د سعيد كفايتي – دراسات شرقية ومقارنة الأديان- جامعة سيدي محمد بن عبد الله / فاس
كنت أنا وزوجي في شرفة البيت نرتشف القهوة التي أعددتها شخصيا (أنا الخبير المحنك في إعداد القهوة والشاي) وبشكل حصري لجلسة سمر نحن في حاجة ملحة إليها لمقاومة ظروف الحجر الصحي، وللانفلات من وطأة كورونا. تجاذبنا أطراف الحديث، تحدثنا عن أشياء كثيرة لا رابط بينها سوى الرغبة العارمة في الكلام، واستحضرنا أسماء من نعرفهم ومن لا نعرفهم.. وعلى الرغم من أننا تجنبنا الخوض في هذه الجائحة، وفي التعليم عن بعد، وفي التباعد بين الأفراد، وفي النبوءة الكاذبة،وفي الكمامة و في غيرها من مواضيع الساعة التي أصبحت المادة الخام للصحافة وللإعلام. إلا أننا وجدنا أنفسنا دون سابق إنذار، ودون اتفاق مسبق، نُثير معا مسألة أصبحت تُؤرق الكثير منا. ولاشك في أن نسبة كبيرة منكم تُعاني منها ألا وهي مسألة التواصل في وسائل الإعلام الجديد، ولاسيما الماسنجر والواتساب. إذ يعتقد قطاع واسع من مستعملي هذه الوسائل أن مجرد وجود الضوء الأخضر أو En ligne في صفحتك دليل دامغ على أنك متاح ورهن إشارة المتصل، فتنهال عليك الأسئلة والاستفسارات بعضها ينحو منحى علميا. وهذه لا غبار عليها إذا ما كانت في وقتها وضمن سياق معين. وبعض هذه الاتصالات، خاصة إذا كان المستهدف امرأة، ولم تكن بين الطرفين مودة سابقة ومتبادلة، فلا قيمة لها لأنها تنأى أحيانا عن الخط المستقيم لتنحرف نحو نوع من التحرش الناعم، والذي قد يتحول إلى سب وشتم إذا ما أبدى الطرف الآخر نوعا من الممانعة.
لنكن واضحين، فالإنسان لا يعيش في الفضاء الافتراضي. الإنسان من لحم ودم، له التزاماته وانشغالاته. وفي الوقت الذي أرى الضوء الأخضر الذي قد لا ينطفئ أبدا قد يكون المتصل عليه راكبا سيارته أو في جالسا في مكتبه أو في حوار علمي مع طلبته أو منشغلا بإعداد وجبة ما في المطبخ أو قد يكون في أي فضاء آخر. المؤسف أن وسائل الإعلام الجديد أسهمت في خلق مفهوم خاطئ للتواصل و كان لها دور حاسم في تحطيم الحدود بين المُرسل والمُرسل إليه.
