بقلم: هيام الفرشيشي
يصور السارد المدينة بالترکیز علی بعض عناصرها وصورها، فهو ینتقی عناصر من المدینة لها دلالات معينة في نسيج النص الأدبي. فالمدينة جسم مادي محسوس يثير العواطف والأحاسيس والأفكار، يتحول إلى سفر في الذاكرة نقيس من خلاله تجارب الشخصيات مع الحياة. يشيده السارد عبر التصوير الأدبي الذي یرتقی إلى درجة الجمالیة كقيمة فنية مٶثرة حين يلعب على الوصف المجازي، بأحاسيسه وخيالاته.
جبل جلود: المدينة المهمشة المهشمة:
مدينۃ جبل جلود كما صورها “توفيق علوي” من خلال قصة “روائح جبل جلود” لا معالم واضحۃ لها غیر معالم حي ينفذ عبر الزقاق إلى مدینة هشۃ وفقيرۃ من خلال مبانيها البدائيۃ والأكواخ القصديريۃ والخيام. مدينۃ في مهب الريح، وكل علاماتها تدل على أنها آيلۃ للسقوط ومهددۃ بالاندثار حتی الريح تكتسب قوۃ مضاعفۃ وتصبح ریح صرصر.
هي مدينۃ ضحيۃ. مدينۃ حزينۃ تعاني من قسوۃ الطبيعۃ. وجه للأحزمۃ الملفوظة التي تحيط بالمدن الكبيرۃ. فهي تصور القاع المسحوق للمركز المهيمن..إذ تغيب فيها ملامح مدينۃ ببنايات صلبۃ ومعالم حديثة.
“جبل الجلود مدينة الأحواش الطينيّة والأكواخ الزنكيّة، والخيم القماشيّة التي إذا هبّت ريح صرصر طيّرت أمتعتها وحبالها وأوتادها ليحكي سكّان تونس العاصمة عن مصابها وألمها كما يحكون عن قرية دمّرتها الطبيعة في جبال أدغال إفريقيا أو غابات الأمازون رغم أنّ جبل الجلود لا تبعد عن العاصمة سوى كيلومترين”.
نكاد نقول بأنها مدينۃ دون أسوار. أحواشها تشبه ديكورات مدن سينمائية. هي أحواش مفتوحۃ عن بعضها بحيطان رهيفۃ كأنها مقذوفۃ في العراء. مفتوحۃ علی العيون والآذان القادرة علی التقاط أرهف الأصوات فهي مدينة فضاٸحیة..لا تحاكي المدن القديمۃ إلا من خلال أزقتها الضيقۃ مما يدل علی أنها محصنۃ عن الآخرين، ويصعب اقتحام دورها. فهي متشابكۃ ملتبسۃ دون وجهۃ واضحۃ..مدينۃ مفتوحۃ دون أسرار والجميع يطل على الجميع من نوافذ مشتركۃ. كل فرد عار أمام الآخر في مرايا منعكسۃ علی بعضها.
یذکر السارد إسم المدينة وموقعها فهي قریبة من العاصمة. وهی لا تتنفس جیدا ولاتعرف الرواٸح الطیبة إلا فى رأس السنة الهجریة. ثم یعرج علی طبیعة الشخصيات البسيطة في هذه المدينة المتشبثة بالتفسيرات الغیبة بحكم قربها من الولي الصالح “سيدي بالحسن الشاذلي” الذي ”أوصى العمة سعدية في المنام لتغير عادة غلق النافذة في السنة الهجرية“. کما یفسر العمدة دخان المصانع بأنه يقتل الحشرات و یقوی الفحولة، ويجمل المدينة المحروسة، مما يدل على علامة الفقر والبحث عن التفسيرات الواهية والقبول بالواقع والبحث عن مبررات ساذجة في مدينة تستنشق دخان المصانع كخراطيم قاتلة تتسلل إلى أنفاس العجاٸز والرضع والزهرات.
