الأستاذ وحيد لجمي/ تونس
ابتسم الرجل وهو يستعيد كل تلك الأحداث، إنها الذكريات التي تبقى جميلة حتى وإن شابها بعض من الألم والحزن، كان يدرك دائما أن في بعض الآلام جمالا وأن في بعض الأحزان حسنا، كثيرا ما كان يبحث عن ذلك الجمال الخفي الذي يغير حال الأشياء ويبدد منها آلامها وأحزانها.
عاد لينظر من جديد إلى شاشة حاسوبه، أطال النظر لتلك الكلمات التي قرأها منذ حين على شاشته الملوّنة المضيئة، أعاد تأمّلها بعمق وفي عينيه بريق ذابل من الحنين الحزين، يتمعّن الكلمات، يتهجّى حروفها التي تجلّت له وكأنها تلملم من حولها شتات التاريخ والذكريات.
أشواق لا تشبه الكلمات في شيء، خارجة عن المعنى، متعالية عن كل إحساس، رغبة غريبة موجعة تعتصر الوجدان لتخرجه خاويا من كل إحساس بالوجود، أحاسيسه التي أصبحت حبيسة الفراق والغياب باتت مترنّحة تحت وطأة الذكريات العاصفة، يعيد قراءة الكلمات المجهولة المصدر بصوت مرتفع متعثر :
– كم اشتقت إليك با أبي.. وكم أود أن أراك..
تتسارع نبضات قلبه وسط صور متذبذبة متواترة متوتّرة، ينكمش على نفسه، يرتجف الجسد النحيل وكأنه يتلاشى بعيدا في فضاءات عاصفة، تماما كذلك اليوم العاصف الحزين، يتذكر جيدا ذلك اليوم، يعيشه مرات ومرات في كل يوم، عندما وجد نفسه يستحضر زمنا بعيدا وبعيدا جدا، زمنا يعدّ بعشرات السنين عندما كان طفلا غضا يعشق الحياة ويرتمي بين أحضان والديه، كانت سنا مبكرة شاءت الأقدار فيها أن تحمل الأب، تمر سنوات قصيرة، سنتين أو ثلاث، ترحل الأم لاهثة وراء عشق دفين في قلبها الحزين، تغلق بعدها كل أبواب العشق للوجود، يوم وجد نفسه أمام قبرهما، لازل يذكر زمنا مضى ولكنه بقي محفورا في ذاكرته، ورغم صغر سنه في ذلك الوقت البعيد نزل بهما إلى قبريهما ليتركهما وحيدين في آخر لقاء جمعه بهما، يصعد بعد ذلك إلى حياة ليست هي ذاتها الحياة قبل نزوله بهما إلى ذلك المكان الموحش الحزين.
تحمله الذكريات كما تحمل الرياح أوراق الأشجار اليابسة، تتبعثر أحاسيسه مرتطمة بصور كان يعتقد أن بريقها قد انطفأ في داخله، هو في ذلك المكان الحزين، يتجوّل ببصره داخل المساحات المترامية، يبحث عن شيء ما يذكّره بالحياة وسط تلك الفوضى العارمة من بقايا القبور، قبور فتحت وباتت خاوية بعد أن لفظت الأجساد البالية وما تبقى من رميم عظامها، رجال يتحرّكون كأشباح فوق القبور يبحثون عن علامة أو حجارة أو أي شيء يذكرهم بأمكنة دفن أمواتهم، نساء يتجمّعن هنا وهناك، رؤوسهن تتقارب فيما بينهن ثم تتباعد في حركة بطيئة ثم متسارعة، تعصف الرياح بكلماتهن فلا تترك منها سوى بعض من الحروف المبعثرة وكلمات متقطّعة، نواح وتأوهات، صمت قصير، ثم بعض من الضحكات الخجولة الخافتة.
مدّ يده إلى جيبه يتلمّس الأوراق التي تحمل ترخيص نقل رفاة والديه من المقبرة إلى مقبرة مجاورة، لأكثر من سنتين وهو يقوم بإعداد تلك الأوراق وفي كل مرة كانت تتعطّل الإجراءات لسبب أو لآخر، عندما تحصّل على الموافقة النهائية وسويّت الوضعية جاء قبل أيّام إلى ذلك المكان ليتثبت من مكان القبرين بعد أن سمع بالفوضى التي حلّت بالمقبرة جراء نقل الموتى إلى مقابر أخرى.
