بقلم حفيده : الدكتور العيد بوده
راحِلٌ أنت أيُّها الشَّيْخ المُفَدَّى، لكنَّك في الذاكرة حاضرٌ لا تغيب.
أَخُو الْعِلْمِ حَيُّ بَعْدَ مَوْتِهِ *** وأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابْ رَمِيْمُ
هو رجل مِفضال؛ سَلِيْلُ السالكين سُبُل العلم الديني، والتعليم القرآني، فآباؤه شيوخ أفاضل، وبهم يتَّصل نَسَبُ جَدِّي: محمد بن الشيخ عبد القادر، بن الشيخ أحمد، بن الشيخ عبد الله، بن الشيخ عبد الرحمان، بن الشيخ مصطفى، بن الشيخ مختار، بن الشيخ بوبكر بوده صاحب حينون، نِسْبَةً لمنطقة تسمى “زاوية حينون” بدائرة أولف بإقليم التيديكلت، حيث ولد رحمه الله خلال عام 1903م، وبها تلقَّى تعليمه الأول على يد والده لفترة قصيرة، قبل أن يتوفاه الله، ثم واصل تعليمه الديني على يد شيخه “سيد أحمد العالم أبختي” رحمهم الله أجمعين.
وبعد أن أتمَّ الله عليه نعمة حفظ كتابه المبين، استأذن والدته في السفر إلى إقليم الهقار، فهبط مدينة تمنراست سنة 1930م، وعكف على تدريس القرآن الكريم، سَيْرَاً على خطى والده سيدي الشيخ عبد القادر، وأجداده السابقين، ومكث هنالك ثلاث سنوات، انتقل على إثرها إلى إقليم التاسيلي العتيق، بعدما أشار عليه مولاي الناجم الرقاني، بالذهاب إلى زاوية سيدي موسى بوقبرين، التي لم يكن بها معلم قرآن في تلك الفترة، فاستجاب له الشيخ محمد بوده، ويمَّمَ شطر تيماسينين التي حلَّ بها سنة 1933م، واستقبله فيها الراحل بن عبد النبي محمد كبير البلدة آنذاك، ثم شرع سيدي الشيخ محمد بوده، مرة أخرى في تعليم الناس القرآن الكريم، وأمور الدين القويم وأحكامه، سنة 1936م، وقد اجتمع عنده ناشئة القرية وكبارها، من قائمة: الشيخ بن عبد النبي البكري (المدعو بوجادي)، والحاج مولاي بن عبد النبي، وسيد أحمد بابا أحمد (المدعو كشيشي)، والحاج آخا بن الصغير، وبن عبد الحاكم خوَّاتا، والحاج بن موسى البشير، والحاج بن موسى أمَّامَة، والحاج صالح حمادي، والحاج بوجمعة حمادي، وحمادي عبد القادر، والحاج بن سالم أحمد (المدعو حميد)، والحاج بن سالم أمحمد( المدعو حمى)، والحاج وانتيمضي أخموك، وأسغير اخموك، وبن عبد الحاكم المختار( المدعو التلال)، وآخرون ممن نترحم على الأموات فيهم وندعو ببركة العمر للأحياء منهم.
لقد كان رحمه الله حريصا على الاستزادة من علوم الدين، مما ساهم في رفع أُفًقِهِ العلمي، فأشرقت مسيرته بحصيلة وازنة؛ قِوَامها عشرات المراسلات الفقهية مع أرمادة من شيوخ وعلماء المشرق العربي، كمصر، وسوريا، والعراق، وليبيا، والمملكة العربية السعودية، ناهيك عن تواصله العلمي والإنساني مع كوكبة من علمائنا الأجلاء في الجزائر ؛ ونذكر منهم: الشيخ باي بلعالم سليل ودفين أولف، والشيخ سيدي محمد بلكبير سليل ودفين أدرار، والشيخ مولاي أحمد الطاهري نزيل سالي بآدرار، و دفين مراكش بالمغرب الأقصى، والشيخ بلعبيدي من إقليم وادي ريغ (تقرت)، والشيخ السي محمد بلحاج عيسى مسروق من منطقة الشط بولاية ورقلة، والشيخ حمزة مخطار بوسعيد من بلدية سالي بأدرار، والشيخ حمزة خدارة بمنطقة في ورقلة، والشيخ عطية بن مصطفى من ولاية الجلفة، والشيخ محمد بن مالك بتمنراست. وغيرهم ممن لم أُحِطْ بهم خُبْرَا.