مدینة ساعلة..تستمر شخصياتها في العيش وقبول الواقع…
مدينة تونس فضاء لمعاناة المرأة في نص “ابنة الرئيس” لنورا عبيد:
المدینة فضاء لمعاناة المرأة العاملة التي تکافأ بالحرمان والهجر حتی وإن کانت ابنة الرٸیس أو سیدة مرموقة أو سیدة کادحة. فالمدینة فضاء للعمل والکدح تغمر مياه الأمطار أسطحها وطرقاتها لتعطل الحرکة. قضبانها الحدیدیة هي التي تربط الناس بمقرات عملهم حیث صلصلة سکة الحدید تعکس ایقاع الحیاة الحدیدی الآلی، بینما یصبح للماء معان مزدوجة فهو الکفیل بنسج طقوس الحکایات التی تسیر علی خطین مزدوجین. فالعاملة سعدیة لا تلتقی بمشغلتها وتترک لها النقود علی طاولة خشبیة فی غرفة خلفیةٖ..
وبين محطة برشلونة وشارع فرحات حشاد والتي جی آم والبحیرة الفاخرة وکراکة حلق الوادي في القطار وتحدیدا في العربة الثالثة وفي رکن قصي تتبدل أوجه المدینة بین وجه باذخ ووجه آخر عادی یومی کادح. وجه للعمل ومواجهة صعاب الحیاة المناخیة والاقتصادیة والاجتماعیة والنفسیة، ووجه آخر للرفض والاحتجاج: فالناس یرفضون کل شيء، والوجوه تکاد تکون وجها واحدا، إلا أن قانون الحیاة الآلي یجمع کل الطبقات. فهو ایقاع المدینة الذی لم تسلم من قسوته ابنة الرٸیس.
“انکسرالنّظر فاستقر بكراكة حلق الوادي، عندها انتبهت إلى صلصلة التقاء الحديد بالحديد المتباطئة”.
صلصلة القطار صوت سيكولوجي لنساء یعانین الهجر، محطات یومیة منذ ثلاثین عام أي یتکرر الحدث رغم تعاقب ثلاثة أجیال تقریبا. یجمع بین ثلاث فترات هی علامات شواهد علی تداعیات مراحل زمنیة بکل انهیاراتها وتصدعاتها فی مدینة تقطع مسافتها عبر السکک الحدیدیة التي تتبادل الأدوار والوجهات…
والمحطات هي العلامات الأساسية التي تتفرع عنها حکایات الآخرین، والمحطات أهم من البیوت والمنازل في النص. دفء البیت آني لأن الشخصیات مضطرة للعمل ومواجهة طریق الواقع والحیاة والزمن.
للطریق ایقاع الصلصلة. وهو مبقع بماء المطر. والمحطات أمکنة للأحداث في علاقة بین والراهن، أين یتمیز الایقاع بالتکرار فی ظل واقع یتنکر فیه الرجل للمرأة. تشبه المدینة أنثی حدیدیة. فما یبقی عالقا في الذهن هو برود الراویة فی تقبلها لحکایات الشخصیات.
وتشیر العلامات المکانیة إلی صورتین للطریق الذي تقطع محطاته یومیا، صورة للنضال عبر العمل وأخرى عبر الاحتجاج ورفض کل شیء وتعطیل حرکة الطریق. فلیست الطبیعة وحدها، ولا البنیة التحتیة وحدها مسٶولة عن تعطیل دورة العمل فی المدینة، بل الناس: “عمال شرکة النقل مضربون، التاکسیات مفقودة، الطریق ماٸي”
یحتفل الماء بالماء…البحیرة… حلق الوادي… دواٸر الماء توسعت على الملابس.. الماء یغور ویحول الناس والأشياء زبدا، کذلک هو حال الناس فی مدینة تتنكر للعواطف، لكن معيار الجمال في كل صورة هو المفردات اللغوية وربطها بالأحاسيس والايحاء المميز عبر لوحة متكاملة.