لم يشاهد أحدا في ذلك الصباح، كانت المقبرة خالية خاوية، لا يسمع فيها سوى حشرجة بعض أوراق الأشجار اليابسة تحتك بأسطح القبور، تتلاعب الرياح بحبّات الرمال، تجرفها من مكان إلى مكان دون أن تهاجر المقبرة، صوت السفى كلحن حزين، كتأوهات الراقدين في ذلك القرار المكين، أنين لا يشبه أي أنين، وقف طويلا أمام القبرين يتأملهما وهو يستعيد أحداثا كثيرة متداخلة، لم يعد يذكر البعض منها فيما عدا صور باهتة وصور أخرى عالقة.
أصوات مختلطة تتهجى حروفا وكلمات مرهقة، أصوات باهتة تنبعث من داخل المقبرة، تمزّق ذلك الصمت الذي يحيطه من كل جهة، تراتيل فاترة تنبعث من المكان بأصوات طفولية رقيقة وكأنها تأتي من عوالم بعيدة، تشّق السراب البعيد، تقترب الهوينة، تتيقّظ حواسه، إنه صوته الطفولي الرقيق، نبراته القديمة، يتذكّرها جيدا، تزاحم ذاكرته فجأة وهو يرتل القرآن عند ذلك الزمن البعيد على قبور هجرتها الأرواح والأجساد، أحس بأنه عاد طفلا من جديد عندما كان يتجوّل في المقبرة التي دفنت فيها جدته، يتنقل بين الحجارة والقبور في خفة الطيور وبين يديه مصحفه القديم، بدأ يتمتم متتبعا صوته الرقيق الآتى من الزمن القديم وهو يقرع أذنيه كلحن حزين، وخرّ جالسا كما كان يفعل وهو صغير.
تلمّس القبرين المتجاورين بيديه وأغمض عينيه وكأنه يرفض أن يرى ذلك المشهد الذي لم يفارق مخيّلته منذ عشرات السنين، شفاتاه ترتعيشان، تترنّمان بكلمات مبهمة وحروف رقيقة غامضة، تذكّر كيف كان يقضي ساعات وساعات، يجلس وحيدا في ذلك المكان الحزين تحت ذلك الحائط الأبيض المقابل للقبرين، يتأمل قبري أمه وأبيه حتى يأخذه النعاس، يغيب مع كل هؤلاء الغائبين تحت التراب ولا يوقظه سوى غياب الشمس عند المغيب، أو قطرات الندى الباردة تسيل على جبينه العريض، تنحدر على عينيه ثم على خديه ثم على شفتيه، أو وشوشة المارين بين القبور وتعثّر البعض منهم وارتباكهم أو هروب البعض الآخر من مشاهدته وهو يلازم الحائط الأبيض دون حراك كشبح من أشبح هؤلاء الراقدين.
يفتح عينيه المرهقتين، ينظر من جديد إلى القبرين المتجاورين، نسيم هادئ يحرك خصلات شعره بلطف ناعم، أوراق أشجار تتحرّك من تحت قدميه، أصوات قدمين تحتك ببطئ وخفّة على الأرضية الترابية المتحجرة، تقترب منه شيئا فشيئا، يرتفع صوت احتكاك القدمين بالحصى المنتشر حوله، يلتفت وراءه بهدوء وتثاقل وهو يفتح عينه أكثر فأكثر، فإذا بامرأة فارعة الطول، نحيفة سمراء، تقف على كتفيه، تدنو منه بخفة ورشاقة متصنّعتين، تقترب منه أكثر فأكثر وهي تقول :
– رحم الله من فقدت يا ولدي..
نظر إليها مليا ثم عاد إلى وضعه الذي كان عليه دون أن يعير لوجودها المفاجئ في المكان أهمية :
– شكرا أيتها السيدة..
يقول ذلك بكل تثاقل.
صمت يلف المكان، يمزقه هبوب نسائم فاترة، تتحوّل النسائم فجأة إلى رياح قوية، تتحرّك أغصان الأشجار البعيدة هناك على مشارف المقبرة، يتطاير ما تبقى منها من أوراق يابسة متعلقة بأغصانها، ينتشر البعض منها مبعثرا في كل مكان، هنا وهناك، تطير في السماء كأرواح مهاجرة، ترتمي تحت قدميه وتنتشر من حوله كالهشيم، تتراقص في حركة مجنونة، لاهثة وراء الفراغ، مخلّفة أصوات وكأنها الأنين، ثم من جديد يعود الهدوء ليلفّ المكان، يشقّ ذلك الهدوء موسيقى غربيّة خافتة تصدر من أحد النوافذ البعيدة المطلّة على المقبرة، نغمات حزينة أو تراءت لمسامعه ولأحاسيسه المضطربة على تلك الحال من الحزن، نسي كل ما يدور من حوله وبدا منغمسا في تلك الموسيقى القادمة من المكان المجهول.
