الروائي والناقد أ. جميل فتحي الهمامي
يقول العارف بالله محيي الدين ابن عربي في كتابه كلمة الله: إذا كان مطلوبك في المرآة أن ترى فيها وجهك فلم تأتها على التقابل، فرأيت صورة غيرك فيها فقلت ما هذا أردت، ثمّ قابلتك المرآة فرأيت صورتك فيها فقلت هذا صحيح، فالعيب منك لا من المرآة. من هذه الصورة الجميلة ينقلنا ابن عربي من عالم الروحانيات في الأدب الصوفي إلى نظرية مهمة جدّا، ألا وهي وهم الصورة المنعكسة. اليوم وبعبارة آدموف الآن وهنا أصبحت مؤسسة النقد الأدبي في عالمنا العربي في جزء كبير منها بوق دعاية لبعض الكتّاب. وقد حادت بعض النتاجات النقدية عن مسار التعامل الموضوعي مع النص لتكون أمام قراءة عاشقة تنفخ في هيئة العمل الأدبي من هواها الشيء الكثير، فنكون أمام بالونة نقدية سرعان ما تنفجر بوخزة دبوس صغير. وفي هذا المقال نسلّط الضوء على هذه الزاوية التي بدأت تنتشر كمرض عضال داخل المدوّنة الأدبية المعاصرة، إنّها نظرية الكتابة والانتحار الأدبي.
شدّني مقال للكاتب زياد أبو لبن في صحيفة الرأي اللندنية بتاريخ 29 مايو 2010 قال فيه يومها: أتحاشى كثيرا الدخول في زحمة المشاركة في الندوات والمؤتمرات، فأجد كثيرا من التطبيل والتزمير للكاتب الفلاني أو الكاتب العلاني، فهناك من الكتّاب من صنع لنفسه مجدا زائلا، وصفق له من حوله، وظنّ أنّ ما يكتبه عظيما، فاكتشف الناس أن العظمة وهم وسراب، مثلهم مثل قوله تعالى: “كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا”. وتذكّرت قول جيوفاني بابيني: هناك ثلاثة أنواع من الكتّاب، من لا يقولون شيئا ولكنهم يجيدون القول، ومن يقولون كثيرا ولكنهم يسيئون القول، والأسوأ من هؤلاء جميعا من لا يقولون شيئا ويسيئون القول. فحقيقة الانتحار الأدبي تبدأ من الوهم الذي يحيط بالكاتب حول عبقريته وبلاغته التي عزّ على غيره اكتسابها. ولعلّه قد اكتسب شهرة من صدفة ما، ربّما حزب سياسي أو جائزة كبيرة، او لقاء تلفزي، او علاقة وطيدة مع جهات نافذة إلخ..
الكتابة كلام بشر في النهاية ليس كلام الله حتى نؤمن بمعصوميته، ومن هنا تكون الكتابة في خانة العمل الإنساني المحدود الخاضع لآلية الخطأ والصواب
لكن كما أنّ العمامة لا تصنع الإمامة، فالكتب لا تصنع الأدب. فبعض النقّاد الذين هم كتّاب أيضا في النهاية يدفعون الكاتب إلى الانتحار العقلي على عتبات ما كتب لانّهم لعبوا دور الرافعة التي حملته إلى أعالي القمم، ولكنّه يوم يكتشف زيف هذه المكانة الواهمة فإنّه يسقط سقوطا مدويا لا تحمد نتائجه. وفي هذا الجانب اذكر مقولة الرئيس الأمريكي السابق إبراهام لينكولن الذي قال: إنّك تستطيع خداع كلّ الناس بعض الوقت، وخداع بعض الناس كلّ الوقت، لكنّك لا تستطيع أبدا خداع كلّ الناس كلّ الوقت. فالكتابة وفق هذا الشكل ستؤدّي حتما لازدحام الساحة الأدبية بكلّ من هبّ ودبّ، فسقراط الفيلسوف الإغريقي المعروف كان يرفض فعل الكتابة ذلك لعلمه بأن الكتابة لا تقود إلى مدلول واحد. ولعله في هذه النقطة بالذات كان مواطنا أدبيا أكثر منه فيلسوف يسعى إلى فتح آفاق المعرفة والعقل. فيكون بهذا المعنى الإيديولوجي قد دحض آراء الفلاسفة الآخرين ويقصيهم من دائرة الفكر في عملية جدلية صرف أشبه بإعدام فكري.
والمفارقة في الأمر أنه دفع حياته ثمنا لتلك الأيديولوجيا التي كان شيد أساسها وأدخل الفلسفة بسببها في كهف معتم وحكم عليها بالجمود والانحسار دهرا طويلا. وهذا في حدّ ذاته كفيل بالعودة إلى فبلة الكتابة الأولى والأخيرة وهي النسبية، فالكتابة كلام بشر في النهاية ليس كلام الله حتى نؤمن بمعصوميته. ومن هنا تكون الكتابة في خانة العمل الإنساني المحدود الخاضع لآلية الخطأ والصواب، ونعود لابن عربي الذي يقول: من لا لسان له لا مخاطب له. فأيّ عمل أدبي وإنساني بصورة عامة لا يمكن أن يحوز صفة العبقرية المطلقة ولا سمة الحماقة المطلقة، فالأمر نسبي يحتمل شيئا من هذا وشيئا من هذا.
في الختام، إنّ نظرية الانتحار الأدبي هي نتاج لصورة مغلوطة في المرآة سواء مرآة النقد أو القراءة أو الصحافة أو البحث الأكاديمي.. إلخ. فيجب القطع مع المرآة المحدّبة التي تضخّم الصورة فترى النملة نفسها فيلا، مرآة النقد يجب أن تكون مرآة سطحية تعكس الأحجام دون تعديا بالزيادة أو النقصان. فمنزلة النقد تقع بين الحياة والكتابة، أي بين الفن والواقع في أعقد التباساته، وفي هذا المعترك يكمن ألم الوجود.