ويغرق في حمأة المهزلة.
لم أكن أدري ماذا يجب أن أفعل، ولا أعرف كيف يجب أن أتصرف؛ سلوكي سلّمته للعبثية العمياء، تتصرف فيه على هواها.
كنت أتألم في صمت وأعيش متخبطا في السديم، وأتساءل: لماذا هذه اللاعدالة في مجتمع يدّعي العدالة؟
كنت أشعر بأن فرديتي ملغاة تماما، وبأن وجودي لا طائل منه بتاتا، ما دام الدور المسند إليّ يسلبني الحركة والفعل.
كنت أعيش غمار المأساة، وأنا أعلم أنْ لا مناص لي من ذلك، وأقول لنفسي: “هذا قدري.. فلأواجهه بشجاعة”..
درجت الحياة تافهة، تجري أحداثها دون معنى. اجتزت المباراتين اللـّتين كنت أعلق عليهما كل آمالي وأربط بهما مستقبلي. عكفتُ أنتظر النتيجة علها تكون خيرا.
تقدمت سامية، هي الأخرى، للامتحان وهي تعلم أن النجاح سيكون حليفها، وكان هذا رأيي أيضا. كانت ذكية وابنة رجل موسر؛ ومتى اجتمع الذكاء والمال فإن النجاح يصبح أقرب إلى المرء من حبل الوريد. وفعلا، تحققت لها أمنيتها، وحصلت على شهادة الباكلوريا بميزة حسن. أقام والدها حفلا بالمناسبة؛ ذهبت بمعية أختي وخطيبها لحضوره. استقبلتنا أمها بوجه بشوش ضاحك، ثم جاءت سامية وهي تخطر في ثوب حريريّ أزرق وحيّتنا. اندمجنا مع المدعوين، الذين كان أغلبهم من الطبقة الراقية، في أحاديث روتينية تافهة.
كان رشيد حاضرا، وقد بدا أنيقا جدا في بدلته الرفيعة.. كانت سامية تقابله بابتسامة لا تفارق شفتيها، وقد راقصته أكثر من مرة، واستلطفته وأفاضت في ذلك. كان الانسجام بينهما يبدو واضحا.
شعرت بغيرة قاتلة تعتمل في قلبي، وتجرعت كأس الهزيمة المرة، وأنا أتتبع تصرفاتهما. ماذا يحدث لي يا إلهي؟! إنني أسقط، أنهزم.. إنني مرفوض وهو مقبول.
سألتني أختي وقد رأتني شاردا:
-ما لك، تبدو ساهيا، غارقا في دوامة التفكير؟
رددتُ بصوت مكتئب:
-ليس هناك شيء.. أتأمل فقط.
-ولكن علامات الحزن واضحة على وجهك..
ضحكتُ بسخرية، وقلتُ:
-الحزن لن يجد أحسن من وجهي لينشر معالمه عبر تقاسيمه.
دعا أختي خطيبُها إلى حلبة الرقص، ومكثتُ وحدي، منصرفا بكل حواسي إلى تتبع حركات سامية ورشيد. اقتربتْ مني الحاجة زينب، وقد تأنقت في هندامها وقالت:
-ما لك صامت وتجلس منفردا؟ ألستَ سعيدا بنجاح تلميذتك؟
قلتُ، وأنا أتصنع الفرح:
-أنا سعيد، يا سيدتي؛ بل إن فرحتي أكبر من أن أتحدث عنها.. لقد قلت هذا لسامية من قبل، وها أنا أقوله لك.
انتهى الحفلُ، وعدتُ إلى البيت وأنا أتمزّق من الألم. لم يغمض لي جفن طيلة تلك الليلة..
بعد الحفل بيومين، تلقيتُ خبر رسوبي في امتحان الالتحاق بكلية علوم التربية. وبعد ذلك بيوم، علمتُ أنني فشلتُ، أيضا، في مباراة دخول المركز التربوي الجهوي.
كانت الصدمة أكبر من أن أتحدّث عنها. بكيتُ طويلا، ثم رضختُ للأمر الواقع.
وفي غمرة معاناتي، طرقتْ باب بيتنا خادمة الحاج حكيم وقدّمتْ لنا دعوة لحضور خطوبة سامية ورشيد في بحر الأسبوع الموالي.. وهكذا، تكالبت عليّ الانكسارات، وانطلقت نحوي خيول اليأس الجامحة، تدكّ بحوافرها كل آمالي. فقدتُ كل قدرة على المقاومة والمواجهة، وقررتُ عدم الذهاب إلى حفل الخطوبة.. قالت أمي عندما رأت حزني:
-كل شيء قسمة ونصيب..