وقد قصَّ عليَّا والدي- الحاج بوده عبد القادر- بارك الله عمره، أنَّ الشيخ باي بلعالم رحمه الله، رأى مخطوطا لجدي محمد بوده، فَحَسِبَ أنَّ المخطوط للشيخ سيد أحمد العالم، فقالوا له : إن المخطوط منسوخ بخط الشيخ بوده، وليس بخط الشيخ سيد أحمد العالم، فقال الشيخ باي عندئذ: لا شك أن الشيخ بوده أحد تلامذة الشيخ سيد أحمد العالم، -لما بينهما من شبه الرسم الإملائي وجودة المضمون- فقالوا له: نعم إنه كذلك.
وكغيره من أفذاذ الوطن الأشاوس، استجاب جدي رحمه الله، لواجب الجهاد ، عشية اندلاع الكفاح المسلح؛ منذ أواخر سنة 1955م، حيث ساهم في العمل الجهادي إلى جانب إخوانه من مجاهدي المنطقة، وأَخُصُّ بالذكر الحاج كادي التيلامو، والحاج أمبيريك دحماني رحمهم الله جميعا، وقد تكفَّل حينها بإيصال رسائل الثورة إلى مجاهدي المنطقة، كما اضطلع بمهمة جمع التبرعات المالية الموجهة لدعم العمل الثوري المسلح. وتجدر الإشارة أنه تعرض لمضايقات السلطة الفرنسية آنذاك؛ بعدما اِشْتُبِهَ في دعمه للثُّوَّار، فتم سَجْنُهُ في معتقل فلاتيرز خلال سنة 1960م، ودخل معه السجن مجموعة من رجال البلدة، على غرار: عبد القادر بن سالم (المدعو كاقل)، والحاج أمبيريك دحماني، والحاج بوجمعة حمادي، والحاج سالم بيلو، والحاج إبراهيم بن سالم، والحاج أحمد بن النوي (المدعو الغول)، والطالب حمية من ورقلة.
حجَّ سيدي الشيخ المجاهد محمد بوده بيت الله الحرام ، غداة الاستقلال المظفر، وكان ذلك سنة 1965م، ورافقه في رحلته تلك الحاج التيلامو كادي، والحاج أمبيريك دحماني، والحاج وانتيني أخو، رحمهم الله جميعا. وقد سافروا حينها بحرا على متن باخرة، أقلَّتْهُم من ليبيا نحو المملكة العربية السعودية، مرورا بمياه الجمهورية المصرية.
وبعد عامين من هذه الزيارة الميمونة، توفي شيخنا الجليل رحمه الله، يوم الخميس الموافق للسادس ربيع الأول، من سنة 1967م، في حدود الواحدة ونصف زوالا ،بعد أن بلغ من العمر 64 عاما، وقد كانت وفاته حدثا موجعا في تيماسينين التي ماتزال شاهدة على دوره التنويري والجهادي، ولما بلغ الناس نَعْيُه ، جاء المعزون من مختلف بقاع الصحراء، على غرار أولف وتمنراست وعين صالح وورقلة.
رحل الشيخ المجاهد محمد بوده رحمه الله، الذي عُرِف عنه تواضعه الجم، وكرمه المشهود، حيث كان يأوي إلى منزله القريب والغريب، ويُكْرِمُ فيه الناس بما أوتي من علم، ورزق حسن.
رحمه الله، وأكرمه بشآبيب المغفرة، وأَنْعَم عليه بما وعد به عباده الصالحين، ورحم الموتى جميعا.. آمين.
فضيلة سِيْدِي الشَّيْخُ الإمام المُجَاهد الحاج “مُحَمَّد بوده” رحمه الله
فضيلة سِيْدِي الشَّيْخُ الإمام المُجَاهد الحاج “مُحَمَّد بوده” رحمه الله
بِمِثْلِكَ تَعْتَزُّ البِلَادُ وَتَفْخَرُ وتُزْهِرُ بِالْعِلْمِ المُنِيْرِ وتَزْخَرُ