لا يمكن لأي أحد أن يكون له اعتراض على أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في حياة الإنسان. لكن يجب أن تكون لها، في المقابل، ضوابط وأخلاقيات. في خضم تناولنا لهذا الموضوع الشائك لا أدري كيف عُدت عقودا من الزمن إلى الوراء (أتخيل أن البعض منكم شرع في تعداد سنوات عمري..)، ولست بدعا في ذلك لأن الحنين إلى الماضي في ظل هذه الظروف الاستثنائية استشرى بين الناس، وعجت صفحات الفايسبوك وأنستغرام بصور قديمة (بعضها بالأبيض والأسود) تؤرخ للأيام الخوالي. سايرتني رفيقة العمر في هذا المنحى، وأنصتت إلي باهتمام زائد. واسترسلتُ في إبراز الفرق بين التواصل الآن الذي قد لا يُكلف شيئا لا من حيث الوقت و لا من حيث التكلفة. إذ يكفي أن يطأ الواحد منا، في رمشة عين، على زر ليتواصل مع شخص معين أو عدد من الأشخاص. لهذا فإن الكثيرين يستسهلون هذا النوع من التواصل، ويستخدمونه أحيانا لتمضية الوقت أو التسلية وقد لا ينتبهون أحيانا لفارق الساعة بين بلدان العالم مسببين الإزعاج للآخرين. أما النوع الثاني من التواصل، وهو الأكثر أهمية، فيتمثل في الجواب عن رسالة بعثها شخص ما إلى شخص آخر لطلب وظيفة أو إجراء تدريب أو نشر مقالة أو المشاركة في مؤتمر. المؤسف أن جزءا من هذه الرسائل قد يكون مصيرها الإهمال، وذلك على الرغم من أن الإجابة عنها أصبح في الوقت الراهن مُيسرا. لكن غياب الحس الحضاري لدى الشخص الذي استلم الرسالة قد يحجب عنه إدراك كُنه التواصل. وذكرتني هذه الصورة الأخيرة بصورة مغايرة تماما لا زلت تركن في ذاكرتي على الرغم من قدمها. ومن أبرز عناصر الاختلاف أن الصورة الثانية تعود إلى الثمانينيات من القرن الماضي حينما كان التواصل يمُر عبر البريد التقليدي، وما يقتضيه من كتابة رسالة، ووضعها في غلاف، وشراء طابع بريدي. ومضمون هذه القصة أني بعثت آنذاك بعض الإسهامات الأدبية والنقدية إلى الملحق الثقافي لجريدة البيان (كان عدد الجرائد آنذاك محدودا). ويبدو أن هيئة التحرير تأخرت في نشر هذه المواد، بسبب رداءة، خطي فراسلتهم معاتبا. وهو أمر قد يبدو طبيعيا. كان من الممكن أن يكون حظ هذه الرسالة شديدة اللهجة الإلقاء في سلة المهملات، خاصة أن العبد الضعيف كان مجرد قاص شاب نكرة ومغمور ينحدر من أقصى الشرق، لكن فوجئت برد جميل من المسؤول عن الملحق شاعرنا الكبير إدريس الملياني وما أدراك ما الشاعر المتميز والمثقف الملتزم إدريس الملياني. وحينما سافرت إلى فرنسا لاستكمال الدراسة العليا كنت أشعر بنشوة كبيرة وأن أتلقى أجوبة مهذبة عن طلبات الشغل لا فرق في ذلك بين مؤسسة كبرى أو مقاولة صغيرة، وما زلت احتفظ بعشرات الرسائل التي كانت تُستهل بكلمة “يؤسفنا”. بعد عودتي إلى المغرب راسلت آنذاك كل المؤسسات الجامعية علني أظفر بكلمة “يُؤسفنا” ، لكن خاب ظني. وحتى لا أكون ناكرا للفضل فإني أستثني مؤسستين جامعتين فقط. وكنت حينئذ أقارن بحسرة كبيرة بين أصغر مؤسسة في فرنسا وكيف أنها لا تتوانى عن بعث رسالة، ومؤسسات كبرى لم تكن في وطننا الغالي مُبالية بهذا الحس الحضاري، واستحضر في الوقت نفسه صورة المبدع الشامخ إدريس الملياني.
انقطعت صلتي الآن بعالم الإبداع أو على الأقل لم يعد له، بالنسبة إلي، الوهج الذي كان له في الماضي. لكن تقديري للمبدعين لا حد له. أحمد الله بكرة وأصيلا أن مؤسساتنا الجامعية قطعت مع تقاليد الماضي، وأن ما حكيته في هذا السمر الليلي، وتحت ضوء القمر، أصبح مجرد ذكرى.
أعياني هذا الحديث الطويل، فرفعت عيني إلى الأعلى مستطلعا مدى تجاوب رفيقة العمر مع هذه القصة الطريفة، فاكتشفت، واحسرتاه، أنها غفت وغطت في نوم عميق، وأنها لم تشرب من كأس القهوة إلا النزر القليل.