جال ببصره وهو يبحث عن مصدر تلك الموسيقى دون جدوى، حدّق بعمق في تلك المساحات الغائرة في الأعماق، بدا له وكأن الأصوات العذبة والحزينة تلك تأتيه من هناك، من ذلك الأفق البعيد، تخترق الألحان المسافات والأمكنة جيئة وذهابا، تختلط بأصوات الرياح الهادئة حينا والهوجاء حينا آخر، تعبث بالمكان وتشتّت الزمان، الطيور الضّوارب تنتشر في أرجاء الفضاء، تملأ السماء غقغقة فاترة متباعدة ومتقاربة في ذلك الفضاء الرحب.
ينغمس في أحاسيس غريبة مبهمة تثقل روحه وجسده، أحسّ أنه يتحرّك ببطئ شديد متناغما مع صوت الموسيقى وإيقاعها الجميل الحزين، يتمايل مع النسائم العابثة، تشدّه الأرض، تقبض على ساقيه قبضا حتى لا يأخذه ذلك المزيج العجيب من الأصوات المختلطة وتلك الحركات العبثية للأوراق اليابسة المتصلّبة في رقصة مجنونة حائرة، تتسمّر رجلاه في تلك الأرض القاحلة، يشعر أنه يلامس ما في أحشائها، يدرك ما تبقى من أكفان وأموات، تساءل وهو ينظر إلى أسفل قدميه :
– هل تقرع هذه الموسيقى آذان تلك الأجساد البالية المنغرسة في التراب.. ؟ هل هذه الألحان حزينة لأنها تصطدم بهذا المكان..؟ أتراها تخاطب تلك الأرواح المفارقة.. ؟ أم أن كل هذه الأجساد البالية المنتشرة تحت الأجداث هي التي جعلتها حزينة كئيبة كهذه السماء المغطاة بسحبها السوداء الداكنة..؟
الموسيقى، إنها السرّ الدفين الذي كان به يعيش، كم عشق الألحان وكم داعب الأوتار وخلق من الأصوات أحلاما، كان يكتبها على جدران حديقته الصغيرة، تذكّر ذلك الزمان حين كانت روحه ترفرف مع عذب الألحان، ينظر إلى قبر والده وقد شده الحنين، يتمعّن مليا به وقد نشطت ذاكرته، يأتيه صوت والده بنبرات قوية وكأنها تخترق جدران الغياب الطويل يدعوه لسماع موسيقاه :
– هيا يا فتى.. هات آلتك وتعالى لتسمعني ما حفظته حديثا من ألحان..
يسرع إلى حيث يخفى الأوبوا، آلته الموسيقية الجميلة، يحملها برفق بين يديه وكأنه يحمل رضيعا خرج للتو إلى الدنيا، يجلس على كرسيه الخشبي القديم، يضع الآلة بين شفتيه، ينفخ بها نفخا رقيقا ويحرك أصابعه بلطف على مفاتيحها البيضاء والسوداء، تخرج الألحان عذبة ناعمة كسرّ الأرواح الخالدة، يضع الوالد يده على خدّه، يتكئ على كرسيه، يحلّق مع النغمات ويسرح في عالمه البعيد المجهول، يمرّ الوقت مسرعا وقد فقد كل معانيه الممكنة.
يضع الطفل نقطة النهاية لمداعباته لآلته السحريّة، يعود الأب إلى وعيه الدنيوي بعد أن أخذته الألحان بعيدا، يبتسم وهو يلوّح بيده طربا، يقف من كرسيه متجها إليه، يقترب منه وقد ارتسمت على وجهه مشاعر الفرح، وظهرت على ملامح الطفل أحاسيس مختلفة تمتزج فيها مشاعر الفخر والخجل، يقول له بصوت ملأه السعادة :
– أنت تعزف جيدا هذه الأغنية لفيروز..