البعد الفني في تصوير المدينة العتيقة بسوسة في قصة “لم أنته بعد” لأحمد بن إبراهيم:
أدخلنا السارد إلى ساحة المدينة العتيقة لسوسة مساء في مناخ جمالي تستيقظ فيه الحواس المنتشية بالموسيقى وطعم الرذاذ في طقس روحي فني مطهر يغسل الأدران.تنبعث الموسيقى من الحوانيت وأصوات الباعۃ، ترفرف الترانيم في الحوانيت تشبه علب مخزنة بالألحان، وكأنها تمارس عزف المساء الشبيه بترانيم الطير عند توديع النهار. فهو فضاء لتهجي نشوة الروح والتخفيف من الإرهاق الجسدي. يتضاعف طرب الروح باستنشاق روائح الحناء والحرقوس والعنبر والبخور واللوبان في ساحة الرحبۃ ذات البلاط الحجري وحوانيت المنتوجات الصوفيۃ التقليديۃ لتضحى المدينة فضاء رحبا للانغماس في مناخات الذات المبتهجة وكأنها جذع شجرة تتفرع إلى أغصان وهي تتفرع إلى خمسۃ أنهج ضيقۃ تحتلها الظلال بأبواب خشبيۃ صلبۃ وخيالات قليلۃ الحركۃ كأنها منبثقۃ من الحيطان الخشبيۃ المرممۃ.. الأنهج الضيقۃ المسقفۃ بقبو…والمقهی القديم بمعماره العريق.. النشوة روحية في مدينۃ محافظۃ تخفي فيه المرأة الرأس والجسد بالسفساري.
صور السارد فضاء المدينۃ بحس خيالي وعبر إدراك حسي جمالي وكأنه يحرره من التصاقه بأرضيۃ الواقع وحجارته الشاهدۃ على عدم اندثار الماضي ببث الظلال والروح الهائمۃ لمرأۃ طلقت من أجل التفرغ للمسرح …فيضعنا أمام فضاء أشبه بديكور مسرحيۃ أو مشهد سينمائي.
وتتبلور شعريۃ الفضاء من شعريۃ اللغۃ عبر انتقاء مفردات شعريۃ موحيۃ. فالفضاء يعكس ما تعيشه المرأۃ من اعتناق الجمال والتطهر من قيود الواقع والطلاق من زوج محافظ لترى نفسها كغصن في شجرۃ الفن والجمال. بل تبدو مرتبطة باللاوعي الخلاق في حالات وجودية صوفية تتجلى فيها اللغة، حتى المفردات فهي تنسجم مع تلك الحالة وهي تنحت ألوانها وأشكالها وتغوص في حالۃ من النشوۃ لها خدر رذاذ طفيف…
تصميم المكان ورائحته وأشكاله ينفذ بنا إلى حالات المرأۃ في اصطدامها بقانون السوق مقابل قانون الفن في البحث عن المعنى في نص لم يجسد أمام شروط المنتجين الباحثين عن اللذۃ الجسدية.. فتنتقل من التعبير عن الأعماق الأكثر دهشة وسحرا إلى نشوة الخمر المزيفة التي جعلتها تنهار في مدينة تقاوم الاستلاب.
على سبيل الخاتمة
من خلال هذه النماذج القصصية التونسية انكشف الحيز الهندسي للمدن من خلال تصاميم العمارة بيوتها وأسواقها وساحاتها وطرقها ومحطاتها وأزقتها.
ولعبت تصامیم العمارة دورا للکشف عما یمکن فحصه من وجهات نظر مختلفة فهي هشة تفتقد إلی سقف آمن وجدران صلبة في قصة “جبل جلود”. وهي نفسية في قصة “ابنة الرئيس”. کما تشیر إلى البعد الروحي في قصة “لم أنته بعد”.
هذا المكون الهندسي هو الحاضن لبيئة انسانیة وطبيعة تشابک العلاقات. ومن خلال المسالک والأنهج والمحطات نستشف أن المدينة موضع استقرار وتنقل وسفر، سواء کانت مدینة حدیثة التکوین، أم صناعیة، أم عريقة ولها بعد حضاري.