وتابعت، بعد لحظة صمت قصيرة:
-إنني أحس بك وأدرك ما تشعر به.
قلتُ:
-لا أفهم لماذا هذه الدنيا دائما ضدّي!
قالت، وهي تضمّني إلى صدرها:
-لا تفكر في شيء.. اهتمّ بنفسك فقط، ولا داعي إلى هذا التشاؤم..
رددت بصوت تخنقه الدموع:
-أنا جريح يا أماه وقلبي ينزف، أنا مجرد حطام
هتفت بي أمي:
-كن رجلا يا ولدي، لا تستسلم لليأس والقنوط
لكنّ كلام أمي لم يغيّر شيئا في أحوالي؛ ظلّت مراجل الغضب تغلي داخلي؛ لم أعد أطيق الحياة والوجود .
خرجت من البيت، لا أعرف لي هدفا أو مقصدا. ظللتُ أسير على غير هدى؛ السابلة تتقاذف بعضها في كل الاتجاهات، غارقة في فوضى الطريق وفوضى المشاعر. الرعاع يتطاولون في صنع تاريخ باهت وشاحب ونحن لا نملك سوى السير على الهامش ننظر بانكسار إلى مجزرة الأحاسيس تقترفها أياد حديدية
بقفازات من حرير.. هي لحظة السقوط في بؤرة الألم تتجلى على وجوه الصبايا الضائعات في غيابات الاندحار، وتقرأ على وجوه الصغار القابعين في زوايا الاندثار.
وجدتني في حواشي المدينة، أمشي على حافة الطريق المتجهة إلى بني ملال.
كانت الطريق تلوح أمامي ممتدة وطويلة، والسراب يتراقص عند مرمى بصري. كنت أحس بعدمٍ قاتل يلبسني، وكانت رائحة الفشل تُغرقني. كان قلبي الشهيد ينزف، ونعيق البوم والغربان يلاحق خطاي. أشعر بتوتر شديد ينتابني، توتر من ذلك النوع الذي لا ينصرف إلا بالفعل؛ لكنني مكبل وعاجز عن الحركة ولا أستطيع لنفسي شيئا. كانت أشجان خرساء تضطرب في أعماقي وجراح عملاقة تنفتح في وجداني.
“أيّ عالم مقيت هذا الذي نحيى فيه! إنه أشبه بغابة، فالغلبة دائما للقوي. الضعفاء يسقطون دونما انقطاع، والأقوياء يمشون على نواصيهم. الوجود يتحول إلى أكذوبة لا معنى لها، والقطيع يواصل مسيرته خلف السراب ..”
كنت قد قطعتُ مسافة طويلة، وتسرّب الوهنُ إلى قدمَيّ، فاقتعدتُ صخرة تحاذي شجرة كالبتوس صغيرة. أسندت رأسي إلى جذعها. تناهت إلى سمعي أصوات معربدة، فجلتُ ببصري باحثا عن مصدرها. استطعتُ أن أتبيّن، على بعد أمتار من مكاني، ثلاثة شبان بأسمال قديمة، يعاقرون كحول الحريق. كان أحدهم يترنم بلحن شعبيّ شائع، والآخران يردان عليه. قلتُ لنفسي: إنهم مثلي، خذلتهم الأيام؛ فاختاروا العيش على الهامش، وفضّلوا قتل وعيهم وتعطيل عقولهم عن التفكير.
تذكرتُ ليلة ذهبت إلى الحانة وشربت، لقد “خلقت” لنفسي في تلك الليلة عالما خاصا وجعلت حواسي ترى الأشياء بمنظار غير ذلك الذي يفرضه عليها الواقع.
سرقني الوقت، وأنا على وضعي ذاك، غارقا في تأملاتي. كانت الشمس قد أسلمت وجهها نحو الأفق وراحت تختفي والسماء لبست ثوب الشفق. قمتُ من مكاني واستدرتُ عائدا إلى البيت.
“سأعود إلى قلب المعمعة من جديد، وأعيش غمار المعركة من أجل الوجود. لن أستسلم لليأس القاتل، سأتسلح بالصدق والإيمان، وسأواجه مصيري بعزم
وعزيمة، وأصارع بكل ما أوتيتُ من قوة من أجل البقاء.. وأخيرا، فلتذهب سامية ورشيد وكل ما يرتبط بهما وبطبقتهما إلى الجحيم ..”