يصمت بعض الوقت ثم يستدرك قائلا :
– آه .. أعطني النايا وغني.. ما أجملها من أغنية .. متى حفظتها يا فتى..؟
يهمّ بالإجابة على استفسار والده، ولكن يتلاشى من أمامه كل شيء، تختفي صورة والده ويتلاشى صوته وسط ضباب الذكريات المتدافعة، يحوّل عينيه من القبر إلى السماء، ينظر إلى السحب المتحرّكة، يحدّق بها بعمق وإمعان، ما أجمل تلك السماء الدّاكنة، يتأمّلها كما كان يتأمّلها دائما وهو طفل صغير، إنها اللوحة الوحيدة التي جعلت منه عاشقا للجمال، للموسيقى، للرسم والألوان، اللوحة القاتمة التي بقيت ملازمة لوجوده الأبدي، لا عشق يعلو فوق عشق هذه السحب وهي تعبر السماء الزرقاء وتقف عند الأفق البعيد، تغطي أجزاء وأجزاء من السماء وتكشف عن أجزاء أخرى، تسقط متمايلة راقصة عند الأفق المتوهج برفق ونعومة فائقة، لتحتضنها مياه البحر، إنه اللقاء الحالم بين المحبين، كان يعتقد دائما أن الآلهة تسكن في تلك النقطة المحدّدة من العالم، حيث يولد كل شيء ويموت كل شيء وحيث تتكوّن كل قواعد الجمال في معبد الفرقان.
تتباطأ أنفاسه وكأنها تتناغم مع صوت الموسيقى الغربية الحزين المتدفّق من ذلك المكان البعيد، تهبّ نسمات باردة وتتحرك الأغصان وتعود أوراق الأشجار اليابسة إلى رقصتها المجنونة، تتحوّل كل الألوان الباهتة من حوله إلى رمادية فاتحة وأخرى داكنة وتختلط كل الأصوات مرتفعة ومنخفضة، هادئة ثم صاخبة، يأتيه صوت المرأة مقطّعا تلك السنفونيّة الوجوديّة الغريبة تقول له بصوت منخفض :
– من لديك يا ولدي في هذه المقبرة .. ؟
شعر وكأنه كان غائبا عن المكان، وأن صوت هذه المرأة قد أخرجه عنوة من عالمه السحريّ ليعود به إلى ذات المكان الحزين، بل ليسقطه من سماء مرتفعة، يتكسر أشلاء وقطعا صغيرة على أرض جرداء، يتململ في مكانه ويضيق صدره من تلك المرأة التي أزعجت وجوده وقد كان وحيدا مطمئنا يعانق أنفاسه الحالمة وتداعب مخيلته ذكرياته المتدفقة، شعر وكأن أرواحا شريرة تحوم حوله لتفسد عليه حلمه الجميل، رغب لو أنه يطرد تلك المرأة التي عكّرت عليه خلوته مع نفسه ومع ذكرياته، يتأملها وقد بقيت واقفة عند رأسه، يغمغم بصوت منخفض :
– يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ما كنت عليه..
كان يعرف جيدا ألا شيء قادر على أن يعود كما كان، فذلك هو قدره وقدر كل الموجودات في هذا العالم، لم يكن يرغب حقيقة في الكلام أو التخاطب مع أحد، تمنى لو أنه بقي متعلّقا بالأفق البعيد، غارقا في تلك الموسيقى الحزينة القادمة من العالم المجهول وفي أنين الأوراق البابسة، بقي صامتا ملازما جلسته والألم يعتصر نفسه العائدة من جميل الزمان.
لم يستطع تقدير الزّمن الذي بقي فيه على تلك الحال، تمنى لو أنه يطول بعدد السنين التي مرّت من عمره، وينام مع تلك الموسيقى ومع صورة والده نومة أهل الكهف، ولكن المرأة لا تبارح مكانها، شعر بالحرج وقد لاحظ أن في وقوف تلك المرأة عن مقربة منه رغبة أخرى دون السؤال، فردّ بصوت خافت متواتر دون أن يحرّك ساكنا:
– هذا قبر أمي..
يلزم الصمت برهة قصيرة، أنفاس تنزل ثم تتصاعد من صدره بصعوبة وكأن ألما ينتشر بين ضلوعه، تتمازج أنفاسه مع النسائم والرياح، يجهد نفسه لتخرج الكلمات من فمه متعثرة :
– وهذا قبر أبي ..
– هل ماتا معا.. ؟
صمت يلفّ المكان من جديد ثم يقول :
– لا..
– لم إذن هما متجاوران.. ؟
بقي صامتا واكتفى بالنظر إليها نظرة سريعة فاترة ثم همّ بالوقوف فدنت منه وقالت له :
– أنا لم أنم البارحة ولم يغمض لي جفن، كنت خائفة جدا .. أصابني وابل من الشك عندما قمنا يوم أمس بنقل رفاة أمي، لقد كان حفّار القبور على عجلة من أمره، خشيت أن نكون قد نسينا البعض من عظامها، لقد جئت لأتثبت من الأمر.. لم يكن ذلك بالأمر الهين.. لقد تحملت مشقة كبيرة من أجل ذلك..
قالت تلك الكلمات وقد بدا عليها حزن عميق، ثم وبعد صمت قصير استدركت قائلة..
– رحمها الله..